فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات:

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ}
هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله: {أنها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109] وكان المستهزؤن بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلًا أي كفيلًا على ما تدعيه، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد: يقال لقيت فلانًا قبلًا وقبلًا ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج: قبلًا بكسر القاف معناه معاينة. روي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله: أكان آدم نبيًا؟ قال: نعم، كان نبيًا كلمه الله تعالى قبلًا، وأما قبلًا بضمتين فقيل: إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدًا من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلًا قبيلًا. أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق، ومنها حي ومنها ميت، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفارة كان ذلك من أعظم المعجزات، أما قوله تعالى: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} إيمانهم، فقد قالت الأشاعرة: فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم، وقالت المعتزلة: لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعًا لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر.
فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري. والمعنى: ما كانوا ليؤمنوا إيمانًا اختياريًا إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون، وزيف بأن الاختيار لابد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي: قوله: {إلا أن يشاء الله} يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. وأجيب بأنها قديمة إلا أن تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله: {ولكن أكثرهم يجهلون} قالت الأشاعرة: أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره. وقالت المعتزلة: إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارًا عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات.
ثم قال: {وكذلك} قيل: إنه منسوق على قوله: {وكذلك زينا} [الأنعام: 108] أي وكما زينا لكل أمة عملهم {جعلنا} وقيل: إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر. قالت الأشاعرة: لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر، وأن جعلها شرفًا لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله. قال الجبائي: المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله. وقال الكعبي: إنه أمر الأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدًا إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببًا للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى، وانتصاب {الشياطين} كما مر في قوله: {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] قال الزجاج وابن الأنباري: {عدوّا} في معنى الجمع، ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوًّا واحدًا: إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحدة من الأنبياء أكثر من عدو واحد.
عن ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه. «روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله قال لأبي ذر: هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن» وقيل: إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين. وعن مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا. ومعنى الإيحاء الإيمان أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. و{زخرف القول} ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعًا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقًا للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادرًا من الملك وإلا كان مزخرفًا أي يكون باطنه فاسدًا وظاهره مزينًا، قال الواحدي: {غرورًا} نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. {ولو شاء ربك ما فعلوه} استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. {فذرهم وما يفترون} منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس: يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. قال الجوهري: صغا يصغو ويصغي صغوًا أي مال، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغيًا، واللام في {ولتصغي} لابد لها من متعلق فقالت الأشاعرة: التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوًّا للنبي لتميل {إليه} أو إلى قوله المزخرف {أفئدة} الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي {وليرضوه} وليختاروه على أنفسهم {وليقترفوا} وليكتسبوا من الآثام {ما هم مقترفون} وقال الجبائي: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} [الإسراء: 14]. وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. وقال الكعبي: هي لام العاقبة تقديره: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوًا. وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع {غرور} والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه. وههنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا: البنية ليست شرطًا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به. وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: {أفغير الله أبتغي حكمًا} الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله: {أفغير الله أبتغي حكمًا} يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكمًا فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وآله حقًا، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} ثم قال: {فلا تكونن من الممترين} والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل: الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله: {ولا تكونن من المشركين} [الأنعام: 14] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.
ثم لما بين أن القرآن معجز قال: {وتمت كلمة ربك} أي القرآن.
وقوله: {صدقًا وعدلًا} مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علمًا وعملًا، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف؛ فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرًا سميعًا بصيرًا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى: {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات عن النبوات وأقسام المعجزات، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار. والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكًا أو بشرًا أو شيطانًا، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربي الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى. فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقًا إن كان من باب الخبر وعدلًا إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن. وقيل: إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لابد أن يكون واقعًا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال: {لا مبدل لكلماته} والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالًا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة ألبتة لجلاء الدلالة ووضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النساء: 82] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيًا وبالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} والمضل لابد أن يكون ضالًا ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق.
ثم قال: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا. وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرًا. وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندًا إلى إمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} والمراد أنك بعدما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال، قال النحويون: إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [القلم: 7] وهذا هو الأصل، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيهًا على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل أفعل من يستعمل مع الماضي نحو أعلم من دب ودرج وأحسن من قام وقعد وأفضل من حج واعتمر. فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى عن ذلك. وجوّز بعضهم أن يكون من للاستفهام كقوله: {لنعلم أي الحزبين أحصى} [الكهف: 12] ثم قال: {فكلوا} والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال الله سبحانه للمسلمين: إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله. فإن قيل: إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه، وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وبقوله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 145] أو نقول: المراد اجعلوا أكلكم مقصورًا على ما ذكر اسم الله عليه، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم. أما قوله: {وقد فصل لكم} فأكثر المفسرين قالوا: المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] إلى آخر الآية، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدمًا على هذا المجمل بل الأولى أن يقال: المراد قوله تعالى بعد هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا} [الأنعام: 145] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. وقوله: {إلا ما اضطررتم} أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة {وإن كثيرًا ليضلون} المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالًا، وقد يكون الضال غير مضل، قيل: إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة. وقوله: {بأهوائهم بغير علم} يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة، وقال الزجاج: المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله. وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} فيجازيهم عليها وفيه من التهديد ما فيه.