فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {استكثرتم من الإنس} على حذف مضاف، تقديره: من إضلال الإنس، أو من إغوائهم، فمعنى {استكثرتم من الإنس} أكثرتم من اتّخاذهم، أي من جعلهم أتباعًا لكم، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم، فطوّعتم منهم كثيرًا جدًا.
والكلام توبيخ للجنّ وإنكار، أي كان أكثر الإنس طوعًا لكم، والجنّ يشمل الشّياطين، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم: بالوسوسة، والتخييل، والإرهاب، والمسّ، ونحو ذلك، حتّى تَوهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل واديًا قال: «أعوذ بسَيِّد هذا الوادي، أو بربّ هذا الوادي، يعني به كبير الجنّ، أو قال: يَا ربّ الوادي إنِّي أستجير بك» يعني سيّدَ الجنّ.
وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ.
قال الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظَهْر التُّرس موحِشةٍ ** للجِنّ باللّيل في حَافَاتها زَجَل

وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدلّ عليه قوله الآتي: {يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة.
والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ: أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم.
وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك.
وقيل: أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليًّا لها {اللَّهُ ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية: {ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130] وقال: {وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين}.
و{من الإنس} بيان للأولياء. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس} فالأقرب أن فيه حذفًا، فكما قال للجن تبكيتًا، فكذلك قال للإنس توبيخًا لأنه حصل من الجن الدعاء، ومن الإنس القبول، والمشاركة حاصلة بين الفريقين، فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى هاهنا جواب الإنس، وهو قولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا، والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم.
ثم هاهنا قولان: الأول: أن قولهم استمتع بعضنا ببعض، المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن، وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان:
القول الأول: أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت آمنًا في نفسه، فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني، كان ذلك تعظيمًا منهم للجن، وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس، لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه، وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} [الجن: 6].
والوجه الثاني: في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء، والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم، فهذا استمتاع الجن بالإنس.
وأما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا القول اختيار الزجاج.
قال: وهذا أولى من الوجه المتقدم، والدليل عليه قوله تعالى: {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي، قليل.
والقول الثاني: أن قوله تعالى: {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} هو كلام الإنس خاصة، لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر.
أما استمتاع بعض الإنس ببعض، فهو أمر ظاهر.
فوجب حمل الكلام عليه، وأيضًا قوله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} كلام الإنس الذين هم أولياء الجن، فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} فالمعنى: أن ذلك الاستمتاع كان حاصلًا إلى أجل معين ووقت محدود، ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع، واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات؟ فقال بعضهم: هو وقت الموت.
وقال آخرون: هو وقت التخلية والتمكين.
وقال قوم: المراد وقت المحاسبة في القيامة، والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله، لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، وفيهم المقتول وغير المقتول. اهـ.

.قال الخازن:

{وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض} يعني استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن فأما استمتاع الإنس بالجن فقال الكلبي: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فنزل بأرض فقراء وخاف على نفسه من الجن قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في جوارهم.
وأما استمتاع الجن بالإنس فهم أنهم قالوا سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون بذلك شرفًا في قومهم وعظمًا في أنفسهم.
وقيل: استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم الأمور التي كانوا يهوونها وتسهيل سبيلها عليهم واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس للجن، فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي، وقيل: استمتاع الإنس بالجن فيما كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات وأصناف الطيبات ويسهلونها عليهم واستمتاع الجن بالإنس هي طاعة الإنس للجن، فيما يأمرونهم به ويناقدون لحكمهم فصاروا كالرؤساء للإنس والإنس كالأتباع.
وقيل: إن قوله ربنا استمتع بعضها ببعض هو من كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر نادر لا يكاد يظهر، أما استمتاع الإنس بعضهم ببعض فهو ظاهر فوجب حمل الكلام عليه {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} يعني أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين ووقت محدود ثم ذهب وبقيت الحسرة الندامة، قال الحسن والسدي: لأجل الموت.
وقيل: هو وقت البعث للحساب في يوم القيامة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم} أي الذين أطاعوهم واتبعوهم {مّنَ الإنس} أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالًا من أولياء {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فادخلوا عليهم السرور بذلك.
وعن الحسن وابن جريج والزجاج وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال: أعوذ بسيد هذا الوادي.
واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم.
وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضًا وموافقته له، وقال البلخي: يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورًا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن.
{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد، وعن الحسن والسدي وابن جريج أنه الموت والأول أولى، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافًا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهارًا للندامة عليها وتحسرًا على حالهم واستسلامًا لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له.
قيل: ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلًا.
وقرئ {آجالنا} بالجمع و{فَلْيُؤَدّ الذى} بالتذكير والإفراد، قال أبو علي: هو جنس أو وقع الذي موقع التي. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا}
وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.
ومعنى: {استمتع بعضنا ببعض} انتفع وحَصّل شهوته وملائِمَهُ: أي استمتع الجنّ بالإنس، وانتفع الإنس بالجنّ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنَّه بعض مجموع الفريقين.
وإنَّما قالوا: استمتع بعضنا ببعض، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ، لأنَّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعًا بصاحبه، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقرارًا بالحقّ، وإخلاصًا لأوليائهم، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المُغوين يُعرّض بتوبيخ المغوَيْن بفتح الواو.
فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّدًا على الله، ولا استخفافًا بأمره، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين، وهي المراد بالاستمتاع.
ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء.
وكون كلامهم دخيلًا في المخاطبة، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنَّها قول آخر عَرض في ذلك اليوم.
وجيء في حكاية قولهم بفعل {وقال أولياؤهم} مع أنّه مستقبل من أجللِ قوله: {يحشرهم} تنبيها على تحقيق وقوعه، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه، وأنّه واقع لا محالة، إذ لا يكون بعضه محقّقًا وبعضه دون ذلك.
واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل: بتيسير شهواتهم، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم، وسلامتهم من بطشتهم.
واستمتاع الجنّ بالإنس: هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة، وإعانتُهم على إضلال النّاس، والوقوفُ في وجه دعاة الخير، وقطع سبيل الصّلاح، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.
وقوله: {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} استسلام لله، أي: انقضَى زمن الإمهال، وبلغْنا الأجلَ الذي أجلَّت لنا للوقوع في قبضتك، فسُدّت الآن دوننا المسالكُ فلا نجد مفرًّا.
وفي الكلام تحسّر وندامة.
عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئًا، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم، ومَحين حِين أن يَلْقَوا جزاء أعمالهم كقوله: {ووجد الله عنده فوفّاه حسابه} [النور: 39].
وقد أفادت الآية: أنّ الجنّ المخاطبين قد أُفحموا، فلم يجدوا جوابًا، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذٍ {إذ تَبرّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا} [البقرة: 166]. اهـ.

.قال ابن تيمية:

الِاسْتِمْتَاعُ بِالشَّيْءِ هُوَ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ فَيَنَالَ بِهِ مَا يَطْلُبُهُ وَيُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَمَا قَالَ: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وَمِنْ ذَلِكَ الْفَوَاحِشُ كَاسْتِمْتَاعِ الذُّكُورِ بِالذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِالْإِنَاثِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَأَئِمَّةِ الرِّيَاسَةِ كَمَا يَتَمَتَّعُ الْمُلُوكُ وَالسَّادَةُ بِجُنُودِهِمْ وَمَمَالِيكِهِمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْأَمْوَالِ كَاللِّبَاسِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَكَانَ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يُمَتِّعُ الْمَرْأَةَ بِخَادِمِ فَهِيَ تَسْتَمْتِعُ بِخِدْمَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْتِعُ بِكِسْوَةِ أَوْ نَفَقَةٍ وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: أَعْلَى الْمُتْعَةِ خَادِمٌ وَأَدْنَاهَا كِسْوَةٌ تُجْزِي فِيهَا الصَّلَاةُ. وَفِي الْجُمْلَةِ اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ وَالْجِنِّ بِالْإِنْسِ يُشْبِهُ اسْتِمْتَاعَ الْإِنْسِ بِالْإِنْسِ قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ وَقَالَ الْخَلِيلُ: {إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} فَالْمُشْرِكُ يَعْبُدُ مَا يَهْوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ اسْتِمْتَاعٌ مِنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَهْوَاهُ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ هَذَا كُلُّهُ.
وَتَارَةً يَخْدِمُ هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ فَالْجِنُّ تَأْتِيهِ بِمَا يُرِيدُ مِنْ صُورَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَتْلِ عَدُوِّهِ وَالْإِنْسُ تُطِيعُ الْجِنَّ فَتَارَةً تَسْجُدُ لَهُ وَتَارَةً تَسْجُدُ لِمَا يَأْمُرُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ وَتَارَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَيَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ وَكَذَلِكَ الْجِنِّيَّاتُ مِنْهُنَّ مَنْ يُرِيدُ مِنْ الْإِنْسِ الَّذِي يَخْدِمْنَهُ مَا يُرِيدُ نِسَاءُ الْإِنْسِ مِنْ الرِّجَالِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي رِجَالِ الْجِنِّ وَنِسَائِهِمْ فَكَثِيرٌ مِنْ رِجَالِهِمْ يَنَالُ مِنْ نِسَاءِ الْإِنْسِ مَا يَنَالُهُ الْإِنْسِيُّ وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالذُّكْرَانِ. وَصَرْعُ الْجِنِّ لِلْإِنْسِ هُوَ لِأَسْبَابِ ثَلَاثَةٍ: تَارَةً يَكُونُ الْجِنِّيُّ يُحِبُّ الْمَصْرُوعَ فَيَصْرَعُهُ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ وَهَذَا الصَّرْعُ يَكُونُ أَرْفَقَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَسْهَلَ وَتَارَةً يَكُونُ الْإِنْسِيُّ آذَاهُمْ إذَا بَالَ عَلَيْهِمْ أَوْ صَبَّ عَلَيْهِمْ مَاءً حَارًّا أَوْ يَكُونُ قَتَلَ بَعْضَهُمْ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى وَهَذَا أَشَدُّ الصَّرْعِ وَكَثِيرًا مَا يَقْتُلُونَ الْمَصْرُوعَ وَتَارَةً يَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَبَثِ بِهِ كَمَا يَعْبَثُ سُفَهَاءُ الْإِنْسِ بِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ كَمَا يُخْبَرُ الْكُهَّانُ فَإِنَّ فِي الْإِنْسِ مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ كُفَّارًا كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ لَمْ تُبَالِ بِأَنْ يُقَالَ: إنَّهُ كَاهِنٌ كَمَا كَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ كُهَّانًا وَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَفِيهَا كُهَّانٌ وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَطْلُبُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الْكُهَّانِ وَكَانَ أَبُو أَبْرَقَ الأسلمي أَحَدَ الْكُهَّانِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ مُسْلِمِينَ لَمْ يُظْهِرْ أَنَّهُ كَاهِنٌ بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ فَإِنَّهُ لَا يَخْدِمُ الْإِنْسِيَّ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ إلَّا لِمَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ الْإِنْسِيِّ بِأَنْ يُطِيعَهُ الْإِنْسِيُّ فِي بَعْضِ مَا يُرِيدُهُ إمَّا فِي شِرْكٍ وَإِمَّا فِي فَاحِشَةٍ وَإِمَّا فِي أَكْلِ حَرَامٍ وَإِمَّا فِي قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. فَالشَّيَاطِينُ لَهُمْ غَرَضٌ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَهُمْ لَذَّةٌ فِي الشَّرِّ وَالْفِتَنِ يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَهُمْ يَأْمُرُونَ السَّارِقَ أَنْ يَسْرِقَ وَيَذْهَبُونَ إلَى أَهْلِ الْمَالِ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: الْقُوَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَالْبَهِيمِيَّةُ والسبعية والشيطانية فَإِنَّ الْمَلَكِيَّةَ فِيهَا الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْبَهِيمِيَّةَ فِيهَا الشَّهَوَاتُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والسبعية فِيهَا الْغَضَبُ وَهُوَ دَفْعُ الْمُؤْذِي وَأَمَّا الشَّيْطَانِيَّةُ فَشَرٌّ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهَا جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ. وَالْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْجِنَّ وَالشَّيَاطِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الشَّهْوَةَ وَالْغَضَبَ وَالشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ خُلِقَا لِمَصْلَحَةِ وَمَنْفَعَةٍ؛ لَكِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ الْعُدْوَانُ فِيهِمَا وَأَمَّا الشَّيْطَانُ فَيَأْمُرُ بِالشَّرِّ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَيُحِبُّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ إبْلِيسُ بِآدَمَ لَمَّا وَسْوَسَ لَهُ وَكَمَا امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لَهُ فَالْحَسَدُ يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ وَالْحَاسِدُ لَا يَنْتَفِعُ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ لَكِنْ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ بُغْضُهُ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِي إحْضَارِ بَعْضِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ مَالٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَنَفَقَةٍ؛ فَقَدْ يَأْتُونَ بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ يَدُلُّونَهُ عَلَى كَنْزٍ وَغَيْرِهِ. وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيمَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَمَعْصِيَةٍ. وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ اسْتِخْدَامُهُمْ فِيمَا يَطْلُبُهُ الْإِنْسُ مِنْ شِرْكٍ وَقَتْلٍ وَفَوَاحِشَ فَتَارَةً يَتَمَثَّلُ الْجِنِّيُّ فِي صُورَةِ الْإِنْسِيِّ فَإِذَا اسْتَغَاثَ بِهِ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ أَتَاهُ فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّيْخُ نَفْسُهُ وَتَارَةً يَكُونُ التَّابِعُ قَدْ نَادَى شَيْخَهُ وَهَتَفَ بِهِ يَا سَيِّدِي فُلَانٌ فَيَنْقُلُ الْجِنِّيُّ ذَلِكَ الْكَلَامَ إلَى الشَّيْخِ بِمِثْلِ صَوْتِ الْإِنْسِيِّ حَتَّى يَظُنَّ الشَّيْخُ أَنَّهُ صَوْتُ الْإِنْسِيِّ بِعَيْنِهِ ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ يَقُولُ: نَعَمْ وَيُشِيرُ إشَارَةً يَدْفَعُ بِهَا ذَلِكَ الْمَكْرُوهَ فَيَأْتِي الْجِنِّيُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ وَالْفِعْلِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ الشَّخْصُ أَنَّهُ شَيْخُهُ نَفْسُهُ وَهُوَ الَّذِي أَجَابَهُ وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ تَابِعَ الشَّيْخِ قَدْ يَكُونُ يَدُهُ فِي إنَاءٍ يَأْكُلُ فَيَضَعُ الْجِنِّيُّ يَدَهُ فِي صُورَةِ يَدِ الشَّيْخِ وَيَأْخُذُ مِنْ الطَّعَامِ؛ فَيَظُنُّ ذَلِكَ التَّابِعُ أَنَّهُ شَيْخُهُ حَاضِرٌ مَعَهُ وَالْجِنِّيُّ يُمَثِّلُ لِلشَّيْخِ نَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنَاءِ؛ فَيَضَعُ يَدَهُ فِيهِ حَتَّى يَظُنَّ الشَّيْخُ أَنَّ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَإِذَا حَضَرَ الْمُرِيدُ ذَكَرَ لَهُ الشَّيْخُ أَنَّ يَدِي كَانَتْ فِي الْإِنَاءِ فَيُصَدِّقُهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ شَهْرٍ وَالشَّيْخُ مَوْضِعَهُ وَيَدُهُ لَمْ تَطُلْ وَلَكِنَّ الْجِنِّيَّ مَثَّلَ لِلشَّيْخِ وَمَثَّلَ لِلْمُرِيدِ حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَ الْآخَرِ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُ مَا مَثَّلَهُ الْجِنِّيُّ وَخَيَّلَهُ. وَإِذَا سُئِلَ الشَّيْخُ الْمَخْدُومُ عَنْ أَمْرٍ غَائِبٍ إمَّا سَرِقَةٍ وَإِمَّا شَخْصٍ مَاتَ وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُخْبِرَ بِحَالِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْجِنِّيَّ قَدْ يُمَثِّلُ ذَلِكَ فَيُرِيهِ صُورَةَ الْمَسْرُوقِ فَيَقُولُ الشَّيْخُ: ذَهَبَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ إنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ مُعَظَّمًا وَأَرَادَ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى سَرِقَتِهِ مَثَّلَ لَهُ الشَّيْخُ الَّذِي أَخَذَهُ أَوْ الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ فَيَذْهَبُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالَ وَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ صُورَةَ الْمَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَرَقَ الْمَالَ مَعَهُ أَيْضًا جِنِّيٌّ يَخْدِمُهُ وَالْجِنُّ يَخَافُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَ يَخَافُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا دَلَّ الْجِنِّيُّ عَلَيْهِ جَاءَ إلَيْهِ أَوْلِيَاءُ السَّارِقِ فَآذَوْهُ وَأَحْيَانًا لَا يَدُلُّ لِكَوْنِ السَّارِقِ وَأَعْوَانِهِ يَخْدِمُونَهُ وَيَرْشُونَهُ كَمَا يُصِيبُ مَنْ يَعْرِفُ اللُّصُوصَ مِنْ الْإِنْسِ تَارَةً يَعْرِفُ السَّارِقَ وَلَا يُعَرِّفُ بِهِ إمَّا لِرَغْبَةِ يَنَالُهَا مِنْهُ وَإِمَّا لِرَهْبَةِ وَخَوْفٍ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ لِكَبِيرِ يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ عَرَّفَ سَارِقَهُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ اسْتِمْتَاعِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. اهـ.