فصل: فصل نفيس لابن القيم في أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال العجَّاج: [الزجر]
عَايَنَ حَيَّا كَالحِرَاجِ نَعَمُهْ

الحِراج: جَمْع حِرْج، وحِرْج جَمْع حَرَجَة، ومن غَريب ما يُحكَى: أن ابْن عَبَّاس قرأ هذه الآية، فقال: هل هُنَا أحَدٌ من بَنِي بَكْرِ؟ فقال رَجُلٌ: نعم، قال: ما الحَرَجَة فِيكُم؟ قال: الوَادِي الكَثِير الشًّجَر المسْتَمْسِكُ؛ الذي لا طريقَ فيه.
فقال ابن عبَّاس: فَهَكَذَا قَلْبُ الكَافِرِ هذه رواية عُبَيْج بن عُمَيْر.
وقد حَكَى أبو الصَّلْت الثَّقْفِي هَذِهِ الحكَايَة بأطْوَال مِنْ هذا، عن عُمَر بن الخطابِ، فقال: قرأ عُمِر بن الخطَّابِ هذه الآية فقال: ابْغُونِي رَجُلًا من بَنِي كِنَانَة، واجْعَلُوه راعِيًا فأتوهُ به، فقال لَهُ عُمر: يا فتى ما الحَرَةُ فِيكُم؟ قال: الحَرَجَةُ فِينَا الشًّجَرةُ تُحْدِقُ بها الأشْجَارٌ فلا تَصِلُ إليها رَاعِيةٌ ولا وَحْشيَّةٌ.
فقال عُمَر رضي الله عنه: وكذلك قُلْبُ الكافر لا يَصِلُ إلهي شيءٌ من الخَيْرِ.
وبعضهُم يحْكِي هذه الحكاية عن عُمر رضي الله عنه كالمُنْتَصِر لمن قَرأ بالكَسْرِ قال: قرَأهَا بَعْضُ أصْحَاب عُمَر له بالكَسْر، فقال: ابْغُوني رجلًا من كِنَانَة رَاعِيًا، وليَكُون من بني مُدْلج.
فأتوه به، فقال: يا فَتَى، ما الحَرَجَةُ تكُون عِنْدكُم؟ فقال: شَجَرَةٌ تكُون بيْن الأشْجَار لا يَصِلُ إلَيْهَا رَاعِيَة ولا وَحِشِيَّة.
فقال: كذلِك قَلْبُ الكَافِر، ولا يَصلُ إليه شيءٌ من الخَيْرِ.
قال أبو حيَّان: وهذا تَنْبِيه- والله أعلم- على اشْتِقَاقِ الفِعْل من اسْم العَيْن كاسْتَنْوقَ واستَحَجَر.
قال شهاب الدين: لَيْس هذا من بابِ اسْتَنْوَقَ واسْتَحْجَرَ في شَيْءٍ؛ لأن هذا مَعْنَى مستَقِلٌّ، ومادَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَصَرِّفَة، نحو: حَرِجَ يَحْرَجُ فهو حَرِجٌ وحَارِجٌ بخلاف تِيكَ الألفاظ، فإنَّ معناها يُضْطَرُّ فيه إلى الأخْذِ من الأسْمَاء الجَامِدَة، فإن مَعْنَى قولك: استَنْوَقَ الجمل، أي: صار كالنَّاقِة، واسْتَحْجر والنَّاقَةِ، وأنْتَ إذا قُلْتَ: حَرِج صَدْرُه لَيْس بِكَ ضَرورَة أن تَقُولك ص كالحَرَجَةِ بل مَعْنَاه: تَزايد ضِيقُه، وأما تَشْبِيهُ عُمَر بن الخطَّاب، فلإبْرَازه المَعَانِي في قوالِبِ الأعْيَانِ؛ مبالغة في البيانِ.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: {حَرِجًا} بكَسْر الراء والباقون: بفتحها وقد عُرِفَا، فأمّا على قراءةِ الفَتْح، فإن كان مَصْدرًا، جاءت فيه الأوْجُهُ الثلاثة المقدِّمَة في نَظَائِرِه، وإن جُعِلَ صِفَ فلا تأويلَ.
ونَصْبُه على القراءتَيْن: إمَّا على كونِهِ نَعْتًا لـ {ضَيِّقًا}، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولًا به تعدَّد، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر، كان الخبرانِ على حَالِهما، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقًا أو بتَأويل في المبتدأ والخبر الصَّريحَيْن، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول: زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ ثم تقُول: ظنَنْتُ زيدًا كِاتِبًا شاعرًا فِقِيهًا، فتقول: زَيْدًا مَفْعُول أوَّل، كاتبًا مَفْعُول ثانٍ، شَاعِرًا مفعول ثالث، فِقِيهًا مَفْعُول رَابع؛ كما تَقُول: خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ، فلِيْس هذا كقول: في: أعْلَمْتُ زيدًا عمرًا فلاضلًا، إذا المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّرًا لشَيْء واحِدٍ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله: {ضيِّقًا حَرَجًا} لي في تكْرَار.
وقال مَكِّي: ومعنى حَرِجٌ- يعني بالكَسْرِ- كمعنى ضيِّق، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد.
قال شهاب الدِّين: إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول: كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ؛ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وكقوله: [الوافر]
................ ** وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِبًا ومَيْنَا

وقوله: [الطويل]
............... ** وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ

وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوص أو غير ذَلِك.
وقال أبو البقاء: وقيل: هو جَمْع حَرَجَة مثل قصبة وقَصَب، والهاءُ فيه للمُبالغَة.
قال شهاب الدين: ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة، كِهِي في رَوايةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة؟
قوله: {كَانَّمًا} مَا هذه مُهَيِّئَة لِدُخُول كأنَّ على الجمل الفعلية؛ كَهِي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} [آل عمران: 185].
قوله: {يَصَّعَّدُ} وقرأ ابن كثير: يَصْعَدُ ساكن الصَّادِ، مخَفِّق العَيْن، مضارع صَعِيد أي: ارتفع، وأبُو بكْر عن عاصم: {يصَّاعَدُ} بتشديد الصَّاد بعدها ألِفٌ، وأصْلُها يتصاعَدُ، أي: يتعَاطى الصُّعُود وَتَكَلَّفه فأدْغم التَّاءً في الصَّادِ تَخْفيفًا، والباقون: {يَصَّعَّد} بتَشْديد الصَّاد والعَيْن دون ألِفٍ بَْنَهُما، ومِنْ يصَّعَّندط أيكي يَفْعَل الصُّعُود ويُكَلَّفه، والأصْل: {يَتَصَعَّد} فأدغم كما في قِراءَة شُعْبَة وهذه الجُمْلَة التشبيهيَّة يحتمل أن يتكُونَ مُسْتَانفة، شبَّه فيها حَالَ مَنْ جَعَل اللَّهُ صدْرهُ ضيِّقًا حَرَجًا، بأنه يِمَنْزِلَة من يَطْلُب الصُّعُود إلى السَّماء المظللة أو إلى مكان مرتفع وعْرٍ كالعَقَبَةِ الكَؤود.
والمعنى: أنه يَسْبِقُ عليه الإيمانُ كما يَسْبقُ عليه صُعُود السَّماء، وجوَّزوا فيها وَجْهَيْن آخرين:
أحدهما: أن يكون مَفْعُولًا آخر تعدَّد كما تعدَّد ما قَبْلَها.
والثاني: ان يكُون حالًا وفي صاحبها احتمالان:
أحدهما: هو الضَّمِيرُ المسْتَكِنُّ في {ضَيِّقًا}.
والثاني: هو الضَّمِير في {حَرَجًا}، و{في السَّماءِ} متعلِّقٌ بما قَبْلَه.
قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ} هو كنظائره وقدَّره الزَّجَّاج: مثل ما قَصَصْنَا علَيْك يَجْعَل أي: فيكون مُبْتَدأ وخبرًا، أو نَعْت مَصْدر مَحْذُوف، فلَكَ أن تَرْفَعَ مِثْل وأن تَنْصِبَها بالاعْتِبَاريْن عِنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مَصْدَر مُنَاسِبٌ كما قدره النَّاسُ، وهو مِثْل ذلك الجَعْل- أي: جَعْلِ الصَّدر ضَيِّقًا حَرَجًا- يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ كذا قدَّره مكي وغيره، ويَجْعَل يحتمل أن تكُونَ بمعْنَى ألْقَى وهو الظَّاهِرُ، فتتعدَّى لواحد بنَفْسها وللآخر بحَرْف الجرَّ، ولذلك تعدَّتْ هُنَا بعَلَى والمَعْنَى: كذلِكَ يُلْقي الله العذابَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون.
ويجوز ان تكُون بمعْنَى صَيَّر أي: يُصيِّره مُسْتعْليًا عليهم مُحِيطًا بِهِم، والتَّقْدير الصِّناعي: مستَقِرًّا عليهم. اهـ. باختصار.

.فصل نفيس لابن القيم في أسباب شرح الصدور وحصولها على الكمال له صلى الله عليه وسلم:

قال رحمه الله:
أعظم أسباب شرح الصدر: التوحيدُ وعلى حسب كماله، وقوته، وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه. قال اللَّه تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَبِّه} [الزمر: 22]. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر، والشِّركُ والضَّلال مِن أعظم أسبابِ ضيقِ الصَّدرِ وانحراجِه، ومنها: النورُ الذي يقذِفُه اللَّه في قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه، ويُفْرِحُ القلبَ. فإذا فُقِدَ هذا النور من قلب العبد، ضاقَ وحَرِجَ، وصار في أضيق سجنٍ وأصعبه.
وقد روى الترمذى في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إذا دَخَلَ النور القلبَ، انْفَسَحَ وانشرحَ». قالوا: وما عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رسُولَ اللَّهِ؟ قال: «الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَجَافِى عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزوله». فيُصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النورُ الحِسِّى، والظلمةُ الحِسِّية، هذه تشرحُ الصدر، وهذه تُضيِّقه.
ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس، فكلما اتَّسع علمُ العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل عِلم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسُنهم أخلاقًا، وأطيبُهم عيشًا.
ومنها: الإنابة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيء أشرحُ لصدر العبد من ذلك. حتى إنه ليقولُ أحيانًا: إن كنتُ في الجنة في مثل هذه الحالة، فإنى إذًا في عيش طيب. وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ في انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن له حِس به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قَذَى عينه، ومخالطتهم حُمَّى روحه.
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن اللَّه تعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَن أحبَّ شيئًا غيرَ اللَّه عُذِّبَ به، وسُجِنَ قلبُه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالًا، ولا أنكد عيشًا، ولا أتعب قلبًا، فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذةُ القلب، ونعيم الروح، وغِذاؤها، ودواؤُها، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها، وهى محبةُ اللَّه وحدَه بكُلِّ القلب، وانجذابُ قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلِّها إليه.
ومحبةٌ هي عذاب الروح، وغمُّ النفس، وسِجْنُ القلب، وضِيقُ الصدر، وهى سببُ الألم والنكد والعناء، وهى محبة ما سواه سبحانه.
ومن أسباب شرح الصدر دوامُ ذِكره على كُلِّ حال، وفى كُلِّ موطن، فللذِكْر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثيرٌ عجيب في ضِيقه وحبسه وعذابه.
ومنها: الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال، والجاهِ، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسنَ أشرحُ الناس صدرًا، وأطيبُهم نفسًا، وأنعمُهم قلبًا، والبخيلُ الذي ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدرًا، وأنكدُهم عيشًا، وأعظمُهم همًّا وغمًّا. وقد ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلًا للبخيل والمتصدِّق، كمَثَل رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ المُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ، حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابِهُ وَيُعْفِىَ أثَرَهُ، وكُلَّمَا هَمَّ البَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ. فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه.
ومنها: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متَّسِعُ القلب، والجبانُ: أضيق الناس صدرًا، وأحصرُهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذَّة له، ولا نعيم إلا منْ جنس ما للحيوان البهيمى، وأما سرور الروح، ولذَّتُها، ونعيمُها، وابتهاجُها، فمحرَّمٌ على كل جبان، كما هو محرَّم علِى كل بخيلٍ، وعلى كُلِّ مُعرِض عن اللَّه سبحانه، غافلٍ عن ذِكره، جاهلٍ به وبأسمائه تعالى وصفاته، ودِينه، متعلق القلبِ بغيره. وإن هذا النعيم والسرور، يصير في القبر رياضًا وجنة، وذلك الضيقُ والحصر، ينقلبُ في القبر عذابًا وسجنًا. فحال العبد في القبر. كحال القلب في الصدر، نعيمًا وعذابًا وسجنًا وانطلاقًا، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدرِ هذا لعارض، فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التي قامت بالقلب تُوجب انشراحه وحبسه، فهى الميزان.. واللَّه المستعان.
ومنها بل من أعظمها: إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التي تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
ومنها: تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللَّهُ ما أضيقُ صدَر مَن ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه، ولا إله إلا اللَّه، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب في كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همتُّه دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم} [الانفطار: 13] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وإنَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا اللَّه تبارك وتعالى.
والمقصود: أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أكملَ الخلق في كلِّ صفة يحصُل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق في هذا الشرح والحياة، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّىِّ، وأكملُ الخلق متابعة له، أكملُهم انشراحًا ولذَّة وقُرَّة عين، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره وقُرَّة عينه، ولذَّة روحه ما ينال، فهو صلى اللَّه عليه وسلم في ذُروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفع الذِكْر، ووضع الوِزْر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه.. واللَّه المستعانُ.
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ اللَّه لهم، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم، ونصرِه لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقِلُّ ومستكثِر، فمَن وجد خيرًا، فليحمد اللَّه. ومَن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه. اهـ.

.كلام في معنى الهداية الإلهية:

قال صاحب الميزان:
الهداية بالمعنى الذي نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التي تعنون بها الأفعال وتتصف بها، تقول هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذي ينتهى إليه، وهذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده وصاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، وهذه هي الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب.
فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو اقسام الأفعال التي تأتى بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشى مع المهدى وأما الهداية فهى عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن ما يأتيه المهدى من الفعل في إثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية ويسمى لاجله هاديا وهو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما.
وهدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية وهى التي تتعلق بالأمور التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذي خلق لاجله وإلى أفعاله التي كتبت له، وهدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدر له والاجل المضروب لوجوده قال تعالى: {الذى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقال: {الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى} [الأعلى: 3].