فصل: الْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمِرَاءِ وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ: مَا حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا فَارَقَ مَجْلِسَ أُسْتَاذِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ وَكَثُرَ اعْتِرَاضُهُ عَلَى أَقَاوِيلِهِ عَظُمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فَاتَّفَقَ أَنَّ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ عَقَدَ الْجُبَّائِيُّ مَجْلِسَ التَّذْكِيرِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَالَمٌ مِنَ النَّاسِ وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ فِي بَعْضِ الْجَوَانِبِ مُخْتَفِيًا عَنِ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مِنَ الْعَجَائِزِ إِنِّي أُعْلِمُكَ مَسْأَلَةً فَاذْكُرِيهَا لِهَذَا الشَّيْخِ، قُولِي لَهُ: كَانَ لِي ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَنِينَ، وَاحِدٌ كَانَ فِي غَايَةِ الدِّينِ وَالزُّهْدِ، وَالثَّانِي كَانَ فِي غَايَةِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَالثَّالِثُ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ فَمَاتُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَخْبِرْنِي أَيُّهَا الشَّيْخُ عَنْ حَالِهِمْ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: أَمَّا الزَّاهِدُ فَفِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَفِي دَرَكَاتِ النَّارِ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَمِنْ أَهْلِ السَّلَامَةِ، قَالَ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا أَخُوهُ الزَّاهِدُ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْهُ؟ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَا؛ لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَأَنْتَ فَلَيْسَ مَعَكَ ذَاكَ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ حِينَئِذٍ يَقُولُ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ الذَّنْبُ لِي لِأَنَّكَ أَمَتَّنِي قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ أَمْهَلْتَنِي فَرُبَّمَا زِدْتُ عَلَى أَخِي الزَّاهِدِ فِي الزُّهْدِ وَالدِّينِ. فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ اللهُ لَهُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ لَوْ عِشْتَ لَطَغَيْتَ وَكَفَرْتَ وَكُنْتَ تَسْتَوْجِبُ النَّارَ فَقَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ وَأَمَتُّكَ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْعِقَابِ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قُولِي لَهُ: لَوْ أَنَّ الْأَخَ الْكَافِرَ الْفَاسِقَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ: يَارَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ ذَلِكَ الْأَخِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ كَفَرَ عَلِمْتَ مِنِّي ذَلِكَ، فَلِمَ رَاعَيْتَ مَصْلَحَتَهُ وَمَا رَاعَيْتَ مَصْلَحَتِي؟ قَالَ الرَّازِيُّ: فَلَمَّا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ انْقَطَعَ الْجُبَّائِيُّ، فَلَمَّا نَظَرَ رَأَى أَبَا الْحَسَنِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْهُ لَا مِنَ الْعَجُوزِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ جَاءَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ أَوْ أَكْثَرِ مِنْ بَعْدِ الْجُبَّائِيِّ فَأَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ: نَحْنُ لَا نَرْضَى فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ الثَّلَاثَةِ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، بَلْ لَنَا هَاهُنَا جَوَابَانِ آخَرَانِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيهَا، وَهِيَ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَلِّفَ الْعَبْدَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: التَّكْلِيفُ مَحْضُ التَّفَضُّلِ وَالْإِحْسَانِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، قَالَ: فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ فَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ: إِنِّي طَوَّلْتُ عُمْرَ الْأَخِ الزَّاهِدِ وَكَلَّفْتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِي مُتَفَضِّلًا عَلَى أَخِيكَ الزَّاهِدِ بِهَذَا الْفَضْلِ أَنْ أَكُونَ مُتَفَضِّلًا عَلَيْكَ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِطَالَةَ عُمْرِ أَخِيكَ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ كَانَ إِحْسَانًا فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا جُرْمَ فَعَلْتُهُ. وَأَمَّا إِطَالَةُ عُمْرِكَ وَتَوْجِيهُ التَّكْلِيفِ عَلَيْكَ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ عَوْدُ مَفْسَدَةٍ إِلَى غَيْرِكَ؛ فَلِهَذَا السَّبَبِ مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ فَظَهَرَ الْفَرْقُ. هَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَلْخِيصِ شَيْخِهِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ سُؤَالِ الْأَشْعَرِيِّ، بَلْ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَخْلِيصِ إِلَهِهِ عَنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ.
وَأَقُولُ: قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ، صِحَّةُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الدَّقِيقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا لَزِمَتْ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللهُ فَلَا مُنَاظَرَةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لِرَبِّهِ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا أَوْ مَا فَعَلْتَ كَذَا، فَثَبَتَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَهْلُ السُّنَّةِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي غَرَضَنَا وَيُحَصِّلُ مَقْصُودَنَا ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ إِطَالَةَ الْعُمْرِ وَتَوْجِيهَ التَّكْلِيفِ تَفَضُّلٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ. فَنَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مَدْفُوعٌ لِأَنَّهُ تعالى لَمَّا أَوْصَلَ التَّفَضُّلَ إِلَى أَحَدِهِمَا فَالِامْتِنَاعُ مِنْ إِيصَالِهِ إِلَى الثَّانِي قَبِيحٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْإِيصَالَ إِلَى هَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِعْلًا شَاقًّا عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يُوجِبُ دُخُولَ نُقْصَانٍ فِي مُلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهَذَا الثَّانِي يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ التَّفَضُّلِ، وَمِثْلُ هَذَا الِامْتِنَاعِ قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مِرْآتِهِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى الْجِدَارِ لِعَامَّةِ النَّاسِ قُبِّحَ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنَ النَّفْعِ مِنْ غَيْرِ انْدِفَاعِ ضَرَرٍ إِلَيْهِ وَلَا وُصُولِ نَفْعٍ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْعَقْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَقْبُولًا فَلْيَكُنْ مَقْبُولًا هَاهُنَا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَتَبْطُلُ كُلِّيَّةُ مَذْهَبِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ فَاسِدٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَنَا تَكْلِيفُهُ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ يُوجِبُ لِذَاتِهِ حُصُولَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ أَبَدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ وَإِنَّهُ بَاطِلٌ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَ هَذَا الشَّخْصَ فَإِنَّ إِنْسَانًا آخَرَ يَخْتَارُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِعْلًا قَبِيحًا، فَإِنِ اقْتَضَى هَذَا الْقَدَرُ أَنْ يَتْرُكَ اللهُ تَكْلِيفَهُ، فَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرِ أَنَّهُ إِذَا كَلَّفَهُ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْرُكَ تَكْلِيفَهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قُبْحَ تَكْلِيفٍ مَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ هُنَالِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تعالى تَرْكُ التَّكْلِيفِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَخْتَارُ فِعْلًا قَبِيحًا عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرَكُهُ إِذَا عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَخْتَارُ الْقَبِيحَ عِنْدَ ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، فَهَذَا مَحْضُ التَّحَكُّمِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِلَطِيفِ فِكْرِهِ وَدَقِيقِ نَظَرِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَدْوَارٍ ضَعِيفٌ، وَظَهَرَ أَنَّ خُصَمَاءَ اللهِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ لَا أَصْحَابُنَا وَاللهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.

.الْعِبْرَةُ فِي هَذَا الْمِرَاءِ وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِهِ:

أَبْدَأُ مَا أُرِيدُ مِنْ بَيَانِ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِاسْتِغْفَارِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نَقْلِهِ وَلَوْ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْأَدَبِ مَعَ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَبِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ عَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُوقِعُ صَاحِبَهَا فِي مِثْلِ هَذَا وَفِيمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، ثُمَّ أُفَصِّلُ مَا قَصَدْتُ بَيَانَهُ فِي مَسَائِلَ:
(1) إِنَّ نَظَرِيَّاتِ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَظَرِيَّاتِ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى ابْتِدَاعِ الْكَلَامِ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ، كَأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنِ ابْتُلِيَ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ- فَلَمْ يَكُونُوا جَبْرِيَّةً وَلَا قَدَرِيَّةً وَلَا مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ أَوْ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ، وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَقِيدَتَهُ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا أَوَّلَ لَهَا، وَلَا عَلَى إِنْكَارِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ إِنْكَارِ امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا حُسْنَ فِيهِ لِذَاتِهِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَمَا كَانُوا يَتَنَابَزُونَ بِالْأَلْقَابِ وَلَا يَتَمَارَوْنَ وَيَتَجَادَلُونَ لِإِثْبَاتِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَلَا يُضَلِّلُونَ الْمُخَالِفَ لَهُمْ بِلَوَازِمَ يَسْتَنْبِطُونَهَا مِنَ الْمَقَالِ وَلَا يُشَوِّهُونَ رَأْيَهُ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ تُنَافِي الْآدَابَ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَقْلِ الْمُخَالِفِ، فَمَا الْقَوْلُ فِي نَقْلِ الْمُخَاصِمِ الْمُمَارِي، بَلِ الَّذِي يَجْعَلُ مُخَالِفَهُ خَصْمًا لِلْخَالِقِ! تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ.
(2) مَسْأَلَةُ الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَبَرُّؤُ الْأَشَاعِرَةِ مِنْهَا وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَا، مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ الْوُجُوبَ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللهِ تعالى إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ وَكَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِفَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتُهَا، فَكَمَا وَجَبَ لَهُ تَعَالَى فِي حُكْمِ الْعَقْلِ الِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَجَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَاتِ مَا يُسَمُّونَهُ مُتَعَلِّقَاتِهَا كَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [6: 54] وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ شَيْءٌ بِحُكْمِ غَيْرِهِ، إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ فَيُوجِبُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مَسْئُولًا وَلَا مِثْلَهُ، بَلْ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَهُوَ سَاجِدٌ لَهُ خَاضِعٌ لِسُلْطَانِهِ {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [55: 33] وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ يَنْقُلُونَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللهِ كَذَا وَكَذَا، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [21: 23] فَيَدُلُّ نَقْلُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ تَعَالَى إِيجَابَ مَنْ يَكُونُ مُكَلَّفًا مَسْئُولًا، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ- بِهَذِهِ الْآيَةِ- عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ حَتَّى الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ وَأَنْ يُنَعِّمَ الشَّيَاطِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَالْآيَةُ إِنَّمَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ سُلْطَانٌ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُهُ بِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، وَثَبَتَ لَهُ وَحْدَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى كُلِّ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ كَسَائِرِ خَلْقِهِ، فَهُوَ بِهِ يُحَاسِبُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا فَعَلُوا بِنِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَعَمَّا كَلَّفَهُمْ إِيَّاهُ وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَالْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ، بَلْ هَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ الَّذِي وَهَبَهُ، وَالْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلَهُ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [68: 35، 36] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [38: 28] وَإِنَّنَا نَنْقُلُ عِبَارَةً لِعَالِمٍ مُسْتَقِلٍّ فِي هَذَا الْوُجُوبِ لِيُعْرَفَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَلَامِ الْمُتَعَصِّبِينَ عَلَى أَنَّهُ شَدِيدُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْمُقْبِلِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْعَلَمُ الشَّامِخُ فِي إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمَشَايِخِ): وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَتِ الْبَصْرِيَّةُ: مَعْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى: فَإِنْ قُلْتَ فَمِنْ لَوَازِمِ الْوُجُوبِ وَالْقُبْحِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَذَلِكَ لَا يُعْقَلُ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى. قُلْتُ: هُمَا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ، وَالتَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ طَلَبُ الْبَارِئِ تَعَالَى الْفِعْلَ الْمُتَّصِفَ بِالْحُكْمِ مِنَ الْمُكَلَّفِ مَعَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ وَمَعَ إِرَادَةِ الْمُكَلِّفِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا طَلَبٌ، لَيْسَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، إِنَّمَا يَقُولُونَ إِعْلَامُ الْبَارِئِ الْمُكَلَّفَ شَأْنَ الْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ إِلَخْ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَالتَّكْلِيفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي حَقِّ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْبَارِئِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ مَصْلَحَةٌ خَالِصَةٌ أَيْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعُ مُضَرَّةٍ وَلَوَازِمُهُ عِنْدَهُمُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَالْعِقَابُ الدَّائِمُ، وَالْعَالِمُ بِكُلِّ مَصْلَحَةٍ وَكُلِّ مَفْسَدَةٍ وَالْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ كَمَا يُرِيدُ هُوَ الْبَارِئُ تَعَالَى. وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي كُتُبِهِمْ شَهِيرٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّجَاسُرُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ هُوَ الَّذِي كَثَّرَ الشِّقَاقَ وَسَلَّى عَنِ الْوِفَاقِ، وَلَا يَخْلُو مَذْهَبٌ مِنْ عَدَمِ إِنْصَافِ الْخَصْمِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا قِلَّةً وَكَثْرَةً إِلَى آخَرِ مَا قَالَ، وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي أَخْذِ الْمَذَاهِبِ مِنْ كُتُبِهَا لَا مِنْ أَقْوَالِ الْخُصُومِ لِأَهْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مِنْ تَوَابِعِ التَّكْلِيفِ، وَالْبَصْرِيَّةُ يُوجِبُونَ الثَّوَابَ وَيُحَسِّنُونَ الْعِقَابَ فَقَطْ، وَلِلْبَارِئِ تَعَالَى أَنْ يُسْقِطَهُ عَقْلًا وَلُزُومُ الثَّوَابِ وَحُسْنُ الْعِقَابِ هُمَا الْمُحَسِّنَانِ لِلتَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ كَمَا مَضَى، وَمَعْنَى الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَحْسُنُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ. وَالْبَغْدَادِيَّةُ يَقُولُونَ: يَجِبُ الثَّوَابُ وُجُوبَ جُودٍ بِمَعْنَى أَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ تَقْتَضِي تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْحَكِيمِ إِلَى فِعْلِهِ وَمَا خَلُصَ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْحَكِيمُ، وَمَعَ هَذَا يُطْلِقُونَ أَنَّ الثَّوَابَ تُفَضُّلٌ، أَيْ لَيْسَ لَهُ جِهَةُ وُجُوبٍ فِي نَفْسِهِ فَاعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فَكَمْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ إِخْوَانُهُمُ الْبَصْرِيُّونَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَيَكْفِي فِي حُسْنِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُمْ سَابِقَةُ الْإِنْعَامِ وَيَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْعِقَابِ وَيُجَوِّزُونَ الْعَفْوَ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ لُطْفٌ لِلْمُكَلَّفِينَ وَاللُّطْفُ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، فَمَذْهَبُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ مُتَعَاكِسٌ. اهـ.
وَقَدْ أَطَالَ الْمُقْبِلِيُّ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَبْحَثِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَأَرْجَعَ كَلَامَ الْبَغْدَادِيَّةِ مِنْهُمْ إِلَى كَلَامِ الْبَصْرِيَّةِ. وَأَيْضًا فِي الرَّدِّ عَلَى الرَّازِيِّ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ وَفُرُوعِهِ وَلاسيما زَعْمُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ إِلَّا بِالْقَوْلِ بِالْجَبْرِ أَوِ بِالْتِزَامِ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ مُخَصَّصٍ وَهُوَ مَا يُكَرِّرُهُ فِي تَفْسِيرِهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى مَبْحَثِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَرَدَّ فِيهِ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَنَفْيِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مُطْلَقًا، أَيْ حَتَّى الشَّرْعِيِّينَ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ لَيْسَ فِيهِ حُسْنٌ ذَاتِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا حُسْنُهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ، وَلَوْ نَهَى عَنْهُ لَكَانَ قَبِيحًا، وَفِي الْجَبْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(3) الْمُنَاظَرَةُ بَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ وَشَيْخِهِ الْجُبَّائِيِّ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالتَّرَاجِمِ لِلْأَشَاعِرَةِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ الشَّيْخَيْنِ مُشَافَهَةً وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا ذَكَرَ الرَّازِيُّ مِنْ تَوَسُّطِ الْعَجُوزِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْمُقْبِلِيُّ بِالِاخْتِصَارِ ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ هَوَسٌ، وَأَدْنَى الْمُعْتَزِلَةِ- فَضْلًا عَنْ شَيْخِهِمْ- يَقُولُ مِنْ جَوَابِ اللهِ عَلَى الصَّغِيرِ: فَضْلِي أَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ أَشَاءُ كَمَا كَانَ جَوَابُ اللهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَدِيثِ تَفْضِيلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهَذَا جَوَابٌ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تُفَضُّلٌ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ- وَهُمُ الْبَغْدَادِيَّةُ- إِنَّ التَّكْلِيفَ وَاجِبٌ فَهُوَ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ جُودٍ لَا نَعْتَرِضُ عَلَى تَارِكِهِ، وَأَيْضًا فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ خَلُّوُّهَا عَنِ الْمَفْسَدَةِ وَلَوْ كَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْهُورٌ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى اللهِ سَاقِطٌ إِجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ مُطْلَقًا إِنَّمَا يَكُونُ لِمُخَالَفَةِ مَا يَنْبَغِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ فِينَا أَنَّا خَالَفْنَا الْقَادِرَ الَّذِي جَعَلَ مُخَالَفَتَهُ عَلَّامَةَ عُقُوبَتِهِ، لَا لِأَنَّهُ مُنْعِمٌ مُتَفَضِّلٌ حَقِيقٌ بِأَنْ يُمْتَثَلَ أَمْرُهُ فَإِنَّ هَذَا مَعْنَى التَّحْسِينِ الَّذِي نَفَوْهُ، وَلَكِنْ لِخَوْفِ ضَرَرِهِ الَّذِي نَصَبَ الْوَعِيدَ عَلَامَةً لَهُ فَكُلُّنَا عَبْدُ الْعَصَا. وَأَمَّا عِنْدُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حَكِيمٌ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ فَكُلُّ جُزْئِيٍّ نَرَاهُ نُدْخِلُهُ فِي الْكُلِّيَّةِ، إِنْ عَرَفْنَا الْحِكْمَةَ فِيهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا فَفَضْلٌ مِنَ اللهِ، وَإِلَّا فَنَحْنُ فِي سَعَةٍ رَدَدْنَاهُ إِلَى حِكْمَةِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وَعِلْمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَكَيْفَ يَتَمَشَّى الِاعْتِرَاضُ؟
أَمَّا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ فَلِأَنَّهُ كَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ النَّطْعِ وَالسَّيْفِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ مِنِ اعْتِرَاضِ الْجَاهِلِينَ عَلَى أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ وَيَتْلُوهُ التَّشْنِيعُ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي سِيَاقِ رَدٍّ طَوِيلٍ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّعَجُّبُ مِنْ نَقْلِ كِبَارِ عُلَمَائِهِمْ لِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي سَمَّاهَا خُرَافَةً.
وَغَرَضُنَا مِنْ نَقْلِ كَلَامِهِ إِقْنَاعُ الْقَارِئِ بِأَلَّا يَطْمَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الْخَالِصِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ مُتَعَصِّبٍ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ بِالدِّينِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَاءَ بِهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَأَلَّفَتْ لَهُ عَصَبِيَّةٌ تَنْصُرُهُ وَتَعُدُّ كَلَامَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ تَقْبَلُ مَا وَافَقَهُ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَرُدُّ مَا خَالَفَهُ بِتَأْوِيلٍ أَوْ بِاحْتِمَالِ وُجُودِ تَأْوِيلٍ.
(4) لَمَّا ظَهَرَ الْجَدَلُ الَّذِي سُمِّيَ عِلْمَ الْكَلَامِ عَدَّهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بِدْعَةً سَيِّئَةً وَنَهَوْا عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِمْ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ، وَأَكْثَرُ الْأَشَاعِرَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ مِنْهُمْ كَانُوا (يَرْجِعُونَ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي أَوَاخِرِ أَعْمَارِهِمْ) كَمَا صَرَّحْنَا بِهِ مِرَارًا، وَأَكْبَرُ أَنْصَارِ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَأَقْوَاهُمْ حُجَّةً شَيْخَا الْإِسْلَامِ أَحْمَدُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَشَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَمِنْ أَوْسَعِ كُتُبِ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الَّذِي تَخُوضُ فِي أَعْضَلِ مَسَائِلِهِ كِتَابُ (مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ) وَكِتَابُ (شِفَاءُ الْعَلِيلِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ).