فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كذابون في ادعاء القطع وكثير من المفسرين يقولون: المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلًا.
فائدة:
تمسك نفاة القياس بهذه الآية.
فقالوا رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن بسبب كونهم متبعين للظن، والشيء الذي يجعله الله تعالى موجبًا لذم الكفار لابد وأن يكون في أقصى مراتب الذم، والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن، فوجب كونه مذمومًا محرمًا، لا يقال لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة كان العمل به عملًا بدليل مقطوع لا بدليل مظنون لأنا نقول هذا مدفوع من وجوه: الأول: أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقليًا، وإما أن يكون سمعيًا، والأول باطل لأن العقل لا مجال له في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز، لاسيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه.
والثاني: أيضًا باطل لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعًا لو كان متواترًا وكانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد، ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة، ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة، فحيث لم يوجد ذلك علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود.
الثاني: هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة، إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين: الأول: أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا.
والثاني: أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف، فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين فهذا ما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنيًا فحينئذ لا يتم العمل بهذا القياس إلا بمتابعة الظن، وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظن مذمومة.
والجواب: لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل اعتقاد الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندًا إلى أمارة، فهذا الاعتقاد لا يسمى ظنًا.
وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال. اهـ. بتصرف يسير.

.قال السمرقندي:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} يعني: أن أكثرهم يتبعون أكابرهم بالظن، ويتبعونهم فيما لا يعلمون أنهم على الحق.
فإن قيل: كيف يعذبون وهم ظانون على غير يقين؟
قيل لهم: لأنهم اقتصروا على الظن والجهل، لأنهم اتبعوا أهواءهم ولم يتفكروا في طلب الحق.
ويقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} يعني في أكل الميتة واستحلالها {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يعني: ما هم إلا كاذبون باستحلالهم الميتة، لأنهم كانوا يقولون: ما قتل الله فهو أولى بالحل وبأكله مما نذبحه بأيدينا. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} {إِنْ} بمعنى ما، وكذلك {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي يَحْدِسُون ويقدرون؛ ومنه الخَرْص، وأصله القطع.
قال الشاعر:
ترى قِصَد المُرّان فينا كأنّه ** تَذَرُّعُ خِرصان بأيْدِي الشّواطِبِ

يعني جريدًا يُقطع طولًا ويتخذ منه الخَصْر.
وهو جمع الخرص؛ ومنه خَرَص يَخْرُص النخل خَرْصًا إذا حزره ليأخذ الخَرَاج منه.
فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين معه.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في الذاريات إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} وهو ظنُّهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم، والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل: كيف يضلون؟ فقيل: لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لا يُغني من الحق شيئًا فيضلون ضلالًا مبينًا، ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسِه فهم ضالون مضِلّون وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حكمه أي يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولدِ وجعلِ عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليلِ الميتةِ وتحريمِ البحائرِ ونظائرِها، أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِن يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال {إِلاَّ الظن} وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئًا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به، وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلًا فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، والفرق بينهما على ما قاله العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز (تجويز) النقص عليه سبحانه (لأن الظن لا يمنع من تجويز نقيض المظنون) بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حرامًا أو الحرام حلالًا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصًا عليه عز وجل فدار تجويزه بين أمرين كل (واحد) منهما كمال بخلاف الصفات.
وقال غير واحد: المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقًا فلا متمسك لنفاة القياس بها، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال: والجواب لم لا يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل (ظن) الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندًا إليها فلا يسمى ظنًا وهو كما ترى.
{وَإِنْ هُمْ} أي وما هم {إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي يكذبون.
وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري، ومنه خرص النخل خرصًا بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه وقال الإمام: المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كاذبون في ادعاء القطع؛ ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع.
وقال غير واحد: المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة و(تحريم) البحائر ونظير ذلك.
ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضًا، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جدًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ثمّ بيّن الله سبب ضلالهم وإضلالهم: بأنّهم ما يعتقدون ويدينون إلاّ عقائد ضالّة، وأديانًا سَخيفة، ظنّوها حقّا لأنّهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسُّم أدلّة الحقّ فقال: {إن يتبعون إلا الظن}.
والاتّباع: مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر: من الآرَاء والأدلّة وتقلّد ذلك.
فهذا أتمّ معنى الاتّباع، على أنّ الاتّباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنّه يتبعه.
والظنّ، في اصطلاح القرآن، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل، الّذي يحسبه صاحبه حقّا وصحيحًا، قال تعالى: {وما يتّبع أكثرهم إلاّ ظنًّا إنّ الظنّ لا يغنى من الحقّ شيئًا} [يونس: 36] ومنه قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والظَّنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» وليس هو الظنّ الّذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التّشريعية، فإنَّهم أرادوا به العلم الرّاجح في النّظر، مع احتمال الخطأ احتمالًا مرجوحًا، لتعسّر اليقين في الأدلّة التّكليفيّة، لأنّ اليقين فيها: إن كان اليقينَ المراد للحكماء، فهو متوقّف على الدّليل المنتهي إلى الضّرورة أو البرهان، وهما لا يجريان إلاّ في أصول مسائل التّوحيد، وإن كان بمعنى الإيقان بأنّ الله أمر أو نهى، فذلك نادر في معظم مسائل التّشريع، عدا ما علم من الدّين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحسّ، وهو خاصّ بما تلقّاه بعض الصّحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو حصل بالتّواتر.
وهو عزيز الحصول بعد عصر الصّحابة والتّابعين، كما عُلم من أصول الفقه.
وجملة: {إن يتبعون إلا الظن} استئناف بياني، نشأ عن قوله: {يضلوك عن سبيل الله} فبيّن سبب ضلالهم: أنّهم اتَّبعوا الشّبهة، من غير تأمّل في مفاسدها، فالمراد بالظنّ ظنّ أسلافهم، كما أشعر به ظاهر قوله: {يتبعون}.
وجملة {وإن هم إلا يخرصون} عطف على جملة: {إن يتبعون إلا الظن}.
ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيدًا للجملة التي قبلها، أو تفسيرًا لها، فتعيّن أنّ المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة: {إن يتبعون إلا الظن}.
وقد تردّدت آراء المفسّرين في محمل قوله: {وإن هم إلا يخرصون}؛ فقيل: يَخرصون يكذبون فيما ادّعوا أنّ ما اتَّبعوه يقين، وقيل: الظن ظنّهم أنّ آباءهم على الحقّ.
والخرص: تقديرهم أنفسهم على الحقّ.
والوجه: أنّ محمل الجملة الأولى على ما تلقّوه من أسلافهم، كما أشعر به قوله: {يتبعون}، وأنّ محمل الجملة الثّانية على ما يستنبطونه من الزّيادات على ما ترك لهم أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلّة مفحمة، كقولهم: كيف نأكل مَا قتلناه وقتله الكلب والصّقر، ولا نأكل ما قتله الله كما تقدم آنفًا، كما أشعر به فعل: {يخرصون} من معنى التّقدير والتّأمّل.
والخَرْص: الظنّ الناشيء عن وِجدان في النّفس مستند إلى تقريب، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه، وهو يرادف: الحزرَ، والتّخمين، ومنه خرص النّخل والكرْم، أي تقدير ما فيه من الثّمرة بحسب ما يجده النّاظر فيما تعوّدهُ.
وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنّها ظنون لا دليل عليها غير ما حَسُن لظانِّيها.
ومن المفسّرين وأهل اللّغة من فسّر الخرص بالكذب، وهو تفسير قاصر، نظرَ أصحابُه إلى حاصل ما يفيده السّياق في نحو هذه الآية، ونحو قوله: {قُتل الخرّاصون} [الذاريات: 10]؛ وليس السّياق لوصف أكثر من في الأرض بأنّهم كاذبون، بل لوصمهم بأنَّهم يأخذون الاعتقاد من الدّلائل الوهميّة، فالخرص ما كان غير علم، قال تعالى: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون} [الزخرف: 20]، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ (يكذبون) أصرح من لفظ {يخرصون}.
واعلم أنّ السّياق اقتضى ذمّ الاستدلال بالخرص، لأنّه حزر وتخمين لا ينضبط، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال: «أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التّمر».
فأخذ به مالك، والشّافعي، ومحمله على الرخصة تيسيرًا على أرباب النّخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة، فتؤخذ الزّكاة منهم على ما يقدره الخرص، وكذلك في قسمة الثّمار بين الشّركاء، وكذلك في العَريَّة يشتريها المُعري ممن أعراه، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)}
أهلُ الله قليلون عددًا وإن كانوا كثيرين وزنًا وخَطَرًا، وأمَّا الأعداء ففيهم كثرة. فإنْ لاحظْتَهُم- يا محمد- فَتَنُوكَ، وإنْ صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوكَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
و{مَن فِي الأرض} المقصود بهم المكلفون؛ لأنهم هم من يتميزون بالاختيار ولهم أوامر ونواه، فما دون الإنسان لا أمر له، و{أكثر} لا يقابلها بالضرورة كلمة قليل أو أقل، وما دام القول هو: {أكثر}. فقد يكون الباقون كثيرًا أيضًا، وأمّا كثير فإنها، تعطي له كميته في ذاته وليست منسوبة إلى غيره، ولذلك كنا نسمع من يقول: مكتوب على محطة مصر أو على المطار أو على الميناء، يا داخل مصر منك كثير، أي إن كنت رجلًا طيبًا فستجد مثلك الكثير، وإن كنت شريرًا فستجد مثلك الكثير أيضًا.
ويقول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب...} [الحج: 18]
فكل الكائنات مقهورة مسخرة، وعند الناس انقسم الأمر؛ لأن لهم اختيارًا، فراح أناس للطاعة وذهب أناس للمعصية، فلم يقل الحق: والناس. بل قال: {وكثير من الناس}، ولم يقل الحق: وقليل حق عليه العذاب، لكنه قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فهؤلاء كثير وهؤلاء كثير، وإن نظرت إليهم في ذاتهم فهم كثير، والآخرون أيضًا إذا نظرت إليهم تجدهم كثيرًا. ولماذا يقول الحق: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله}؟