فصل: البحث السادس: في قوله تعالى: {والذين يؤمنون} الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البحث السادس: في قوله تعالى: {والذين يؤمنون} الآية:

وفيه مسائل:
الأولى: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقودًا بعضه ببعض ومربوطًا آتيه بماضيه، وأيقنوا بالآخرة إيقانًا زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك. فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمنًا بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن. ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيبًا لأمثالهم في الدين، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

يا لهف زيابة للحارث ال ** صابح فالغانم فالآئب

الثانية: قال في التفسير الكبير: المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلامًا لله تعالى فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل.
وقول الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه. قال: فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفًا ولا صوتًا عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله له سمعًا لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه، ويجوز أن يخلق أصواتًا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علمًا ضروريًا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام. وأقول: إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسالة.
الثالثة: الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب، لأن الفلاح منوط بذلك. فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علمًا وعملًا، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122] الآية. وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة، لكنها إن عرفنا شيئًا من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل.
الرابعة: الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالًا بعد أن كان صاحبه شاكًا فيه، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود. وفي تقديم الآخرة وبناء {يوقنون} على {هم} تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عجبًا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجبًا ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجبًا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا- يعني النوم واليقظة- وعجبًا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجبًا من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة».

.البحث السابع: في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} الآية:

وفيه مسائل:
الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: أحدها نوى الابتداء ب {الذين يؤمنون بالغيب} على سبيل الاستئناف و{أولئك على هدى} الجملة خبره، كأنه لما قيل {هدى للمتقين} فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح.
وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو: قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة بإعادة صفته مثل: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة صفته مثل: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. وثانيها: أن يجعل {الذين} و{الذين} تابعًا للمتقين، ويقع الاستئناف على {أولئك} كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل: أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلًا وبالفلاح آجلًا. وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء، و{أولئك} خبره، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضًا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت. وأيضًا إنه يجعل الموصولين تابعًا والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركنًا من الكلام.
الثانية: الاستعلاء في قوله: {على هدى} مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم هو على الحق وفلان على الباطل وقد يصرح بذلك فيقال: جعل الغواية مركبًا، وامتطى الحق، واقتعد غارب الهوى. ومعنى {هدى من ربهم} أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه. ونكر {هدى} ليفيد ضربًا من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه. قال الهذلي:
فلا وأبي الطير المربة بالضحى ** على خالد لقد وقعت على لحم

أي لحم وأي لحم. وأربّ بالمكان إذا أقام به، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضًا لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟
الثالثة: في تكرير {أولئك} تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين.
ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله: {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد.
الرابعة: {هم} فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. ويحتمل أن يكون {هم} مبتدأ و{المفلحون} خبره، والجملة خبر {أولئك}.
الخامسة: المفلح الفائز بالبغية، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر. وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو: فلق، وفلذ، ومنه سمي الزارع فلاحًا. ومعنى التعريف في {المفلحون} إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيدًا هو هو. فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة، فإن في ذكره أيذانًا بأن ما يرد عقيبه. فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين. قد ورد في الخبر «يحشر الناس يوم القيامة» ثم يقول الله عز وجل لهم: «طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم، إني رفعت نسبًا وأبيتم إلا أنسابكم قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم: لا بل فلان ابن فلان، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون» فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} يعني على بيان من ربهم ويقين وكشف وتحقيق، وذلك أنه تجلَّى لقلوبهم أولًا بآياته ثم تجلَّى لها بصفاته ثم تجلى لها بحقه وذاته.
وقوم {على هدىً ربهم} بدلائل العقول؛ وضعوها في موضعهما فوصلوا إلى حقائق العلوم، وقوم على بصيرة ملاطفات التقريب فبمشاهدة الرحمة والكرم وصلوا إلى بيان اليقين، وآخرون ظهرت الحقيقة لأسرارهم فشهدوا بالغيب حقيقة الصمدية، فوصلوا بحكم العرفان إلى عين الاستبصار.
{وأولئك هم المفلحون} الفلاح الظفر بالبُغية، والفوز الطِلبة، ولقد نال القوم البقاء في مشهد اللقاء فظفروا بقهر الأعداء، وهي غاغة النفوس من هواجسها، ثم زلات القلوب من خواطرها، فوقفوا بالحق للحق بلا واسطة من عقل، أو رجوع إلى ذكر وفكر. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {أولئك} إشارةٌ إلى الذين حُكيت خِصالُهم الحميدةُ من حيث اتصافُهم بها، وفيه دلالةٌ على أنهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّز، منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوِّ درجتِهم وبُعدِ منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأ، وقوله عز وعلا: {على هُدًى} خبرُه، وما فيه من الإبهام المفهومِ من التنكير لكمال تفخيمِه، كأنه قيل: على أيِّ هدىً لا يُبلَغ كُنهُه، ولا يُقادَرُ قدرُه. وإيرادُ كلمةِ الاستعلاء بناءً على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يَعْتلي الشيء ويستولي عليه يتصرف فيه كيفما يريد، أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارةً تبعية، متفرّعةً على تشبيهه باعتلاء الراكبِ واستوائِه على مركوبه، أو على جعلها قرينةً للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوبِ للإيذان بقوةِ تمكّنِهم منه وكمالِ رسوخهم فيه، وقوله تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً له مبينةً لفخامته الإضافية إثرَ بيانِ فخامته الذاتية، مؤكدةً لها، أي على هدىً كائنٍ من عنده تعالى، وهو شاملٌ لجميع أنواع هدايتِه تعالى، وفنونِ توفيقِه. والتعرّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيمِ الموصوفِ والمضافِ إليهم وتشريفِهما، ولزيادة تحقيقِ مضمونِ الجملة، وتقريرِه ببيانِ ما يوجبُه ويقتضيه وقد أُدغمت النونُ في الراء بغُنةٍ أو بغير غنة، والجملةُ على تقدير كونِ الموصولَين موصولَين بالمتقين، مستقلةٌ لا محل لها من الإعراب، مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} مع زيادة تأكيدٍ له وتحقيق.
كيف لا وكونُ الكتاب هدىً لهم فنٌّ من فنون ما مُنِحوه واستقروا عليه من الهدى، حسبما تحققْتَه، لاسيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح، وقيل: هي واقعةٌ موقعَ الجواب عن سؤالٍ ربما ينشأ مما سبق، كأنه قيل: ما للمنعوتين بما ذُكر من النعوت اختُصّوا بهداية ذلك الكتابِ العظيمِ الشأن؟ وهل هم أحقاءُ بتلك الأثرَة؟ فأجيب بأنهم بسبب اتصافِهم بذلك مالِكُونَ لزِمام أصلِ الهدى الجامعِ لفنونه، المستتبِع للفوز والفلاح، فأيُّ ريبٍ في استحقاقهم لما هو فَرعٌ من فروعه؟
ولقد جار عن سَنن الصواب من قال في تقرير الجواب: بأن أولئك الموصوفين غيرُ مستبعَدٍ أن يفوزوا دون الناسِ بالهدى عاجلًا، وبالفلاح آجلًا.
وأما على تقدير كونِهما مفصولَين عنه فهي في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الذي هو الموصولُ الأول، والثاني معطوفٌ عليه، وهذه الجملةُ استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤال ينساق إليه الذهنُ من تخصيص ما ذُكر بالمتقين قبل بيانِ مبادئ استحقاقِهم لذلك، كأنه قيل: ما بالُ المتقين مخصوصين به؟ فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمُهم إجمالًا من نعوت الكمال، وبيان ما يستدعيه من النتيجة، أي الذين هذه شئونهم أحقاءُ بما هو أعظمُ من ذلك، كقولك: أُحِبّ الأنصارَ الذين قارعوا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا مُهجتَهم في سبيل الله، أولئك سوادُ عيني، وسُوَيْدَاءُ قلبي.
واعلم أن هذا المسلكَ يُسلك تارةً بإعادة اسمِ مَن استُؤنِفَ عنه الحديثُ، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ، زيدٌ حقيقٌ بالإحسان، وأخرى بإعادةِ صفتِه، كقولك: أحسنتُ إلى زيدٍ صديقِك القديمِ، أهلٌ لذلك، ولا ريب في أن هذا أبلغُ من الأول، لما فيه من بيان الموجِبِ للحكم، وإيرادُ اسمِ الإشارةِ بمنزلة إعادة الموصوفِ بصفاته المذكورة، مع ما فيه من الإشعار بكمال تميُّزِه بها، وانتظامِه بسبب ذلك في سلك الأمورِ المشاهدة، والإيماءِ إلى بُعد منزلتِه كما مر.
هذا وقد جُوِّز أن يكون الموصولُ الأول مُجرىً على المتقين حسبما فُصّل، والثاني مبتدأ، وأولئك الخ خبرُه، ويُجعل اختصاصُهم بالهدى والفلاح تعريضًا بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعُمون أنهم على الهدى، ويطمعون في نيل الفلاح.
{وأولئك هُمُ المفلحون} تكريرُ اسمِ الإشارة لإظهار مزيدِ العنايةِ بشأن المشارِ إليهم، وللتنبيه على أن اتصافَهم بتلك الصفات يقتضي نيلَ كلِّ واحدة من تينك الأثَرَتين، وأن كلًا منهما كافٍ في تميّزهم بها عمن عداهم، ويؤيده توسيطُ العاطف بين الجملتين، بخلاف ما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} فإن التسجيلَ عليهم بكمال الغفلة عبارةٌ عما يفيده تشبيهُهُم بالبهائم، فتكون الجملةُ الثانية مقررةً للأولى، وأما الإفلاحُ الذي هو عبارةٌ عن الفوز بالمطلوب فلمّا كان مغايرًا للهدى نتيجةً له وكان كلٌّ منهما في نفسه أعزَّ مرامٍ يتنافس فيه المتنافسون فُعل ما فُعل، وهم ضميرُ فصلٍ يفصِل الخبرَ عن الصفة ويؤكِّد النسبة، ويفيد اختصاصَ المُسند بالمسند إليه، أو مبتدأ خبرُه المفلحون، والجملةُ خبرٌ لأولئك، وتعريفُ المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناسُ الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو إشارةً إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم. هذا، وفي بيان اختصاصِ المتقين بنيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة اللائقة حسبما أشير إليه في تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب في اقتفاءِ أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه، والله وليُّ الهداية والتوفيق. اهـ.