فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ} إلَى قَوْلِهِ: {لَمُشْرِكُونَ}».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَقْضِي بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا يُؤْكَلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ، بَيْدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُكْمَيْنِ بِنَصَّيْنِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا بِكَلَامَيْنِ صَرِيحَيْنِ، فَقَالَ فِي الْمُقَابِلِ الثَّانِي: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}.
الْمَعْنَى: مَا الْمَانِعُ لَكُمْ مِنْ أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ، وَأَوْضَحَ لَكُمْ الْمُحَلَّلَ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْك مَعْنًى خَاصِّيًّا أَبَاحَ مَا سِوَاهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ، فَكَيْفَ يُقَابَلُ ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَإِيضَاحِهِ وَشَرْحِهِ بِهَوًى بَاطِلٍ وَرَأْيٍ فَاسِدٍ، صَدَرَا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَا بِاعْتِدَاءٍ وَإِثْمٍ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}.
الْمَعْنَى: قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ فَذَرُوهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ: سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ: قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
الثَّانِي: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا.
الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ مِنْ الزَّوَانِي، وَبَاطِنُهُ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ.
الرَّابِعُ: ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الْعُرْبَانِ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ ظَاهِرُ الْإِثْمِ الْخَمْرُ، وَبَاطِنُهُ الْمُثَلَّثُ وَالْمُنَصَّفُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا سَادِسًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ وَاضِحَ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَبَاطِنُهُ الشُّبُهَاتِ وَمِنْهَا الذَّرَائِعُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يَعْنِي: فَمُطْلَقُ سَبَبِ الْآيَةِ الْمَيْتَةُ، وَهِيَ الَّتِي قَالُوا هُمْ فِيهَا: وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ.
فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: لَا تَأْكُلُوا مِنْهَا؛ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، وَقَصْرُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى السَّبَبِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَقِلًّا دُونَ عَطْفِهِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لُغَةً وَلَا حُكْمًا.
قُلْنَا: قَدْ آنَ أَنْ نَكْشِفَ لَكُمْ نُكْتَةً أُصُولِيَّةً وَقَعَتْ تَفَارِيقَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّفْتهَا جُمْلَةً مِنْ فَكٍّ شَدِيدٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ: مَهْمَا قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ، هَلْ يَقْصُرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّا لَا نُخْرِجُ السَّبَبَ عَنْهُ، بَلْ نُقِرُّهُ فِيهِ، وَنَعْطِفُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَا نَمْتَنِعُ أَنْ يُضَافَ غَيْرُهُ إلَيْهِ إذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ؛ فَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بِعُمُومِ لَفْظِهِ، وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِوُرُودِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْآلِهَةِ الْمُبْطَلَةِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَبِزِيَادَةِ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ هَذَا اللَّفْظَ عُمُومًا وَمَعْنَاهُ تَنْبِيهًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ نَصًّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}، فَقَدْ تَوَارَدَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالتَّنْبِيهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ أَوَّلًا.
وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا مِنْ الذَّبَائِحِ أَمْ لَا؟ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا قَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ، وَلَكِنَّنَا نُشِيرُ فِيهَا هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ؛ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُكِلَتْ.
وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ قَالَهُ فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَعِيسَى، وَأَصْبَغُ.
الثَّانِي: إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا تُؤْكَلُ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ أَكْلُهَا؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، وَأَحْمَدُ.
الرَّابِعُ: إنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كُرِهَ أَكْلُهَا وَلَمْ تُحَرَّمْ؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ، وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
الْخَامِسُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ.
السَّادِسُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَتْهَا الشَّرِيعَةُ.
فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}.
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} نَهْيٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ؛ لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ الْحَرَامَ الْمَحْضَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ.
وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ».
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ».
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ».
وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَالِبَةٌ عَالِيَةٌ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ.
وَأَعْجَبُ لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا: وَذِكْرُ اللَّهِ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ.
قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، كَمَا قُلْنَا.
الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكْنَةٍ، حَتَّى فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُ: بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الذَّبِيحَةَ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَك، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُضَادُّ النِّسْيَانَ، وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ، فَمَحَلُّ الذِّكْرِ الْقَلْبُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ»، وَلِهَذَا تُجْزِئُهُ الذَّبِيحَةُ إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ تَعْوِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
قُلْنَا: الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَاَلَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ تَسْمِيَةَ الْأَصْنَامِ وَالنُّصُبِ بِاللِّسَانِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْأَلْسِنَةِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ، حَتَّى قِيلَ لِمَالِكٍ: هَلْ يُسَمِّي اللَّهَ إذَا تَوَضَّأَ؟ فَقَالَ: أَيُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ؟ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ وَمَوْضُوعَهَا إنَّمَا هُوَ فِي الذَّبَائِحِ لَا فِي الطَّهَارَةِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ.
وَأَمَّا النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَلَيْسَ النَّاسِي فَاسِقًا بِإِجْمَاعٍ، فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْمُتَعَمِّدُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ إنْ أَكَلَهَا إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا.
قُلْنَا: قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَصَرَّحْنَا فِيهِ بِالْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ إذَا أَضْجَعَ الذَّبِيحَةَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَلْبِي مَمْلُوءٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَلَا أَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ بِلِسَانِي: فَذَلِكَ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ.
وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ صَرِيحَةً، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، فَهَذَا يُجْزِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبٍ يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ اجْتِهَادًا لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ وَتَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَهُ.
وَإِنْ قَالَ: لَا أُسَمِّي، وَأَيُّ قَدْرٍ لِلتَّسْمِيَةِ؟ فَهَذَا مُتَهَاوِنٌ كَافِرٌ فَاسِقٌ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَأَمَّا عَلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا تَشْخِيصَ لَهَا.
وَاَلَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّاسِي أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ، لِاسْتِحَالَةِ خِطَابِ النَّاسِي؛ فَالشَّرْطُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ} سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ إلْهَامٍ وَحْيًا، وَهَذَا مِمَّا يُطْلِقُهُ شُيُوخُ التَّصَوُّفِ، وَيُنْكِرُهُ جُهَّالُ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوَحْيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَأَنَّ إطْلَاقَهُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ فِي دِينِ اللَّهِ، أَوْ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمَّى إلْهَامَ الشَّيَاطِينِ وَحْيًا؛ وَكُلُّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ؛ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّرِّ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الشَّيْطَانِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْخَيْرِ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الْمَلَكِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ: لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ».
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِيُجَادِلُوكُمْ} الْمُجَادَلَةُ دَفْعُ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ بِالْقُوَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَجْدَلِ: طَائِرٌ قَوِيٌّ، أَوْ لِقَصْدِ الْمُغَالَبَةِ؛ كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ، وَيَكُونُ حَقًّا فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَبَاطِلًا فِي نُصْرَةِ الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِطَاعَةِ الْمُشْرِكِ مُشْرِكًا إذَا أَطَاعَهُ فِي اعْتِقَادِهِ: الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ؛ فَإِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَعَقْدُهُ سَلِيمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ عَاصٍ.
فَافْهَمُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.من فوائد الخطيب الشربيني في الآية:

قال رحمه الله:
{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}
قال ابن عباس: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمدًا أم نسيانًا وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقًا، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامدًا لم تحل أو ناسيًا حلت وهو مذهب مالك، ومن قال بالإباحة مطلقًا قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى: {وإنه لفسق} أي: ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا} إلى قوله: {أو فسقًا أهل لغير الله به} [الأنعام] والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضًا في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قالوا: يا رسول الله إنّ هنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» فلو كانت التسمية شرطًا للإباحة لكان الشك في وجودها مانعًا من أكلها كالشك في أصل الذبح {وإنّ الشياطين ليوحون} أي: يوسوسون {إلى أوليائهم} من الكفار {ليجادلوكم} في تحليل الميتة بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة {وإن أطعتموهم} أي: باستحلال ما حرم {إنكم لمشركون} أي: مثلهم في الشرك، قال الزجاج: فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئًا مما حرّم الله أو حرّم شيئًا مما أحلّ الله فهو مشرك. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)}
نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب ابن عمر، ونافع مولاه، والشعبي، وابن سيرين وهو رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل، وبه قال أبو ثور، وداود الظاهري أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية.
ولقوله تعالى في آية الصيد: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ويزيد هذا الاستدلال تأكيدًا قوله سبحانه في هذه الآية: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، الأمر بالتسمية في الصيد وغيره.