فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجًا على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زمانًا غير محررة، وكانَ كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنْوِنُها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الإسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهامًا وانقلب قتادها ثمامًا، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلًا كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء وَلده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقةً ومطابقة في بعضها والتزامًا في البعض، ومجازًا في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء، وكانت للمخالفين كحجر المضاء، فلما قيض الله أعلامًا نفَوْا ما شاكها، وفتحوا أغلاقها، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء، لا يخالفُ في ذلك مسلم.
وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع.
وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازًا ووقوعًا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفعُ الحرج الخارجي عن الحد المتعارففِ، تفضلًا من الله لقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم} [المزمل: 20] أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام.
هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها، ويستأنس متنافرها.
وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أفرادًا بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريبًا من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف، وسِرّ الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير. اهـ.

.قال السمرقندي:

وفي الآية إشكال في موضعين:
أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى؛ فأما الذي في اللفظ {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} ذكر جماعة القلوب ثم قال: {وعلى سَمْعِهِمْ} ذكر بلفظ الوحدان ثم قال: {وعلى أبصارهم} ذكر بلفظ الجمع، فجوابه: إن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع، فلهذا المعنى والله أعلم ذكر بلفظ الوحدان.
وقد قيل: معنى {وعلى سَمْعِهِمْ} أي: موضع سمعهم، لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع.
وقد قيل: إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة، لأنه قال: {وعلى سَمْعِهِمْ} فقد أضاف إلى الجماعة، والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة، ومرة يذكر بلفظ الوحدان، فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديدًا في اللغة؛ فذكر البعض بلفظ الوحدان، والبعض بلفظ الجماعة؛ وهذه علامة الفصاحة، لأن كتاب الله تعالى أفصح الكلام.
وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال: إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة؟ والجواب عن هذا: أن يقال: إنه ختم مجازاة لكفرهم.
كما قال في آية أخرى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقهم وَكُفْرِهِم بآيات الله وَقَتْلِهِمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 155] لأن الله تعالى قد يسر عليهم سبيل الهدى، فلو جاهدوا لوفقهم، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69]، فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم الله تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وفي الآخرة بالعذاب العظيم. اهـ.

.فائدة: الحكمة من الاقتصار على الإنذار:

سؤال: فإن قيل: لم اقتصر على الإنذار ولم يذكر البشارة في قوله تعالى: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم}؟
الجواب: لأنهم ليسوا أهلًا للبشارة ولأن الإنذار أوقع في القلوب ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع البشارة رأسًا- أولى. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة: الكامل:
في ليلة كفر النجوم غمامها

أي سترها ومنه سمي الليل كافرًا لأنه يغطي كل شيء بسواده قال الشاعر: ثعلبة بن صغيرة: الكامل:
فتذكر ثقلًا رثيدًا بعدما ** ألقت ذكاءَ يمينها في كافر

ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، فكفر في الدين معناه غطى قلبه بالرِّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.
فقال قوم: هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس في هذه حاله دون أن يعين أحد.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظرائهم.
وقال الربيع بن أنس: نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحدًا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية. وقوله: {سواء عليهم} معناه معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر: أعشى قيس: الطويل:
وليل يقول الناس من ظلماتِهِ ** سواء صحيحاتُ العيونِ وعورُها

قال أبو علي: في اللفظة أربع لغات: سوى بكسر السين، وسواء بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك. ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا: في، وقواء، و{سواء} رفع على خبر {إن} أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر {إن} ويصح أن يكون خبر {إن} {لا يؤمنون}.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: {آنذرتهم} بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خففت، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفًا، وابن كثير لا يفعل ذلك. وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية. وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر: فبالهمزتين {أأنذرتهم} وما كان مثله في كل القرآن.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما.
وقرأ الزهري وابن محيصن {أنذرتهم} بحذف الهمزة الأولى، وتدل {أم} على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل: {فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13] وقال: {إنا أنذرناكم عذابًا قريبًا} [النساء: 40] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه.
وقوله تعالى: {آنذرتهم أم لم تنذرهم} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرًا سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهمًا أخرج زيد أم قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى عل هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهامًا. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال رحمه الله:
اعلم أن الله عز وجل صدر هذه السورة بأربع آيات أنزلها في المؤمنين وبآيتين أنزلهما في الكافرين وبثلاث عشرة آية أنزلها في المنافقين فأما التي في الكفار فقوله تعالى: {إن الذين كفروا} أي جحدوا وأنكروا وأصل الكفر في اللغة الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافرًا لأنه يستر الأشياء بظلمته قال الشاعر، في ليلة كفر النجوم غمامها، أي سترها والكفر على أربعة أضرب: كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلًا ككفر فرعون وهو وقوله ما علمت لكم من إله غيري، وكفر جحود وهو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس، وكفر عناد وهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أمية بن أبي الصلت وأبي طالب حيث يقول في شعر له:
ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحًا بذاك مبينا

وكفر نفاق، وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد صحة ذلك بقلبه، فجميع هذه الأنواع كفر.
وحاصله أن من جحد الله أو أنكر وحدانيته أو أنكر شيئًا مما أنزله على رسوله أو أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من الرسل فهو كافر فإن مات على ذلك فهو في النار خالدًا فيها ولا يغفر الله له نزلت في مشركي العرب.
وقيل في اليهود {سواء عليهم} أي متساوٍ لديهم {أأنذرتهم} أي خوفتهم وحذرتهم والإنذار إعلام مع تخويف فكل منذر معلم وليس كل معلم منذرًا {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي لا يصدقون وهذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة العذاب في سابق علم الله الأزلي أنهم لا يؤمنون. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة، إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل، وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب، والتبايُن في الغرض، فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولًا بما قبله، أو مفصولًا عنه، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم، فهو من مستتبِعاته لا محالة. وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالًا حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه.
وإن من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها، كإنني ولعلني ونظائرهما، وإعطاءِ معانيه، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذانًا بكونه فرعًا في العمل دخيلًا فيه، وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب. وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها، فتعين إعمالُ الحرف، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها، ولذلك يتلقى بها القسمُ، وتُصدَّر بها الأجوبة، ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه، قال المبّرِد: قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه.
وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود، أو للجنس، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ} الخ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر. ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ، قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} وعليه قول لبيد:
في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها

ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفرًا لدلالته على التكذيب، فإن مَنْ صدق النبي عليه السلام لا يكاد يجترئ على أمثال ذلك، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم {سَوَاء} هو اسمٌ بمعنى الاستواء، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً، قال تعالى: {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ} متعلق به، ومعناه عندهم، وارتفاعُه على أنه خبر، لأن قوله تعالى: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ} مرتفعٌ به على الفاعلية لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام، لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما، كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وحرفُ النداء في قولك: اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص، كأنه قيل: إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه. كقولك: إن زيدًا مختصمٌ أخوه وابنُ عمه، أو مبتدأ، و{سَوَاء عَلَيْهِمْ} خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه، والجملة خبرٌ لإن، والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه عند بقائه على حقيقته.
وأما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمنًا على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه، كما في قوله تعالى: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} وفي قولهم: {تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ} كأنه قيل: إنذارُك وعدمه سيان عليهم، والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدُّد، والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده، كما أشير إليه وقيل: {سواء} مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً، لا بيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه، والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه، إفعال من نذر بالشيء إذا علِمه فحذِره، والمراد هاهنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي، والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلًا، ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب، وأشدُّ تأثيرًا في النفوس، فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع، فحيث لم يتأثروا به فَلألاّ يرفعوا للبشارة رأسًا أولى، وقرئ بتوسيط ألفٍ بين الهمزتين مع تحقيقهما، وبتوسيطها والثانية بَيْنَ بين، وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط، وبحذف حرف الاستفهام، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله، كما قرئ قدَ أفلح، وقرئ بقلب الثانية ألفًا، وقد نسب ذلك إلى اللحن.
{لاَ يُؤْمِنُونَ} جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها، مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء، فلا محلَّ لها من الإعراب، أو حال مؤكدةٌ له، أو بدل منه أو خبرٌ لأن، وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم، أو خبرٌ ثانٍ على رأي من يجوِّزه عند كونه جملة، والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق، فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون، فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان، باقين على التكليف، ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمانَ بعدم إيمانهم المستمر، والحق أن التكليفَ بالممتنع لذاته وإن جاز عقلًا من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضًا لاسيما الامتثالُ، لكنه غيرُ واقع للاستقراء، والإخبارُ بوقوعِ الشيء أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو، أو العبدُ باختياره، وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر، بل هو الإيمانُ بجميع ما جاء به النبي عليه السلام إجمالًا، على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلومًا لهم.
وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ، ولذلك قيل: سواء عليهم، ولم يقل: عليك، كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة. اهـ.