فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلفوا في ضم البُرّ إلى الشعير والسَّلْت وهي:
السابعة عشرة: فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصّةً فقط؛ لأنها في معنى الصِّنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم.
وقال الشافعيّ وغيره: لا يجمع بينها؛ لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف؛ وذلك يوجب افتراقها. والله أعلم.
قال مالك: والقَطَانيّ كلها صِنف واحد، يُضَمّ بعضها إلى بعض.
وقال الشافعيّ: لا تُضم حبة عُرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينة في الخلقة والطعم إلى غيرها.
ويُضَمُّ كل صنف بعضه إلى بعض، رَدِيئهُ إلى جَيّده؛ كالتمر وأنواعه، والزبيب أسودِه وأحمره، والحنطةِ وأنواعها من السمراء وغيرها.
وهو قول الثَّوْرِيّ وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور.
وقال اللّيث: تُضم الحبوب كلها: القُطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة.
وكان أحمد بن حنبل يَجبُن عن ضم الذهب إلى الوَرِق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعيّ.
الثامنة عشرة: قال مالك: وما استهلكه منه ربُّه بعد بُدُوِّ صلاحه أو بعد ما أفْرك حسِب عليه، وما أعطاه ربُّه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تَحَرّى ذلك وحُسب عليه.
وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدَّرْس.
قال الليث في زكاة الحبوب: يُبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فرِيك هو وأهله فلا يحسب عليه، بمنزلة الرّطب الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يُخْرَص عليهم.
وقال الشافعيّ: يترك الخارِصُ لربّ الحائط ما يأكله هو وأهله رطبًا، لا يَخْرصه عليهم.
وما أكله وهو رطب لم يُحسب عليه.
قال أبو عمر: احتج الشافعيّ ومن وافقه بقول الله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.
واستدلوا على أنه لا يُحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية.
واحتجوا بقوله عليه السلام: «إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدّرس لم يُحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره.
التاسعة عشرة: وما بيع من الفول والحِمّص والجُلبان أخضر؛ تحرّى مقدار ذلك يابسًا وأخرجت زكاته حبًّا.
وكذا ما بيع من الثمر أخضر اعتبر وتُوُخّى وخرص يابسًا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبًا وتمرًا.
وقيل: يخرج من ثمنه.
الموفية عشرين: وأما ما لا يتتمّر من ثمر النخل ولا يتزبّب من العنب كعنب مصر (وبلحها)، وكذلك زيتونها الذي لا يُعصر، فقال مالك: تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلّف غير ذلك صاحبه، ولا يراعَى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالًا أو مائتي درهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر.
وقال الشافعيّ: يخرج عشره أو نصف عشره من وسطه تمرًا إذا أكله أهله رطبًا أو أطعموه.
الحادية والعشرون: روى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بَعْلًا العشر، وفيما سُقي بالسواني أو النَّضْح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سَيْحًا فيه العشر» وهو الماء الجاري على وجه الأرض؛ قاله ابن السِّكِّيت.
ولفظ السَّيْح مذكور في الحديث، خرّجه النَّسائيّ.
فإن كان يشرب بالسّيح لكن ربّ الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء؛ على المشهور من المذهب.
ورأى أبو الحسن اللخميّ أنه كالنضح؛ فلو سُقي مرّة بماء السماء ومَرّة بداليِة؛ فقال مالك: يُنظر إلى ما تمّ به الزرع وحيي وكان أكثر؛ فيتعلّق الحكم عليه.
هذه رواية ابن القاسم عنه.
ورَوى عنه ابن وهب: إذا سُقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسُقي بقيّة السنة بالناضح فإنّ عليه نصف زكاته عشرًا، والنصف الآخر نصف العشر.
وقال مَرّة: زكاته بالذي تمت به حياته.
وقال الشافعيّ: يُزَكَّى كلُّ واحد منهما بحسابه.
مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء؛ فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح! وهكذا ما زاد ونقص بحسابه.
وبهذا كان يفْتي بكّار بن قتيبة.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يُنظر إلى الأغلب فيزكّى، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك.
وروي عن الشافعيّ.
قال الطحاوِيّ: قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يومًا أو يومين أنه لا اعتبار به، ولا يجعل لذلك حصّة؛ فدلّ على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم.
قلت: فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعلّ غيرنا يأتي بأكثَر منها على ما يفتح الله له.
وقد مضى في البقرة جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله.
الثانية والعشرون: وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في حب ولا تمر صدقة» فخرّجه النَّسائيّ.
قال حمزة الكِنانيّ: لم يذكر في هذا الحديث: «في حب» غير إسماعيل بن أمَيّة، وهو ثقة قرشِيّ من ولد سعيد بن العاص.
قال: وهذه السّنة لم يروها أحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخُدْرِيّ.
قال أبو عمر: هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقّاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظٍ غيرُ أبي سعيد.
وقد روى جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولكنه غريب.
وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى: {وَلاَ تسرفوا} الإسراف في اللغة الخطأ.
وقال أعرابي أراد قومًا: طلبتكم فَسَرِفْتكم؛ أي أخطأت موضعكم.
وقال الشاعر:
وقال قائلهم والخيلُ تخبِطُهم ** أسرفتم فأجبنا أننا سَرَف

والإسراف في النفقة: التبذير.
ومُسرف لقب مسلم بن عُقْبَةَ المُرِّي صاحب وقعة الحَرَّة؛ لأنه قد أسرف فيها.
قال عليّ بن عبد الله بن العباس:
هُمُ منعوا ذِمارِي يوم جاءت ** كتائبُ مُسْرِفٍ وبنِي اللَّكِيعهْ

والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه؛ قاله أصْبَغ بن الفرج.
ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزتَ به أمر الله فهو سَرَف وإسراف.
وقال ابن زيد: هو خطاب للوُلاة، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس.
والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام: «المُعْتَدِي في الصدقة كمانِعها» وقال مجاهد: لو كان أبو قُبيس ذهبًا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مُسْرفًا، ولو أنفق درهمًا أو مُدًّا في معصية الله كان مسرفًا.
وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السّرف؛ فقال: لا سَرَف في الخير.
قلت: وهذا ضعيف؛ يردّه ما رَوى ابن عباس أن ثابت بن قَيس بن شَمّاس عَمَد إلى خمسمائة نخلة فجذّها ثم قسّمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئًا؛ فنزلت: {وَلاَ تُسْرِفُوا} أي لا تعطوا كلّه.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: جَذّ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدّق حتى لم يبق منه شيء: فنزل {ولا تسرفوا}.
قال السدّي: {ولا تسرفوا} أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء.
ورُوي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا} قال: الإسراف ما قصّرتَ عن حق الله تعالى.
قلت: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنع إخراج حق المساكين داخلين في حكم السرف، والعدل خلاف هذا؛ فيتصدق ويُبقي كما قال عليه السلام: «خير الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غِنًى» إلا أن يكون قوِيّ النفس غنيًّا بالله متوكّلًا عليه منفردًا لا عيال له، فله أن يتصدّق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يَعُنّ في بعض الأحوال من الحقوق المتعيّنة في المال.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لم يقدر على ردّه إلى الصلاح.
والسّرَف ما يقدر على ردّه إلى الصلاح.
وقال النّضْر بن شُميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل.
قال جرير:
أعْطَوْا هُنيدةَ يحدُوها ثمانية ** ما في عطائِهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ

أي إغفال، ويقال: خطأ.
ورجلٌ سَرِف الفؤاد، أي مخطئ الفؤاد غافله.
قال طَرفة:
إنّ امرأ سَرِفَ الفُؤاد يرى ** عَسلًا بماء سحابة شَتْمِي

. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} إلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: {مَعْرُوشَاتٍ} مَا عَرَشَ النَّاسُ مِنْ الْكُرُومِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ رَفْعُ بَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَقِيلَ إنَّ تَعْرِيشَهُ أَنْ يُحْظَرَ عَلَيْهِ بِحَائِطٍ، وَأَصْلُهُ الرَّفْعُ، وَمِنْهُ: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أَيْ عَلَى أَعَالِيهَا وَمَا ارْتَفَعَ مِنْهَا، وَالْعَرْشُ السَّرِيرُ لِارْتِفَاعِهِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الزَّرْعَ وَالنَّخْلَ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ثُمَّ قَالَ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ الْحَقِّ فِي سَائِرِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهُ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالسُّدِّيِّ وَإِبْرَاهِيمَ: نَسَخَهَا الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ: نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ عِنْدَ الصِّرَامِ غَيْرُ الزَّكَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ وَعَنْ صِرَامِ اللَّيْلِ»، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا لِأَجْلِ الْمَسَاكِينِ كَيْ يَحْضُرُوا قَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا حَصَدْت طَرَحْت لِلْمَسَاكِينِ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا نَقَّيْت وَإِذَا كَدَّسْت، وَيُتْرَكُونَ يَتَّبِعُونَ آثَارَ الْحَصَّادِينَ، وَإِذَا أَخَذْت فِي كَيْلِهِ حَثَوْت لَهُمْ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمْت كَيْلَهُ عَزَلْت زَكَاتَهُ، وَإِذَا أَخَذَتْ فِي جِدَادِ النَّخْلِ طَرَحْت لَهُمْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذْت فِي كَيْلِهِ، وَإِذَا عَلِمْت كَيْلَهُ عَزَلْت زَكَاتَهُ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مَنْسُوخٌ بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، يُبَيِّنُ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ تَجْوِيزُ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الصِّنْفِ الْمُوجَبِ فِيهِ، وَالْآخَرُ فِي مِقْدَارِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: فِي جَمِيعِ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ الْعُشْرُ إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ فِيمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ إلَّا مَا كَانَ لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْحُبُوبُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالذُّرَةُ وَالدُّخْنُ وَالْأُرْزُ وَالْحِمَّصُ وَالْعَدَسُ وَالْجُلْبَانُ وَاللُّوبْيَاءُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْحُبُوبِ وَفِي الزَّيْتُونِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّرْعِ زَكَاةٌ إلَّا التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنُ صَالِحٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا تَجِبُ فِيمَا يَيْبَسُ وَيُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ مَأْكُولًا، وَلَا شَيْءَ فِي الزَّيْتُونِ لِأَنَّهُ إدَامٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخُضَرِ صَدَقَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ دَسَاتِجِ الْكُرَّاثِ الْعُشْرَ بِالْبَصْرَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَفِي بَقَاءِ حُكْمِهِ أَوْ نَسْخِهِ، وَالْكَلَامُ بَيْنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هَلْ الْمُرَادُ زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ أَوْ حَقٌّ آخِرُ غَيْرُهُ؟ وَهَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؟ فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْحَقِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَمَتَى وَجَدْنَا حُكْمًا قَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَلَفْظُ الْكِتَابِ يَنْتَظِمُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُحْكَمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ إنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ وَأَنَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ حَقًّا غَيْرَهُ ثُمَّ إثْبَاتُ نَسْخِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ»؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الْعُشْرُ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ» بَيَانًا لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَقَوْلُهُ: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} مَنْسُوخًا بِالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا، فَأَمَّا مَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا مَعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَهُوَ الْعُشْرُ؟ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ هَذَا الْحَقَّ ثَابِتَ الْحُكْمِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَقٌّ آخَرُ غَيْرُ الْعُشْرِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الدِّيَاسِ وَعِنْدَ الْكَيْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو قَوْلُهُ هَذَا مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ عِنْدَهُ الْوُجُوبَ، أَوْ النَّدْبَ؛ فَإِنْ كَانَ نَدْبًا عِنْدَهُ لَمْ يَسُغْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُ الْأَمْرِ عَنْ الْإِيجَابِ إلَى النَّدْبِ إلَّا بِدَلَالَةٍ، وَإِنَّ رَآهُ وَاجِبًا، فَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ لَوَجَبَ أَنْ يَرِدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَلَكَانَ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ فِي نَقْلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْحَقَّ هُوَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ الَّذِي بَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.