فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والاستثناء في قوله: {إلا ما شاء الله} على التّأويلين استثناء إمَّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله: {خالدين فيها} إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبَد يعمّ الأزمان كلّها، ف (ما) ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مَصدر، أي إلاّ وقت مشيئة الله إزالة خلودكم، وإمَّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير {خالدين} أي إلاّ فريقًا شاء الله أن لا يخلدوا في النّار.
وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين، من حيثُ ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة؛ أنّ المشركين لا يُغفر لهم وأنَّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان.
وقد أحصَيْتُ لهم عشرة تأويلات، بعضها لا يتمّ، وبعضها بعيد إذا جُعل قوله: {إلا ما شاء الله} من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر، ولا يستقيم منها إلاّ واحد، إذا جعل الاستثناء معترَضًا بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذا الاعتراض خطابًا للمشركين الأحياءِ الّذين يسمعون التّهديد، إعذارًا لهم أن يسلموا، فتكون (ما) مصدرية غير ظرفية: أي إلاّ مشيئة الله عدمَ خلودهم، أي حالَ مشيئته.
وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم، ويكون هذا بيانًا وتحقيقًا للمنقول عن ابن عبّاس: استثنى الله قومًا سبق في علمه أنَّهم يُسلمون.
وعنه أيضًا: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم.
ولك أن تجعل (ما) على هذا الوجه موصولة، فإنَّها قد تستعمل للعاقل بكثرة.
وإذا جعل قوله: {خالدين} من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية: أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولاَ حالةٍ، وإنَّما هو كناية، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى، مختارًا لا مكره له عليه، إظهارًا لتمام القدرة ومحض الإرادة، كأنَّه يقول: لو شئت لأبطلتُ ذلك.
وقد يعْضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله: {فأمَّا الذين شَقُوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعَّال لما يريد وأمّا الذين سعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ} [هود: 106، 108] فانظر كيف عقّب قوله: {إلا ما شاء ربّك} في عقاب أهل الشّقاوة بقوله: {إنّ ربّك فعَّال لما يريد} [هود: 107] وكيف عقَّب قوله: {إلا ما شاء ربّك} في نعيم أهل السّعادة بقوله: {عَطاء غير مجذوذ} [هود: 108] فأبْطل ظاهر الاستثناء بقوله: {عطاء غير مجذوذ} فهذا معنى الكناية بالاستثناء، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غيرُ مخصوص بزمن ولا بحال.
ويَكونُ هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه.
وقوله: {إن ربك حكيم عليم} تذييل، والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله: {خالدين فيها إلا ما شاء الله} من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله: {إن ربك حكيم عليم} جملة معترضة بين الجمل المقولة، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشرّك من الخلود رتّبه بحكمته وعِلْمه، وإن كان قوله: {خالدين} إلخ كلامًا مستقلًا معترضًا كان قوله: {إن ربك حكيم عليم} تذييلًا للاعتراض، وتأكيدًا للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطًا بالموافاة على الشّرك.
وجَعْل النّجاة من ذلك الخلودِ منوطة بالإيمان.
والحكيم: هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها، والأسباب لمسبّباتها.
والعليم: الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب. اهـ.
تحقيق نفيس للعلامة الشنقيطي:
قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ}، هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك}، وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، وقد جاءت آيات تدل على أنّ عذابهم لا انقطاع له كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.
والجواب عن هذا من أوجه:
أحدها: أن قوله تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان واختاره ابن جرير وغاية ما في هذا القول إطلاق ما ورد ونظيره في القرآن {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}.
الثاني: أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا.
الوجه الثالث: أن قوله: {إِلاّ مَا شَاءَ اللهُ} فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدًا، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له، والظهور من المرجحات، فالظاهر مقدم على المجمل كما تقرر في الأصول.
ومنها: أنّ إِلاّ في سورة هود بمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض.
وقال بعض العلماء: إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد، وقال ابن مسعود: «ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون أحقابا»، وعن ابن عباس: «أنها تأكلهم بأمر الله».
قال مقيده- عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن، أما ما يقول كثير من العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته، وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح وغيرها راجع إليها:
الأولى: أن يقال بفناء النار وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها.
الثانية: أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية.
الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية.
الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم.
وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذة لم نذكرهما من الأقسام لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذة، فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما، وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه.
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، وقد قال تعالى: {إِلاّ مَا شَاءَ رَبُّك} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، وبقوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}، وقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ}، وبيّن عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير رد عليه بهذه الآية الكريمة.
ومعلوم أن {كُلَّمَا} تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} الآية.
وأما موتهم فقد نصّ تعالى على عدمه بقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، وقوله: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: «يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت».
وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}، وبقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}.
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، وقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاّ عَذَابًا}، وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}، وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}، وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}، وقوله تعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}، وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
ولا يخفى أن قوله: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} كلاهما فعل في سياق النفي فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ولا تفتير له، والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات، بل يلزمه ذهابهما رأسا، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} وإقامته النصوص عليها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}.
فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح، وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالظاهر عدم صحته لأمرين:
الأول: أنه يلزم جواز ألاّ يدخل النار كافر لأن الخبر بذلك وعيد وإخلافه على هذا القول لا بأس به.
الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد}، وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم سها فسجد أي سجد لعلة سهوه، وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد} أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلاّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}.
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ}، ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقّ}، وقوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بيّن ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعيّن القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدًا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح، ولا غرابة في ذلك لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول فكان جزاؤهم دائما لا يزول، والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} الآية، فقوله: {خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط فهي تعم، فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله، وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}، وعودهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لاسيما وقد قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}، وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية.
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص كما أشار له تعالى بقوله: {وَلا يُزَكِّيهِمْ}، وبقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}
يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلَّ منه قُبِلَ منهم، لكنْ سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يحشُرُهُمْ}
{يوم} نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم، ويحتمل أن يكون العامل {وليهم} [الأنعام: 127] والعطف على موضع قوله: {بما كانوا} [الأنعام: 127]، والضمير في {يحشرهم} عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جنًا وإنسًا، والذين لهم دار السلام جنًا، وإنسًا، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله: {جميعًا} وقرأ حفص عن عاصم {يحشرهم} بالياء، وقرأ الباقون بالنون وكلُّ متجه، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن، وقوله: {قد استكثرتم} معناه فرطتم، و{من الإنس} يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموبخين على جهة الاعتذار عن الجن {ربنا استمتع بعضنا ببعض} أي انتفع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير إذ كان العربي إذا نزل واديًا ينادي يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثال في الاستمتاع ولو تتبع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل هو الحشر، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل، وقرأ الحسن {وبلِّغنا أجلنا} بكسر اللام مشددة، وقوله تعالى: {قال النار مثواكم} الآية، إخبارٌ من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه، وهذا كثير من القرآن وفصيح الكلام و{مثواكم} أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة، هذا قول الزجّاج وغيره، قال أبو علي في الإغفال: المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي {خالدين} والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملًا، والتقدير النار ذات ثوابكم، والاستثناء في قوله: {إلا ما شاء الله} قالت فرقة {ما} بمعنى من، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة.
قال القاضي أبو محمد: ولما كان هؤلاء صنفًا ساغت في العبارة عنهم {ما}، وقال الفراء {إلا} بمعنى سوى، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب، ونحا إليه الزجّاج، وقال الطبري: إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار.
قال القاضي أو محمد: وساغ هذا من حيث العبارة بقوله: {النار مثواكم} لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره، وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا ينزلهم جنة ولا نارًا.
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وليس مما يقال يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار: {النار مثواكم} استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يؤمئذ كافرًا، وتقع {ما} على صفة من يعقل، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله: {إن ربك حكيم عليم} أي بمن يمكن أن يؤمن منهم، و{حكيم عليم} صفتان مناسبتان لهذه الآية، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء. اهـ.