فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْدًا كان أو نسيانًا، وإليه ذهب داودُ، وعن أحمدَ بنِ حنبل مثلُه، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه السلام: «ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسمَ الله عليها» وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسقَ ما أُهل به لغير الله والضميرُ لما، ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا، والجملةُ مستأنفةٌ وقيل: حالية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} أي من الحيوان كما هو المتبادر، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية، عمدًا كان أو نسيانًا، وإليه ذهب داود.
وعن أحمد والحسن وابن سيرين والجبائي مثله، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر.
وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونًا أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه.
وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه، وما ذكرناه هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدري بشعابها.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك، قال العلامة الثاني: إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن متروك التسمية ناسيًا فقال عليه الصلاة والسلام: «كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم» ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة، وإما لأنه ترك التسمية عمدًا فكأنه نفى ما في قلبه، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقًا وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره، ثم قال: فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون {لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} وهو الترك لكونه الأقرب، ومعلوم أن الترك نسيانًا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد.
واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقًا لاسيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] مع أن القرآن يفسر بعضه بعضًا سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسيمة عليها ليس بفسق، وبعضهم أرجع الضمير إلى (ما) بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لابد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمدًا إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضًا ومما تقدم يعلم ما فيه.
وذكر العلامة للشافعي في دعوى حل متروك التسمية عمدًا أو نسيانًا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوهًا الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنًا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهل به لغير الله تعالى.
الثاني: أن قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدًا كان أو سهوًا إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد.
الثالث: أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا يحسن عطف الخبر على الإنشاء، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه: {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} فيكون النهي عن الأكل مقيد بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة.
وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية.
وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية.
واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول، وبأن التأكيد بإن.
واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتة والرد على منكر تحقيقًا أو تقديرًا على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقًا فلا يحسن وإنه لفسق بل وهو فسق.
ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة.
وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ما أهل به لغير الله وبقوله جل شأنه: {وَإِنَّ الشياطين} إلخ الميتة فيتحقق قولهم: إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه.
وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبًا كأنه قيل: لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبًا إن شاء الله تعالى.
واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه {وَلاَ تَأْكُلُواْ} والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عام لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدًا أو سهوًا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية.
والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصًا في السبب ظاهرًا باقيًا على ظهوره فيما عداه.
وأنه لابد لمبيح منسى التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور.
ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصًا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط عن أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفي به منه لولا السبب انتهى.
ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرًا بما ذكره العلامة قبل.
وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدًا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيًا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدًا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله تعالى: إن متروك التسمية عامدًا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفًا للإجماع وإن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانًا إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكرًا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان.
وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة: إن التسمية لو كانت شرطًا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة.
والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو عن متانة، وقول الأصفهاني كما في المستصفى أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام، الأولى: (118) {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} والثانية: (119) {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} والثالثة: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} وثلاث في سورة الحج، الأولى: (82) {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ معلومات على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} والثانية: (43) {وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسم الله} والثالثة: (63) {والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} وآية (4) في المائدة {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} من الفحش في حق هذا الإمام القرشي، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره، وبالجملة الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال.
وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانًا كان أو غيره حرام، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} معطوفة على جملة: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118].
و(ما) في قوله: {مما لم يذكر اسم الله عليه} موصولة، وما صْدق الموصول هنا: ذَكِيَ، بقرينة السّابق الّذي ما صْدقه ذلك بقرينة المقام.
ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه، وهو الميتة، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه.
فمعنى: {لم يذكر اسم الله عليه}: أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصدًا وتجنّبا لذكره عليه، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله، وهو يساوي كونه لغير الله، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله، كما تقدّم بيانه عند قوله: {فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 118].
وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا: {وإنه لفسق} وقوله في الآية الآتية: {أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به} [الأنعام: 145]، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا: هو الّذي وصف به هنالك، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به، وبقرينة تعقيبه بقوله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى، ولا يكون بترك التّسمية.
وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام، فيكون المقصود من الآية: تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم.
فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق، كان اسم الموصول مرادًا به شيء معيّن، لم يذكر اسم الله عليه، فكان حكمها قاصرًا على ذلك المعيّن، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة، ولا كونها شرطًا أو غير شرط بله حكم نسيانها.
وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول، واعتددنا بالموصول صادقًا على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ، فلا يخصّ بصورة السّبب، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة.
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال: أحدها: أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافًا أو تجنّبا لها لم تؤكل، وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه، (وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر) فهذه ذبيحة لا تؤكل.
ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان، إعمالًا لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس.
وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها، فقال مالك، في المشهور، وأبو حنيفة، وجماعة، وهو رواية عن أحمد: لا تؤكل.
ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق.
الثّاني: قال الشّافعي، وجماعة، ومالك، في رواية عنه: تؤكل، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسدًا للإباحة.
وفي الكشاف أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه.
وفي أحكام القرآن لابن العربي، عن إمام الحرمين: ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب، والذبحُ ليس بقربة.