فصل: تفسير الآية رقم (117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الطاعة- كما نعرف- استجابة للأمر في افعل، والنهي في لا تفعل إذا قال الحق للإنسان افعل كذا؛ فالإنسان صالح لأن يفعل، وأن لا يفعل، وإن كان هناك شيء لا تقدر عليه فلن يقول لك: افعله. والإنسان عادة حين يؤمر أو يُنهي إنما يؤمر وينهي لمصلحته، فإن لم يوجد أمام مصلحةٍ معارض من منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضًا؛ لأن الله أجاز له حرية الفعل والتّرك. ويوضح الحق: من رحمتي أن جعلت لكم تشريعًا؛ لأننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه، وسينهي كل واحد من الناس بما يخالف هواه؛ لذلك نعصم هذا الأمر بالمنهج. حتى لا يتضارب الخلق ولا يتعاكس هواك مع هوى أخيك. ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد لا هوى له، ويوجد منهج يقول للجميع افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبذلك يأتي الاستطراق لنفعهم جميعًا. ولذلك يقول الحق: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله...} [الأنعام: 116]
فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم؛ لأن الخير هو الفطرة في الإنسان، وقد جاء التشريع لينمي في صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له، ويعدل في صاحب النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة.
والذين يضلون عن سبيل الله ماذا يتبعون؟ يقول الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن}.
كل واحد منهم يظن أن هذا الضلال ينفعه الآن، ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما بعد ذلك.
والظن- كما نعلم- هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك الطرف المرجوح والظن هنا، هو ما يرجحه الهوي: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَْ} [الأنعام: 116]
وإن- كما نعرف- تأتي مرة جازمة: إن تفعلْ كذا تجدْ كذا، وتأتي مرة نافية، مثل قوله الحق: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ...} [المجادلة: 2]
أي: ما أماتهم؛ ف إن هنا نافية. وقوله الحق: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما يتبعون إلا الظن. هم إما أن يتبعوا الظن وإمّا أن يخرصوا. (فالخارص) هو من يتكلم بغير الحقيقة، بل يخمن تخمينًا، كأن ينظر إنسان إلى آخر في سوق الغلال ويسأله: كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح؟. فيرد: حوالي عشرة أرداب أو اثنى عشر أردبًا، وهو يخمن تخمينًا بلا دليل يقيني أو بلا مقاييس ثابتة، أو يقول كلامًا ليس له معنى دقيق.
فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك. لأنهم لا يملكون دليلًا علميًا، ولاحقًا يقينيًا، بل يتبعون الظن إن كان الأمر راجحًا، ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان الأمر مرجوحًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (117):

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المقام للعلم الكاشف للحقائق المبين لما يتبع وما يجتنب، قال معللًا لهذا الإخبار: {إن ربك} أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب الكاشف للارتياب الهادي إلى الصواب {هو} أي وحده {أعلم} ولكون الحال شديد الاقتضاء للعلم، قطعه عما بعده ليسبق إلى الفهم أنه أعلم من كل من يتوهم فيه العلم مطلقًا ثم قال: {من} أي يعلم من {يضل} أي يقع منه ضلال يومًا ما {عن سبيله} أي الذي بينه بعلمه {وهو} أي وحده {أعلم بالمهتدين} كما أنه أعلم بالضالين، فمن أمركم باتباعه فاتبعوه، ومن نهاكم عنه فاجتنبوه، فمن ضل أرداه، ومن اهتدى أنجاه، فاستمسكوا بأسبابه حذرًا من وبيل عقابه يوم حسابه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في تفسيره قولان: الأول: أن يكون المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو، وأن الباطل ما هو، فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم، لأنه تعالى عالم بأن المهتدي من هو؟ والضال من هو؟ فيجازي كل واحد بما يليق بعمله.
والثاني: أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون، والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على كونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل.
المسألة الثانية:
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} فيه قولان: الأول: قال بعضهم {أَعْلَمُ} هاهنا بمعنى يعلم والتقدير: إن ربك يعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
فإن قيل: فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.
قلنا: لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال.
إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين، ونظيره قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرة واحدة.
والثاني: أن موضع {مِنْ} رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام، والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله، وهذا مثل قوله تعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12] وهذا قول: المبرد والزجاج والكسائي والفراء. اهـ.

.قال القرطبي:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ}
قال بعض الناس: إن اعلم هنا بمعنى يعلم؛ وأنشد قول حاتم الطائيّ:
تحالفَتْ طيءٌ من دوننا حَلِفًا ** والله أعلم ما كنا لهم خُذُلاَ

وقول الخنساء:
الله أعلم أن جفنته ** تغدو غداة الريح أو تسرى

وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يطابق {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}.
ولأنه يحتمل أن يكون على أصله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}
لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و{من} قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف.
وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا

أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها {يضل} وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل.
وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر {يضل} والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله: {لنعلم أي الحزبين} وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو.
وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح {يضل} بضم الياء وفاعل {يضل} ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالًا أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالمًا بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير، أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين، و(من) موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه، أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر، وقرئ يُضِل بضم الياء على أن (من) فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيدًا للتحذير عن طاعة الكفرةِ. وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمُ إليها أي أعلمُ المُضِلّين من قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله} أو من قولك: أضللتُه إذا وجدتُه ضالًا فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} تقرير كما قال بعض المحققين لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين.
و{مِنْ} موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه {أَعْلَمُ} كما ذهب إليه الفارسي أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافًا لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورًا بالباء أو اللام.
ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية.
ولا يجوز أن يكون أفعل مضافًا إلى (من) لفساد المعنى.
وجوز أن تكون إستفهامية مبتدأ والخبر {يُضِلَّ} والجملة معلق عنها الفعل المقدر، وإلى هذا ذهب الزجاج.
ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الإعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين.
وقرئ {مَن يَضِلُّ} بضم الياء على أن من مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل {يُضِلَّ} ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدًا للتحذير عن طاعة الكفرة، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله} [الأعراف: 186] أو من قولك: أضللته إذا وجدته ضالًا كأحمدته إذا وجدته محمودًا، وأن تكون إستفهامية معلقًا عنها الفعل أيضًا، وأن يكون فاعل {يُضِلَّ} ضمير الله تعالى، و(من) منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أن يعلم من يضله الله تعالى، قيل: وكان الظاهر أن يقال: بالمهديين.
وكأنه وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل مولود يولد على الفطرة» بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل.
والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} تعليل لقوله: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك} [الأنعام: 116] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالّين، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم.
وكذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار: أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله، بحيث تغني غَناء فاء التّفريع، وتفيد التّعليل، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين، وهدى المهتدين، كان قوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} تذييلًا لجميع تلك الأغراض.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله: {إن ربك} لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهُدى، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مُضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربًّا لهم.
وقد قال أبو سفيان يوم أحُد: لَنَا العُزّى ولا عُزّى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبوه قولوا: «اللَّهُ مولانا ولا مولى لكم».
و{أعلمُ} اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين، ولا أحد من المهتدين، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفَى عليه دخيلة بعض الفريقين.
والضّمير في قوله: {هو أعلم} ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس، وكلّهم يعلم قصور علمه، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالِم منهم، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة.
و{مَنْ} موصولة، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله: {وهو أعلم بالمهتدين} لأنّ أفعل التّفضيل لا ينصب بنفسه مفعولًا به لضعف شبهه بالفعل، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللاّم أو بإلى، ونصبه المفعول نادر، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء، فحذفت الباء ايجازَ حذف، تعويلا على القرينة.
وإنَّما حذف الحرف من الجملة الأولى، وأظهر في الثّانية، دون العكس، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمععٍ يكون المفضّل واحدًا منهم، نحو: هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء، فلمّا كان المنصُوباننِ فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب، يلتبس المفعول بالمضاف إليه، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم، فلا يتوهّم أن يكون المعنى: الله أعلم الضّالّين عن سبيله، أي أعلم عالممٍ منهم، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال: فلان أعلم الجاهلين، لأنّه كلام مُتناقض، فإنّ الضّلال جهالة، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم، وذلك من أنواع القرينة الحاليَّة، بخلاف ما لو قال: وهو أعلم المهتدين، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ الله أعلم المهتدين، أي أقوى المهتدين علمًا، لأنّ الاهتداء من العلم.
هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله: {هو أعلم من يضل عن سبيله} من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به {أعلم}. اهـ.