فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: سره وعلانيته، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني: ظاهر الإثم: ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ...} الآية. وباطنه الزِّنى، قاله سعيد بن جبير.
والثالث: أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني، والباطن ذوات الأخدان، لأنهن كُنَّ يستحللنه سرًا، قاله السدي، والضحاك.
والرابع: أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة، وباطنه الزِّنى، قاله ابن زيد.
ويحتمل خامسًا: أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يعتقده بالقلب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ فعلى هذا، في ظاهره وباطنه قولان:
أحدهما: أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار، قاله الضحاك، والسدي.
قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالًا.
والثاني: أن ظاهره: نكاح المحرمات، كالأُمهات، والبنات، وما نكح الآباء.
وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه عام في كل إثم، والمعنى: ذروا المعاصي سرَّها وعلانيتها؛ وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج.
وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث: أن الإثم: المعصية، إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص.
قال ابن زيد: ظاهره هاهنا: نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزنا. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه}
هذا نهي عام من طرفيه لأن {الإثم} يعم الأحكام والنسب اللاحقة للعصاة عن جميع المعاصي، والظاهر والباطن يستوفيان جميع المعاصي، وقد ذهب المتأولون إلى أن الآية من ذلك في مخصص، فقال السدي: ظاهره الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله، وباطنه اتخاذ الأخدان، وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما نص الله على تحريمه من النساء بقوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23]، وقوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء: 22]، والباطن الزنا، وقال ابن زيد: الظاهر التعري والباطن الزنا.
قال القاضي أبو محمد: يريد التعري الذي كانت العرب تفعله في طوافها، قال قوم: الظاهر الأعمال والباطن المعتقد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حسن لأنه عاد ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك وتحملوا ثقله، والاقتراف الاكتساب. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} يعني وذروا أيها الناس ما يوجب الإثم وهي الذنوب والمعاصي كلها سرها وعلانيتها قليلها وكثيرها، قال الربيع بن أنس: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه أن يعمل به سرًا وعلانية وقال سعيد بن جبير: في هذه الآية الظاهر منه قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} ونكاح المحارم من الأمهات والبنات والأخوات والباطن الزنا، وقال السدي: أما الظاهر فالزواني في الحوانيت وهنَّ أصحاب الرايات.
وأما الباطن فالمرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سرًا، وقال الضحاك: كان أهل الجاهلية يستسرون بالزنا ويرون أن ذلك حلالًا ما كان سرًا فحرم الله السر منه والعلانية، وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف والباطن الزنا، وقال الكلبي: ظاهر الإثم طواف الرجال بالبيت نهارًا عراة وباطنه طواف النساء بالليل عراة وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك إلى أن جاء الإسلام فنهى الله عن ذلك كله.
وقيل: إن هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأصح لأن تخصيص العام بصورة معينة من غير دليل لا يجوز، فعلى هذا القول يكون معنى الآية وذروا ما أعلنتم به وما أسررتم من الذنوب كلها، قال ابن الأنباري: وذروا الإثم من جميع جهاته.
وقيل: المراد بظاهر الإثم الإقدام على الذنوب من غير مبالاة وباطنه ترك الذنوب لخوف الله عز وجل لا خوف الناس وقيل المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وباطنه أفعال القلوب فيدخل في ذلك الحسد والكبر والعجب إرادة السوء للمسلمين ونحو ذلك.
وقوله عز وجل: {إن الذين يكسبون الإثم} يعني إن الذين يعملون بما نهاهم الله عنه ويرتكبون ما حرم عليهم من المعاصي وغيرها {سيجزون} يعني في الآخرة {بما كانوا يقترفون} يعني بما كانوا يسكبون في الدنيا من الآثام وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب أنه مخصوص بمن لم يتب لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب العبد من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وزاد أهل السنة في ذلك، فقالوا: المذنب إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله وكرمه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وذروا ظاهر الإثم وباطنه}
{الإثم} عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه أمروا بترك {الإثم} ما فعل ظاهرًا وما فعل في خفية فكأنه قال: اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها قاله أبو العالية ومجاهد وقتادة وعطاء وابن الأنباري والزجاج.
وقال ابن عباس: ظاهره الزنا.
وقال السدي: الزنا الشهير الذي كانت العرب تفعله وباطنه اتخاذ الأخدان.
وقال ابن جبير: ظاهره ما نص الله على تحريمه بقوله: {حرمت عليكم} الآية: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الآية، والباطن الزنا.
وقال ابن زيد: ظاهره نزع أثوابهم إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة وباطنه الزنا.
وقيل: ظاهره عمل الجوارح وباطنه عمل القلب من الكبر والحسد والعجب وسوء الاعتقاد وغير ذلك من معاصي القلب.
وقيل: ظاهره الخمر وباطنه النبيذ، وقال مجاهد أيضًا: ظاهره الزنا وباطنه ما نواه.
وقال الماتريدي: الأليق أن يحمل ظاهر {الإثم وباطنه} على أكل الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه، وقال مقاتل: {الإثم} هنا الشرك وقال غيره جميع الذنوب سوى الشرك، وكل هذه الأقوال تخصصات لا دليل عليها والظاهر العموم في المعاصي كلها من الشرك وغيره، ظاهرها وخفيها ويدخل في هذا العموم كل ما ذكروه.
{إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} أي يكسبون الإثم في الدنيا سيجزون في الآخرة وهذا وعيد وتهديد للعصاة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب، وقيل: الزنا في الحوانيت واتخاذُ الأخذان {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي يكتسبونه من الظاهر والباطن {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} كائنًا ما كان فلابد من اجتنابهما، والجملةُ تعليلٌ للأمر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب كما قاله الجبائي أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روى عن الضحاك والسدي وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثمًا وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه.
قال الطيبي: وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الإتباع، وعلى الأول معترض توكيدًا لقوله سبحانه: {فَكُلُواْ} [الأنعام: 118] أولًا و{لاَ تَأْكُلُواْ} [الأنعام: 121] ثانيًا وهو الوجه، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله.
{إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} أي يكسبون من الإثم كائنًا ما كان فلابد من اجتناب ذلك، والجملة تعليل للأمر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} جملة معترضة، والواو اعتراضيّة، والمعنى: إنْ أردتم الزّهد والتقرّب إلى الله فتقرّبوا إليْه بترك الإثم، لا بترك المباح.
وهذا في معنى قوله تعالى: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله} [البقرة: 177] الآية.
وتقدّم القول على فعل (ذَر) عند قوله تعالى: {وذرِ الذين اتَّخذوا دينهم لعبًا ولهوًا} في هذه السّورة [70].
والإثم تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} في سورة [البقرة: 219].
والتّعريف في الإثم: تعريف الاستغراق، لأنَّه في المعنى تعريف للظاهر وللباطن منه، والمقصود من هذين الوصفين تعميم أفراد الإثم لانحصارها في هذين الوصفين، كما يقال: المَشرق والمغرب والبَرّ والبحر، لقصد استغراق الجهات.
وظاهر الإثم ما يراه النّاس، وباطنُه ما لا يطّلع عليه النّاس ويقع في السرّ، وقد استوعب هذا الأمر ترك جميع المعاصي.
وقد كان كثير من العرب يراءون النّاس بعمل الخير، فإذا خلوا ارتكبوا الآثام، وفي بعضهم جاء قوله تعالى: {ومن النّاس مَن يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام وإذا تولَّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد وإذا قيل له اتَّق الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد} [البقرة: 204، 206].
{إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ}.
تعليل للأمر بترك الإثم، وإنذارٌ وإعذار للمأمورين، ولذلك أكَّد الخبر بـ (إنّ)، وهي في مثل هذا المقام، أي مقام تعقيب الأمر أو الإخبار تفيد معنى التّعليل، وتغني عن الفاء، ومثالها المشهور قول بشار:
إنّ ذاك النّجاحَ في التّبكير

وإظهار لفظ الإثم في مقام إضماره إذ لم يقل: إنّ الّذين يكسبونه لزيادة التّنديد بالإثم، وليستقرّ في ذهن السّامع أكمل استقرار، ولتكون الجملة مستقلّة فتسير مسير الأمثال والحكم.
وحرف السّين، الموضوع للخبر المستقبل، مستعمل هنا في تحقّق الوقوع واستمراره.
ولمّا جاء في المذنبين فعلُ يكسبون المتعدي إلى الإثم، جاء في صلة جَزائهم بفعل (يقترفون)، لأنّ الاقتراف إذا أطلق فالمراد به اكتساب الإثم كما تقدّم آنفًا في قوله تعالى: {وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 113]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في ألا تقع عين أحد على مخالفة من أحد، وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل الفساد في المجتمع؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة لا تقع تحت دائرة الإِدراكات. وهناك أشياء تكون في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل النزوع؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم باطن، والإِثم الباطن سابق على الإِثم الظاهر. والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الإِثم، ولكن منهج السماء يحمينا من فساد ظاهر الإِثم وباطن الإثِم.
ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الإِله، فسبحانه رقيب على مواجيدكم ووجداناتكم وسرائركم، فإياكم أن تفعلوا باطن الإِثم، ولا يكفي أن تحمي نفسك من أن يراك القانون؛ لأن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا بالجريمة ويقترفوها علانية، والفرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض أن تشريع الأرض يحمي الناس من ظاهر الإِثم، ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الإِثم وباطن الإِثم، وباطن الإِثم هو أعنف أنواع الإِثم في الأرض.
وبعض أهل الاكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون أمرًا قد تعودوا عليه بلا افتعال.
وكسب- كما نعلم- تأتي بالاستعمال العام للخير، واكتسب تأتي للشّر لأن الخير يكون فيه الفعل العملي رتيبًا مع كل الملكات، ولا افتعال فيها، فمن يريد- مثلًا- أن يشتري من محل ما فهو يذهب إلى المحل في وضح النهار ويشتري. لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيبًا آخر، وهذا افتعال، لكن الافتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه لا يتطلب انفعالًا، لأنه قد أضحى لونًا من الكسب. و{يكسبون} تدل على الربح؛ لأن كسب تدل على أنك أخذت الأصل والزيادة على الأصل، والإنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه مقومات الحياة ويأخذ أجر الآخرة زائدًا، وهذا هو قمة الكسب.
ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعًا هو بصدد الحاجة إليه، ولكن الإنسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه، ثم ينشأ من ذلك الفعل ضرر بعد ذلك؛ لذلك يحمي الله الإنسان المؤمن بالمنهج حتى يمييز بين ما يحقق له الغرض الحالي ويحقق نفعًا ممتدًا ولا يأتي له بالشر وما يحقق له نفعًا عاجلًا ولكن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة، إننا نجد الذين يصنعون السيئات ويميلون للشهوات- مثلًا- يحققون لأنفسهم نفعًا مؤقتًا، مثل التلميذ الذي لا يلتقفت إلى دروسه، والذي ينام ولا يستيقظ، والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع في الشوارع، هي في ظاهر الأمر يحقق لنفسه راحة، لكن مآله إلى الفشل.
بينما نجد أن من اجتهد وجدَّ وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي لا تعقبه ندامة. {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]
ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر، ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام الله وهو العليم بظاهر الإثم وباطن الإثم؟
فالذي يصون المجتمع- إذن- هو التقنين السماوي، فالمنهج لا يحمي الإنسان ممن حوله فحسب ولكنه يقنن لحركة الإنسان لتكون صحيحة.
ويعود الحق بعد ذلك إلى قضية الطعام فيقول: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عليه...}. اهـ.