فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد رواه ابن جرير من وجه آخر، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال: حدثني بن سِنان القزاز، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشْرَح صدره؟ قال: «يدخل الجنة فينفسح». قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت».
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء، والأكثرون: {ضَيِّقًا} بتشديد الياء وكسرها، وهما لغتان: كَهَيْن وهَيّن. وقرأ بعضهم: {حَرَجًا} بفتح الحاء وكسر الراء، قيل: بمعنى آثم. وقال السُّدِّي. وقيل: بمعنى القراءة الأخرى {حَرَجًا} بفتح الحاء والراء، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج: ما الحرجة؟ قال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية، ولا وحشية، ولا شيء. فقال عمر، رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.
قال الذهبي في تلخيص المستدرك: عدى ساقط.
وقال العَوْفي عن ابن عباس: يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وقال مجاهد والسُّدِّي: {ضَيِّقًا حَرَجًا} شاكا. وقال عطاء الخراساني: {ضَيِّقًا حَرَجًا} ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن المبارك، عن ابن جُرَيْج {ضَيِّقًا حَرَجًا} بلا إله إلا الله، حتى لا تستطيع أن تدخله، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جُبَيْر: يجعل صدره {ضَيِّقًا حَرَجًا} قال: لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا.
وقال السُّدِّي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء. وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه، حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الأوزاعي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول: فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته.
وقال في قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} يقول: كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله، فيغويه ويصده عن سبيل الله.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: الرجس: الشيطان. وقال مجاهد: الرجس: كل ما لا خير فيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرجس: العذاب. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}
نجد من يقول إن ربنا حين يريد لإنسان أن يشرح صدره للإسلام فذلك من إرادة الله وما ذنب المكلف إذن؟.
وللرد على هذا نقول: لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان: المعنى الأول: الدلالة وهي أمر وارد وواجب حتى للكافر. فإن هُدى الله للكافر أن يدلّه إلى طريق الخير، ولكن هناك هداية من نوع آخر وهي للذي آمن، ويصبح أهلًا لمعونة الله بأن يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له ويجعله يعشق كل الأوامر ويعشق البغض والتجافي عن كل النواهي.
يقول بعض الصالحين: اللهم إني أخاف ألا تثيبني على طاعة، لأني أصبحت أشتهيها كأنه عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليقًا، لذلك فهو خائف، وكأنه قد فهم أنه لابد ان توجد مشقة، ولمثل هذا لإنسان الصالح نقول: لقد فقدت الإحساس بمشقة التكليف لأنك عشقته فألفت العبادة كما ألفتك وعشقتك، وحدث الانجذاب بينك وبين الطاعة، وجعلت رسول الله مثلًا لك وقدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرى أنه إذا نودي إلى الصلاة يقوم الناس إليها كسالى لكنه صلى الله عليه وسلم يقول لبلال حينما يأتي وقت الصلاة: «أرحنا بها يا بلال».
وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلاة الآن حيث يقول الواحد منهم: هيا نصل لنزيحها من على ظهورنا، وهؤلاء يؤدونها بالتكليف لا بالمحبة والعشق. أما الذين ألفوا الراحة بالصلاة حينما يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم، ويقول الواحد منهم: مادامت الصلاة تريح القلب، فلأذهب إليها وألقى ربي زائدًا على أمر تكليفه لى متقربا إليه بالنوافل، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى حزبه أن الأسباب البشرية لا تنهض به. فيقوم إلى الصلاة، وهذا أمر منطقي، لله المثل الأعلى.
كان الإنسان منا وهو طفل إذا ما ضايقه أمر يذهب إلى أبيه، فما بالنا إذا ما ضايقنا أمر فوق الأسباب المعطاة لنا من الله فلمن نروح؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة.
إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلاوة الطاعة، وقد يجوز أنه شاق عليك؛ لأنه يخرجك أولًا عما ألفت من الاعتياد. فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول: إن هذه المشقة إنما يريد بها لي حسن الجزاء، فإذا ما عشقت الصلاة صارت حبًا لك، وكان واحد من الصالحين- كما قلت- يخاف ألا يثاب على الصلاة لأنها أصبحت شهوة نفس، والإنسان مطالب بأن يحارب نفسه في شهواتها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لنا المثل فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعًا لما جئت به» أي يصبح ما يشتهيه موافقًا لمنهج الله، فإذا وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي.
وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان: هداية بمعنى الدلالة، وهداية بمعنى المعونة.
فإذا ما اقتعنت بهداية الدلالة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف ويجعلك عاشقًا لها، ولذلك يقول أهل الصلاح: ربنا قد فرض علينا خمس صلوات، وسبحانه يستحق منا الوقوف بين يديه أكثر من خمس مرات، وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان ونصف بالمائة، وسبحانه يستحق منا أكثر من ذلك لأنه واهب كل شيء، وهذا عشق التكليف، وهذا هو معنى قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}.
{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يدلّه سبحانه كما دل كل العباد إلى المنهج، لكن الذي اقتنع بالدلالة وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقًا لقوله الحق: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} [مريم: 76]
فهذه هداية المعونة، وفيه فرق هنا بين الإِسلام والإِيمان لأن الإِيمان لا يحتاج فقط إلى الاعتقاد؛ إنما هو حمل النفس على مطلوبات الإِيمان. ولذلك نجد أن كبار رجال قريش رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ لأنهم علموا أنها ليست مجرد كلمة تقال، ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف الناتجة عنها ب افعل ولا تفعل. فالتكليف يقول لك: افعل لشيء هو صعب عليك، ويقول لك: لا تفعل في شيء من الصعب أن تتركه، لذلك يقول سبحانه: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125]
وسبحانه يشرح صدره للإِسلام بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن بها، فيأتي إلى فهم التكاليف؛ لأن صحيح الإِسلام يقتضي الانقياد لأمور التكاليف، فمن أخذ الهداية الأولى وآمن بربه، يوضح له سبحانه: آمنت بي وجئتني؛ لذلك أخفف عنك تبعات العمل، ويشرح صدره للإِسلام، وشرح الصدر قد يكون جزاءً. فسبحانه هو القائل: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]
فقد جازاه ربنا بذلك؛ لأنه أدّى ما عليه وصمد. كأن الله يريد بالإِيمان من المؤمن أن يقبل على الحق، وحينما يقبل على الحق، يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب منه فيعلم أنها التكاليف، فإذا رأى الله منك الاستعداد المتميز لقبول التكاليف، فإنّه يخففها عنك لا بالتقليل منها، ولكن بأن يجعلك تشتهيها، وقد تلزم نفسك بأشياء فوق ما كلفك الله؛ لتكون من أهل المودة ومن أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع الله في ود، وتلتفت لنفسك وأنت تقول: لقد كلفني الله بالقليل وسبحانه يستحق الكثير. فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائمًا الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها».
أي بالأمور التي تزيد على ما كلفه في الصلاة والزكاة والصيام والحج.
إذن فمعنى {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} أي يجعل الأمور التي يظن بعض من الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلقه مُثُلًا للناس. فنجد المال عزيزًا على النفس حريصة عليه لأنه إن كان المال قد جاء بطريق شرعه الله وأحله فهو يأتي بتعب وبكدّ؛ لذلك يحرص عليه الإِنسان، فيحنن الله العبد من أجل البذل والعطاء.
إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لأن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى الثواب من الله، فيقول العبد المؤمن للسائل: مرحبًا بمن جاء ليحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة، ولذلك عندما جاء مسلم إلى الإِمام عليّ- رضي الله عنه وكرّم الله وجهه-، قال المسلم: أنا أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ واختار الإمام عليّ مقياسًا للإِيمان في نفس كل مؤمن، وقال له: إن جاءك من يطلب منك، وجاء من يعطيك، فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة؛ لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب.
إذن ف {يشرح صدره للإسلام} أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث لا توجد مشقة، ثم يرتقي بعد ذلك ارتقاءً آخر بأن يعشقه في التكليف. ويهديه الله إلى طريق الجنة، لأن هناك هداية إلى المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج، ولذلك نجد القرآن يقول؛ عمن ضلوا: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيرًا} [النساء: 168-169]
كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء، ونجد الحق يقول: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4-6]
وقد يتساءل إنسان: كيف يهدي الله من قتل، وهل هناك تكليف بعد القتل؟. نقول: انظر إلى الهداية، إنها هداية الجزاء {سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم}.
وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء، من يحسن العمل يُجزِه الله الجنة، أما من يسيء فله عذاب في الدنيا والآخرة. {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السماء كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]
وهل هذا تجن من الله على خلقه؟ لا، لأنه مادام دعاهم للإيمان فآمن بعضهم وصاروا أهلًا للتجليات، وكفر بعضهم فلم يؤمنوا، فصاروا أهلًا للحرج وضيق الصدر.
ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته، فحين يقال: ضاق البيت بي وبعيالي، فهذا يعني أن الرجل وزوجه في البداية عاشا في غرفتين، وكان البيت متسعًا. ثم انجبا عيالًا كثيرة فضاق بهم البيت. وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران ومساحة البيت، لكن حين زاد عدد الأفراد شعر رب الأسرة بضيق المنزل. ويقال: صدره ضيّق أوضيْق فقد ورد في القرآن لفظ ضيق على لغتين: فالحق يقول: {.. وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]
وهناك في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضَيّق، والحق يقول: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ...} [هود: 12]
فما المراد من ضائق، وضيَق، وضيْق؟. نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين الأساسيتين في التكوين: القلب والرئة، والرئة هي الجارحة التي لا تستمر الحياة الا بعملها؛ فقد تبطئ الأمعاء مثلا، أو تتوقف قليلا عن عملها، ويتغذى الإنسان على خزينته من الدهن أو اللحم ولذلك يصبر الإنسان على الجوع مدة طويلة، ويصبر على الماء مدة أقل، لكنه لا يصبر على افتقاد الهواء لدقائق، ولا صبر لأحد على ترك الشهيق والزفير.
ولقد قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد يملكّ بعضًا قوت بعض. وأقل منه أن يملِّك بعضا ماء بعض، لكن أيملّك أحدًا هواء أحد؟ لا؛ لأن الرضا والغضب أغيار في النفس البشرية. فإذا غضب إنسان على إنسان، وكان يملك الهواء وحبسه عنه فالإنسان يموت قبل أن يرضى عنه هذا الآخر، ولذلك لم يملّك الله الهواء لأحد من خلقه أبدًا.
إذن كل المسألة المتعلقة بقوله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} نعلم عنها أن الصدر هو محل التنفس، والرئة تأخذ الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، وعندما يصاب الإنسان بنوبة برد نراه وهو يجد صعوبة في التنفس، كأن حيّز الصدر صار ضيقًا، فلا يدخل الهواء الكافي لتشغيل الرئتين، ويحاول الإنسان أن يعوض بالحركة ما فاته فينهج. ويشخص الأطباء ذلك بأن المريض يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء فينهج؛ لأن الحيّز قد ضاق، وكذلك عندما يصعد الإنسان سلمًا، ينهج أيضًا؛ لأن الصعود يحتاج إلى مجهود، لمعاندة جاذبية الأرض، فالأرض لها جاذبية تشد الإنسان، ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى أعلى ويقاوم الجاذبية.
إننا نجد نزول السلم مريحًا؛ لأن في النزول مساعدة للجاذبية، لكن الصعود يحتاج إلى جهد أكثر، فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادرًا على أن يأخذ الهواء بالتنفس بطريقة تريح الجسم، ولذلك يقال: فلان صدره ضيق أي أن التنفس يجهده إجهادًا بحيث يحتاج إلى هواء أكثر من الحجم الذي يسعه صدره.