فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَرْجِيحِ كَوْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [18: 12] إِلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَهُ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ {مَنْ} بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ فَسَوْفَ تَعْرِفُونَ الْفَرِيقَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحُسْنَى الَّتِي خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الدَّارَ (الدُّنْيَا) لَهَا. قَالَ: وَهَذَا طَرِيقٌ مِنَ الْإِنْذَارِ لِطَيْفُ الْمَسْلَكِ فِيهِ إِنْصَافٌ فِي الْمَقَالِ وَأَدَبٌ حَسَنٌ مَعَ تَضَمُّنِ شِدَّةِ الْوَعِيدِ وَالْوُثُوقِ بِأَنَّ الْمُنْذِرَ (بِكَسْرِ الذَّالِ) مُحِقٌّ، وَالْمُنْذَرَ (بِفَتْحِ الذَّالِ) مُبْطِلٌ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنَّ غَايَةَ هَذَا الْإِنْذَارِ وَرُوحَهُ الْإِحَالَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فِي صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ بِنَصْرِهِ، وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِ بِقَهْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانَ هَذَا شَيْئًا لابد أَنْ يَرَاهُ جُمْهُورُ الْمُخَاطَبِينَ بِأَعْيُنِهِمْ فَيَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ الْإِخْبَارِ بِهِمَا مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ، وَلَا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ عَاقِبَةُ الرَّسُولِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ هِيَ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ عَاقِبَةَ مِنْ كَفَرَ بِهِ وَنَاوَأَهُ هِيَ السُّوءَى. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا السَّبَبِ بِفَاصِلَةِ الْآيَةِ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أَيْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بِنِعَمِ اللهِ وَاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ فِيمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ كُلُّ مَا أَعْيَتِ الْمَرْءَ أَسْبَابُهُ أَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِي هَذَا وَحْدَهُ. وَأَمَّا مَا عُرِفَ سَبَبُهُ فَيُطْلَبُ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ خَالِقَ الْأَسْبَابِ وَمُسَخِّرَهَا هُوَ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31: 13]- فَهَذَا شَرُّ الظُّلْمِ وَأَشَدُّهُ إِفْسَادًا لِلْعُقُولِ وَالْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ- فَيَلْزَمُهُ إِذًا سَائِرُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [82] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ فَلَاحُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ بِالْأَوْلَى مُنْتَفِيًا بِشَرْعِ اللهِ وَسُنَّتِهِ الْعَادِلَةِ، انْحَصَرَ الْفَلَاحُ وَالْفَوْزُ فِي أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَرْتَبِطُ مَعَهُمْ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَهَذَا لَا يَكْمُلُ إِلَّا لِرُسُلِ اللهِ وَجُنْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ نَصَرَ اللهُ رَسُولَهُ عَلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِهِ أَوَّلًا كَأَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ؟ ثُمَّ عَلَى سَائِرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، ثُمَّ نَصَرَ أَصْحَابَهُ عَلَى أَعْظَمِ أُمَمِ الْأَرْضِ وَأَقْوَاهَا جُنْدًا وَأَعْظَمِهَا مُلْكًا وَأَرْقَاهَا نِظَامًا كَالرُّومَانِ وَالْفُرْسِ؟ ثُمَّ نَصَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَشَعْبٍ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَقَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي الْحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَالْفُتُوحِ الْعُثْمَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ حَظِّهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَلَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا النَّاسَ وَصَارَ حَظُّهُمْ مِنْ هِدَايَةِ دِينِهِمْ نَحْوًا مِمَّا كَانَ مِنْ حَظِّ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَهُمْ مِنْ هِدَايَةِ رُسُلِهِمْ أَوْ أَقَلَّ، وَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِي هَذَا السَّبَبِ الْمَعْنَوِيِّ لِلنَّصْرِ وَالْفَلَاحِ، بَلِ انْحَصَرَ الْفَوْزُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ. وَالْعَدْلِ وَالنِّظَامِ وَنَرَى كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِالْإِسْلَامِ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَضَاعُوا مُلْكَهُمْ إِذَا كَانَ اللهُ قَدْ وَعَدَ بِنَصْرِهِمْ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَعِدْ قَطُّ بِنَصْرِ مَنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ كَيْفَمَا كَانَتْ حَالُهُمْ. وَإِنَّمَا وَعَدَ بِنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُقِيمُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ مَهْمَا تَكُنْ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَلْقَابُهُمْ. إِذَا نَازَعَهُمُ الْبَقَاءُ مَنْ هُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَوِ النِّظَامِ مِنْهُمْ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [14: 13، 14] وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلٌ لِهَذَا الْبَحْثِ غَيْرَ مَرَّةٍ.
قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ {مَكَانَاتِكُمْ} بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْإِفْرَادِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَكَانَةِ أَلَّا تُجْمَعَ لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَنُكْتَةُ جَمْعِهَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِفَادَةُ أَنَّ لِلْكُفَّارِ مَكَانَاتٍ مُتَفَاوِتَةً، لِتَعَدُّدِ الْبَاطِلِ وَوَحْدَةِ الْحَقِّ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {مَنْ يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بِالتَّحْتِيَّةِ وَالْبَاقُونَ {تَكُونُ} بِالْفَوْقِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ تَأْنِيثَ الْعَاقِبَةِ لَفْظِيٌّ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَامِلِ فَحَسُنَ تَذْكِيرُ الْفِعْلِ كَتَأْنِيثِهِ، وَفِي حَالِ الْفَصْلِ يَجُوزُ تَذْكِيرُ الْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ مُؤَنَّثًا حَقِيقِيًّا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ اقْتِرَانُ سَوْفَ بِالْفَاءِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الزُّمَرِ لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَتُرِكَتِ الْفَاءُ فِي آيَةِ هُودٍ [11: 93] لِأَنَّهَا فِي جَوَابِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [11: 91] إِلَخْ. فَهُوَ إِخْبَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ سَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ مَا قَالُوا إِنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ دُرَّةِ التَّنْزِيلِ. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}
والقوم هم الجماعة، وعادة يطلق على الرجال لأنهم أهل القيام للمهمات؛ لأن الشأن والأصل في المرأة الستر والبيتوتة والاستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته. وحين تقرأ القرآن تجد كلمة قوم وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي تجمعهم رابطة، وأنها للرجال خاصة، والمثال هو قول الحق: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11]
وما دام قد جاء بمقابل {قَوْمٌ}: {وَلاَ نِسَاءٌ}، ف {قَوْمٌ} هذه للرجال ومأخوذ منها القيام للمهمات، ومأخوذ منها القيامة. ولذلك الشاعر يقول:
ولا أدري ولست أخال أدري ** أقوم آل حصن أم نساء

يعني أرجال أم نساء. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135]
والمكان هو الحيز الذي يأخذه جسم الإِنسان؛ فكل كائن له مكان، إن وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثانٍ، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يسع إلا واحدًا، وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط، ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد.
وترى ذلك أيضًا في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا أن خرج الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن.
و{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول الله: اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو أثبتوا على ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا؟؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أيضًا: فلن يكون ثباتكم مانعًا لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإِيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 135]
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} وله تعطي دلالة إلى أن الإِيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل عليهم، وساعة ترى اللام اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ أبو بكر عن عَاصِم {مَكَانَاتِكُمْ} بالجَميع في كُلِّ القُرْآن، أي: على تَمَكُّنِكُمْ.
وقال عطاء: على حَالاتِكُم التي أنْتُم عليها، والباقون: مَكَانَتِكُمْ.
قال الواحدي: والوَجْه الإفْرَادُ؛ لأنه مَصْدر، والمصادِرُ في أكْثر الأمْر مفْرَدة، وقد يُجْمَع في بعض الأحوالِ إلا أنَّ الغالبَ هو الأوَّل، فمن أفْرَد فلإرادة الجِنْسِ، ومن جَمَع فَليُطَابق ما بَعْدَه، فإن المخَاطِبين جماعة، وقد أُضِيفَت إلَيْهم، وقد علم أن الكُلَّ وَاحِد مَكانه.
قال الزمخشري: المكانَةُ تكون مَصْدرًا؛ يقال: مكَنَ مَكَانَةً إذا تمكَّنَ أبْلَغ التمكّن، وبعنى المكان؛ يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله: {اعْملُوا على مَكَانِتِكُم} يحتمل {اعْملُوا} على تمكُّنِكُم من أمْرِكُم وأقْصَى اسْتِطَاعَتِكُم وإمكَانِكُم وإمْكانكم، قال معْنَاه أبو إسحاق الزَّجَّاج، وعلى الثاني: أعْمَلُوا على جِهْتِكم وحَالِكُم التي أنْتُم عليها.
قوله: {إني عامل} على مَكَانتي الَّتِي أنا عليها، والمعنى: أثْبُتُوا على عَدَاوَتِكُم وكُفْرِكُم، فإني ثابتٌ على الإسلام وعلى مَضَارَّتِكُم، {فَسوْفَ تَعْلَمُون} أيُّنَا يَنَال العَاقِبة المحمُودة، وهذا أمْر تَهْدِيد؛ كقوله: {اعملُوا ما شِئْتُم}.
قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ} يَجُوز في {مَنْ} هذه وجهان: أحدهما: أن تكون موصولة وهو الظَّاهِر، فهي في محلِّ نَصْب مفْعُولًا به، وعَلِمَ هنا مُتَعَدِّية لواحد؛ لأنَّها بمعنى العِرْفَان.
الثاني: أن تكون استِفْهَاميَّة، فتكون في محلِّ رفع بالابتداء، و{تكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} تكون واسْمُهَا وخَبَرُهَا في محلِّ رفع خبرًا لها، وهي خبرها في محلِّ نَصْبٍ: إمَّا لسَدِّها مَسَدَّ مَفْعُول وَاحِدٍ إن كانت عَلِمَ عِرْفَانيَّة، وإمَّا لسدِّها مسدَّ اثنين إن كان يقينيّة.
وقرأ الأخوان: {مَنْ يكُون لَهُ عَاقِبةُ الدَّارِ} هنا، وفي القصص [الآية: 37] بالياء، والباقون: بالتاء من فوق، وهما واضحتان، فإن تأنيثها غير حَقِيقِيّ، وقد تقدم ذَلِك في قوله: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقر: 123]. اهـ.

.تفسير الآية رقم (136):

قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما تمت هذه الآيات من قبح طريقتهم في إنكار البعث وحسن طريقة الإسلام على هذا الأسلوب البديع والمثال البعيد المنال الرفيع وختمت بحال الظالم، شرع في تفصيل قوله: {أغير الله أتخذ وليًا فاطر السماوات والأرض} [الأنعام: 14] على أسلوب آخر ابتدأه ببيان ظلمهم وجهالاتهم وأباطيلهم تنبيهًا على سخافة عقولهم تنفيرًا عنهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها وإخراجها عمن هي له ونسبتها إلى من لا يملك شيئًا وقتل الأولاد وتسييب الأنعام وغير ذلك، فقال عاطفًا على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100]: {وجعلوا} أي المشركون العادلون بربهم الأوثان {لله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له {مما ذرأ} أي خلق وأنشأ وبث ولم يشركه في خلقه أحد {من الحرث والأنعام نصيبًا} أي وجعلوا لشركائهم نصيبًا؛ ولما كان الجعل لا يعرف إلا بالقول، سبب عنه قوله: {فقالوا} أي بألسنتهم بعد أن قالوا بأفئدتهم {هذا لله} أي الملك الأعلى {بزعمهم} أي ادعائهم الباطل وتصرفهم بكذب ادعائهم التخصيص بالله، ولذا أسقط الزعم من قوله: {وهذا لشركائنا} أي وليس لهم سند في هذه القسمة إلا أهوائهم.
ولما كان هذا سفهًا بتسويتهم من لا يملك شيئًا بمن يملك كل شيء، بين من فعلهم ما هو أشد سفهًا منه بشرح ما لوح إليه التعبير بالزعم فقال مسببًا عن ذلك ومفرعًا: {فما كان لشركائهم} أي بزعمهم أنهم شركاء {فلا يصل إلى الله} أي الذي هو المالك مع اتصافه بصفات الجلال والجمال {وما كان لله} أي على ما له من الكبر والعظمة والجلال والعزة {فهو يصل إلى شركائهم} فإذا هلك ما سموا لشركائهم أو أجدب وكثر ما لله قالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة، فأخذوا ما لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر ما لآلهتهم قالوا: لو شاء الله لأزكى الذل له، فلا يردون عليه شيئًا مما للآلهة.
ولما بلغ هذا غاية السفه قال: {ساء ما يحكمون} أي حكمهم هذا أسوأ حكم؛ ذكر الإمام أبو الربيع سليمان بن سالم الكلاعي في سيرته في وفد خولان أنه كان لهم صنم يسمى عم أنس، وأنهم لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له أنهم كانوا يجعلون من أنعامهم وحروثهم جزءًا له وجزءًا لله بزعمهم، قالوا: كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمي زرعًا آخر حجرة لله عزّ وجلّ، فإذا مالت الريح بالذي سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي جعلناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أنزل عليه في ذلك {وجعلوا لله} الآية، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الشياطين تكلمكم»، قالوا: فأصبحنا برسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع ولا يذري من عبده ممن لم يعبده.
وقال ابن هشام في مقدمة السيرة إنهم كانوا يقسمون له، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، قال: وهم بطن من خولان يقال لهم الأديم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن قتادة قال: كانوا يعزلون من أموالهم شيئًا فيقولون: هذا لله وهذا لأصنامهم، فإن ذهب شيء مما جعلوا لشركائهم يخالط شيئًا مما جعلوه ردوه، وإن ذهب شيء مما جعلوه لله يخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه، وإن أصابتهم سنة أكلوا مما جعلوا لله وتركوا ما جعلوا لشركائهم، فقال عزّ وجل: {ساء ما يحكمون} وقال البغوي: كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبًا وللأوثان نصيبًا، فما جعلوه لله صرفوه للضيفان والمساكين، وما جعلوه للأصنام أنفقوه على الأصنام وخدمها، فإن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط شيء من نصيب الأوثان فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا: إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم يبالوا به، وإذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بين قبح طريقتهم في إنكارهم البعث، والقيامة ذكر عقيبه أنواعًا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهًا على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفيرًا للعقلاء عن الالتفات إلى كلماتهم، فمن جملتها أنهم يجعلون لله من حروثهم، كالتمر والقمح، ومن أنعامهم كالضأن والمعز والإبل والبقر، نصيبًا، فقالوا: {هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} يريد بكذبهم.
فإن قيل: أليس أن جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم: هذا لله؟