فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}
وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم القيامة، حيث يسألهم- وهو أعلم: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهامُ تقرير: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي: من جملتكم. والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد، وابن جُرَيْج، وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.
وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُر.
وحكى ابن جرير، عن الضحاك بن مُزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي- والله أعلم- كقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} إلى أن قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19- 22]، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج من الملح لا من الحلو. وهذا واضح، ولله الحمد. وقد نص هذا الجواب بعينه ابن جرير.
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا} إلى أن قال: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 163- 165]، وقال تعالى عن إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27]، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} [الفرقان: 20]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29- 32].
وقد جاء في الحديث- الذي رواه الترمذي وغيره- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن وفيها قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآيتان: 31، 32].
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة.
قال تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: وقد فرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: يوم القيامة {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} أي: في الدنيا، بما جاءتهم به الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي في الدنيا {رُسُلُ} أي من عند الله عز وجل لكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم، بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها، أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين؟ وقوله تعالى: {مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرسل أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معًا بل من الإنس خاصةً، وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتًا واتحادِهما تكليفًا وخطابًا، كأنّهما جنسٌ واحد، ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر، وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} إلى قوله تعالى: {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}
وقوله تعالى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ، وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين {وَيُنذِرُونَكُمْ} بما في تضاعيفها من القوارع {لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد؟ فقيل: قالوا: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فُصِّل في حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار، حيث قالوا: {بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كَبِيرٍ} وقد أُجمل هاهنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا: {بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} وقوله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} مع ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وإلجائِهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ، وذمٌّ لهم بذلك، أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسلُ، واجترأوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه {وَشَهِدُواْ} في الآخرة {عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} في الدنيا {كافرين} أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكور آنفًا واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبئ عنه ما حُكي عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصحاب السعير} وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيد عليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} في الدنيا {رُسُلُ} من عند الله عز وجل كائنة {مّنكُمْ} أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين معًا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء، ونظيره في هذا قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن؛ 22] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والفراء قدر هنا مضافًا لذلك أي من أحدكم، وقال غير واحد: المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} إلى قوله عز وجل: {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29].
وعن الضحاك وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلًا منهم وصرح بعضهم أن رسولًا منهم يسمى يوسف، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا؟ الذي نص عليه الكلبي الثاني قال: كان الرسل يرسلون إلى الإنس حتى بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} التي أوحيتها إليهم، والجملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين {وَيُنذِرُونَكُمْ} أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع {لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينوا.
{قَالُواْ} استئناف بياني، والمقصود منه حكاية قولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي بإتيان الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب، وقوله سبحانه: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجاهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم السلام واجترأوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه {وَشَهِدُواْ} في الآخرة {عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} في الدنيا {كَافرينَ} بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي}
هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود، إبطالًا لمعذرتهم، وإعلانًا بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعًا.
والهمزة في {ألم يأتيكم} للاستفهام التّقريري، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي، يؤتى بتقريره داخلًا على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به، كما يقال للجاني: ألَسْت الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه، فيؤتى بالاستفهام داخلًا على نفي الشّيء المقرّر عليه، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم.
ومنه قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم} [الأعراف: 172]، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله، ونبذ العمل الصّالح ظهريًا، والإعراض عن الإيمان، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغًا، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.
والرّسل: ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم: من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى: {إذْ جاءها المرسلون} [يس: 13] وهم رسل الحواريين بعد عيسى.
فوَصْف الرّسل بقوله: {منكم} لزيادة إقامة الحجّة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون (مِن) اتِّصالية مثل الّتي في قولهم: لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي، وليست للتّبعيض، فليست مثل الّتي في قوله: {هو الذي بعث في الأمّيين رسولًا منهم} [الجمعة: 2] وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار.
وتكون (من) تبعيضية، ويكون المراد بضمير: {منكم} خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح.
فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهامًا بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ: {قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآنًا عجبا} [الجن: 1] الآية، وقال في سورة الأحقاف (30، 31): {قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم} ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله: {إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم، ونُسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله: {ألم يأتيكم} مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ، ولم يرد عن النّبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلًا من الجنّ إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر.
فلمّا خلق الله للجنّ علمًا بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم.
ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون: الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة، دون أن يقولوا: على مَن وُجّهت إليه الدّعوة.
وطرق بلوغ الدّعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّدًا صلى الله عليه وسلم ولا غيرَه من الرّسل، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذّر تخالطهما، وعن الكلبي أنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ، وحكَى الاتِّفاق عليه: فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفًا لقدره.