فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويطلق الزّوج على الصنف من نوع كقوله تعالى: {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} في سورة الرّعد (3).
وكلا الإطلاقين الأخيرين صالح للإرادة هنا لأنّ الإبل والبقر والضأن والمعز أصناف للأنعام، ولأنّ كلّ ذلك منه ذكر وأنثى.
إذ المعنى أنّ الله خلق من الأنعام ذكرها وأنثاها، فالأزواج هنا أزواج الأصناف، وليس المراد زوْجًا بعينه، إذ لا تعرف بأعيانها، فثمانية أزواج هي أربعة ذكور من أربعة أصناف وأربعُ إناث كذلك.
وقوله: {من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} أُبدل {اثنين} من قوله: {ثمانية أزواج} قوله: {اثنين}: بدلَ تفصيل، والمراد: اثنين منها أي من الأزواج، أي ذَكَرٌ وأنثى كلّ واحد منهما زوج للآخر، وفائدة هذا التّفصيل التوصّل لذكر أقسام الذّكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله: {قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين} الآية.
وسُلك في التّفصيل طريق التّوزيع تمييزًا للأنواع المتقاربة، فإنّ الضأن والمعز متقاربان، وكلاهما يذبح، والإبلَ والبقرَ متقاربة، والإبلُ تنحر، والبقر تذبح وتُنحر أيضًا.
ومن البقر صنف له سنام فهو أشبه بالإبل ويوجد في بلاد فارس ودخل بلاد العرب وهو الجاموس، والبقرُ العربي لا سنام له وثَورها يسمّى الفريش.
ولمّا كانوا قد حرّموا في الجاهليّة بعض الغنم، ومنها ما يسمّى بالوصيلة كما تقدّم، وبعض الإبل كالبَحيرة والوصيلة أيضًا، ولم يحرّموا بعض المعز ولا شيئًا من البقر، ناسب أن يؤتى بهذا التّقسيم قبل الاستدلال تمهيدًا لتحكّمهم إذْ حرّموا بعض أفراد من أنواع، ولم يحرّموا بعضًا من أنواع أخرى، وأسباب التّحريم المزعومة تتأتى في كلّ نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنَّه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكّم.
والضأن بالهمز اسم جمع للغَنم لا واحد له من لفظه، ومفرد الضأن شاة وجمعها شاءٌ.
وقيل هو جمع ضَائن.
والضأن نوع من الأنعام ذواتتِ الظلف له صوف.
والمعز اسم جمع مفرده ماعِز، وهو نوع من الأنعام شبيه بالضأن من ذوات الظلف له شعر مستطيل، ويقال: مَعْز بسكون العين ومَعز بفتح العين وبالأول قرأ نافع.
وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف.
وقرأ بالثّاني الباقون.
وبعد أن تمّ ذكر المنّة والتّمهيد للحجّة، غيرّ أسلوب الكلام، فابتدئ بخطاب الرّسول عليه الصّلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عيّنوه من النّاس بقوله: {قل ءآلذكرين حرم} الآيات.
فهذا الكلام ردّ على المشركين، لإبطال ما شرعوه بقرينة قوله: {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} وقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} الآية.
فقوله: قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين إلى آخرها في الموضعين، اعتراض بعد قوله: {ومن المعز اثنين} وقوله: {ومن البقر اثنين}.
وضمير: {حرّم} عائد إلى اسم الله في قوله: {كلوا مما رزقكم الله} [الأنعام: 142]، أو في قوله: {وحرموا ما رزقهم الله} [الأنعام: 140] الآية.
وفي تكرير الاستفهام مرّتين تعريض بالتّخطئة، فالتّوبيخ والتّقريع الّذي يعقبه التّصريح به في قوله: {إن كنتم صادقين} وقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبًا} الآية.
فلا تردّد في أنّ المقصود من قوله: {قل ءآلذكرين حرم} في الموضعين إبطال تحريم ما حرّم المشركون أكله، ونفي نسبة ذلك التّحريم إلى الله تعالى.
وإنَّما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام.
وهو من المعضلات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}
وكلمة {أَزْوَاجٍ}، جمع زوج، والزوج يطلق على الشيء معه ما يقارنه مثل زوج النعل، ونحن في أعرافنا نأخذها على الاثنين، لكنها في الأصل تطلق على الواحد ومعه ما يقارنه، إلا أنه إذا لم يكن هناك فارق بين الاثنين بحيث لا يتم الانتفاع بأحدهما إلا مع الآخر ولكن لا تميز لأحدهما على الآخر كالجورب مثلا، ففي مثل هذا نستسمح اللغة في أن نسمي الاثنين زوجا، لكن إذا كان هناك خلاف بين الاثنين لا نقول على الاثنين: زوج.
والذكر والأنثى من البشر، صحيح أنهما يقترنان في أن كل واحد منهما إنسان، لكن للذكر مهمة وللأنثى مهمة مختلفة. أما الجوارب فكل فردة منها نضعها في أي قدم لأنه فارق بينهما، إذن كلمة زوج تطلق ويراد بها الشيء الواحد الذي معه ما يقارنه. والحق يقول: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة...} [البقرة: 35]
وكلمة زوج هنا أطلقت على حواء؛ فآدم زوج وحواء زوج، والحق هو القائل: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]
ولم يقل عن الاثنين: إنهما زوج وإلا لقال: خلق الزوج الذكر والأنثى. إذن فكلمة زوج تطلق على واحد معه ما يقارنه، مثلها كمثل كلمة توأم وهي لا تقال للاثنين، بل تقال لواحد معه آخر. لكن الاثنين يقال لهما: توأمان. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143]
و{من الضأن اثنين} أي ذكرها وأنثاها فتسمى الذكر كبشا والأنثى نعجة. ومن المعز اثنين، والذكر نسميه تيسًا، والأنثى نسميها عنزة، وبذلك يكون معنا أربعة، ومن هنا نفهم أن الزوج مدلوله فرد ومعه ما يقارنه.
{... قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]
ومادمتم أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: إن هذا من عند الله فقولوا لنا أحرّم الذكرين أم حرّم الأنثيين؟ ولا يجدون جوابًا؛ لأنه سبحانه لا حرّم هذا ولا حرّم ذاك، ولذلك أبرزت المسألة إبراز الاستفهام، والشيء إذا أبرز الاستفهام فمعناه أنه أمر مقرر بحيث إذا سألت الخصم لا يقول إلا ما تتوقعه، واسمه السؤال أو الاستفهام التقريري. ويقول الحق: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أخبروني بعلم ذلك في التحريم إن كنتم أهل صدق؛ لأنكم لستم أهلًا للتحريم، إنما يحرم ويحلل من خلق وشرع. فإن كان عندكم علم قولوا لنا هذا العلم.
ثم يأتي الحق بخبر الأربعة الباقية من الأنعام فيقول: {وَمِنَ الإبل اثنين...}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (144):

قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فصل الغنم إلى ضان ومعز، أغنى ذلك عن تنويع الإبل إلى العراب والبخت والبقر إلى العراب والجواميس،- ولأن هذه يتناتج بعضها من بعض بخلاف الغنم فإنها لا يطرق أحد نوعيها الآخر- نقله الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب الوصايا من شرح المنهاج عن كتاب الأعداد لابن سراقة فقال: {ومن الإبل اثنين} أي ذكرًا وأنثى {ومن البقر اثنين} أي كذلك {قل} أي لهؤلاء الذين اختلقوا جهلًا وسفهًا ما تقدم عنهم {ءآلذكرين} أي من هذين النوعين {حرم} أي حرمهما الله: {أم الأنثيين} أي حرمهما {أما} أي الذي {اشتملت عليه} أي ذلك المحرم على زعمكم {أرحام الأنثيين} أي حرمهما الله.
ولما كان التقدير: أجاءكم هذا عن الله الذي لا حكم لغيره على لسان نبي؟ عادله توبيخًا لهم وإنكارًا عليهم بقوله: {أم كنتم شهداء} أي حاضرين {إذ وصاكم الله} أي الذي لا ملك غيره فلا حكم لسواه {بهذا} أي كما جزمتم عليه به، أو جزمتم بالحرمة فيما حرمتموه والحل فيما أحللتموه، ولا محرم ولا محلل غير الله، فكنتم بذلك ناسبين الحكم إليه؛ ولما كان التقدير كما أنتجه السياق: لقد كذبتم على الله حيث نسبتم إليه ما لم تأخذوه عنه لا بواسطة ولا بغير واسطة، سبب عنه قوله معممًا ليعلم أن هذا إذا كان في التحريم والتحليل كان الكذب في أصول الدين أشد: {فمن أظلم} ووضع موضع منكم قوله معممًا ومعلقًا للحكم بالوصف: {ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الذي لا أعظم منه لأنه ملك الملوك {كذبًا} كعمرو بن لحي الذي غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وكل من فعل مثل فعله.
ولما كان يلزم من شرعهم لهذه الأمور إضلال من تبعهم فيها عن الصراط السوي، وكانوا يدعون أنهم أفطن الناس وأعرفهم بدقائق الأمور في بداياتها ونهاياتها وما يلزم عنها، جعل غاية فعلهم مقصودًا لهم تهكمًا بهم فقال: {ليضل الناس} ولما كان الضلال قد يقع من العالم الهادي خطأ، قال: {بغير علم}.
ولما كان هذا محل عجب ممن يفعل هذا، كشفه سبحانه بقوله استئنافًا: {إن الله} وهو الذي لا حكم لأحد سواه لا يهديهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميمًا بما هو أعم من وصفهم ليكون الحكم عليهم بطريق الأولى فقال: {لا يهدي القوم الظالمين} أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها فكيف بالأظلمين! وما أحسن هذا الختم لأحكامهم وأنسبه لما بناها عليه من قوله: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عطية:

القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم كالقول المتقدم في قوله: {من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} [الأنعام: 143] وكأنه قال أنتم الذين تدعون أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في {الذكرين} أو فيما {اشتملت عليه أرحام الأثنين} لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا فلم يبق إلا أنه لم يقع تحريم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين}
انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم ذلك وقت توصية الله إياهم بذلك، لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم؟ وكيفية انتفاء الشهادة منهم واضحة وكيفية انتفاء العلم بالعقل إن ذلك مستند إلى الوحي وكانوا لا يصدّقون بالرسل، ومع انتفاء هذين كانوا يقولون: إن الله حرم كذا افتراء عليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِنَ الإبل} زوجين {اثنين} الجمل والناقة، وهذا عطف على قوله سبحانه: {وَمِنْ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] والإبل كما قال الراغب يقع على البُعْران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع كما في القاموس على آبال والتصغير أُبَيْلة.
{وَمِنَ البقر اثنين} هما الثور وأنثاه {قُلْ} إفحامًا لهم في أمر هذين النوعين أيضًا {ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} الله تعالى منهما {أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} من ذينك النوعين، والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئًا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ.
وبيانه على ما قال السكاكي أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التثنية والتكرير من المبالغة أيضًا في الإلزام والتبكيت. اهـ.

.قال الفخر:

المراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول؟ وحاصل الكلام من هذه الآية: أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة؟ ولما بين ذلك قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحي، لأنه هو الذي غير شريعة إسماعيل، والأقرب أن يكون هذا محمولًا على كل من فعل ذلك، لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة، فالتخصيص تحكم محض.
قال المحققون: إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد، فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق.
قال القاضي: ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم، لا يليق بالله، لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح، فالذي هو أعظم منه أولى بالذم.
وجوابه: أنه ليس كل ما كان مذمومًا منا كان مذمومًا من الله تعالى ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} قال القاضي: لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها.
وقال أصحابنا: المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين، أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والكلام في ترجيح أحد القولين على الآخر معلوم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} يعني: إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا؟ فذلك قوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} {إِذْ وصاكم الله بهذا} يعني: أمركم الله بهذا التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ لاَ تتكلم» فقال: بل تكلم أنت فأسمع قال الله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بغير حجة وبيان {لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني: ليصرف الناس عن حكم الله تعالى بالجهل {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} يعني: لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقّهم إلى الهدى مجازاةً لكفرهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} الآية استفهام على جهة التوبيخ، إذ لم يبق لهم الادعاء المحال والتقوّل أنهم شاهدوا وصية الله لهم بهذا، و{شهداء} جمع شهيد، ثم تضمن قوله تعالى: {فمن أظلم} ذكر حال مفتري الكذب على الله وتقرير إفراط ظلمه، وقال السدي: كان الذي سيبوا وبحروا يقولون: الله أمرنا بهذا ثم بيّن تعالى سوء مقصدهم بالافتراء لأنه لو افترى أحد فرية على الله لغير معنى لكان ظلمًا عظيمًا فكيف إذا قصد بهما إضلال أمة، وقد يحتمل أن تكون اللام في {ليضل} لام صيرورة، ثم جزم الحكم لا رب غيره بأنه {لا يهدي القوم الظالمين}، أي لا يرشدهم، وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه مما يقتضيه الشرع أن الله يهدي ظلمة كثيرة بالتوبة. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الزمخشري: فتهكم بهم في قوله: {أم كنتم شهداء} على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل؛ انتهى.
وقدم الإبل على البقر لأنها أغلى ثمنًا وأغنى نفعًا في الرحلة، وحمل الأثقال عليها وأصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقيادًا في الإناخة والإثارة.
{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم} أي لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذبًا} فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه الله تعالى، فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسنّ هذه السنة الشنعاء وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
{إن الله لا يهدي القوم الظالمين} نفى هداية من وجد منه الظلم وكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه وهذا عموم في الظاهر، وقد تبين تخصيصه من ما يقتضيه الشرع. اهـ.

.قال الألوسي:

ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرًا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حرامًا، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حرامًا.
وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث.
وتعقبه بأنه بعيد جدًا لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا: إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرًا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى.
ولما لم يكن هذا الكلام لازمًا علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما.
ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبُخْتي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي: إنه المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم.
وقوله سبحانه: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} تكرير للإفحام والتبكيت، و{أم} منقطعة، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين {إِذْ وصاكم الله} أي أمركم وألزمكم {بهذا} التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولًا يخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه.
والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم، والمراد به على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى، وقيل: كبراؤهم المقررون لذلك، وقيل: الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى، والمراد فأي فريق أظلم ممن الخ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء.
ومن تابع عمرًا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدًا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به، والفاء لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم، ونصب {كَذِبًا} قيل على المفعولية، وقيل: على المصدرية من غير لفظ الفعل، وجعله حالًا أي كاذبًا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافًا لمن زعمه.
{لِيُضِلَّ الناس} متعلق بالافتراء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بمحذوف وقع حالًا من ضمير {افترى} أي افترى عليه سبحانه جاهلًا بصدور التحريم عنه جل شأنه، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانًا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور.
وجوز كونه حالًا من فاعل (يضل) على معنى متلبسًا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم.
وقيل: معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلًا بذلك غير عالم به، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه.
وجوز أن يكون الجار متعلقًا بمحذوف وقع حالًا من {الناس} وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم.
واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم، وفيه أنه ليس كل ما كان مذمومًا من الخلق كان مذمومًا من الخالق.
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} إلى طريق الحق، وقيل: إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضًا.
وقيل: إلى ما فيه صلاحهم عاجلًا وآجلًا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قال الفخر: أطبق المفسّرون على أنّ تفسير هذه الآية أنّ المشركين كانوا يحرّمون بعض الأنعام فاحتجّ الله على إبطال قولهم بأنْ ذكَرَ الضأن والمعز والإبل والبقر.
وذكر من كلّ واحد من هذه الأربعة زوجين ذكرًا وأنثى، ثمّ قال: إن كان حُرّم منها الذّكر وجب أن يكون كلّ ذكورها حرامًا، وإن كان حُرم الأنثى وجب أن يكون كلّ إناثها حرامًا، وأنَّه إن كان حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلّها.
حاصل المعنى نفي أن يكون الله حرّم شيئًا ممّا زعموا تحريمه إياه بطريق السبّر والتّقسيم وهو من طريق الجدل.
قلت: هذا ما عزاه الطّبري إلى قتادة، ومجاهد، والسدّي، وهذا لا يستقيم لأنّ السبر غير تامّ إذ لا ينحصر سبب التّحريم في النّوعيّة بل الأكثر أنّ سببه بعض أوصاف الممنوع وأحواله.
وقال البغوي: قالوا: {هذه أنعَام وحرث حجر} [الأنعام: 138] وقالوا: {ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا} [الأنعام: 139] وحرّموا البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي، فلمّا قام الإسلام جَادَلوا النّبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالكَ بن عوف الجُشَمي قالوا: يا محمّد بلغَنا أنَّك تحرّم أشياء ممّا كان آباؤنا يفعلونه.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّكم قد حرّمتم أصنافًا من النّعم على غير أصل، وإنَّما خلق الله هذه الأزواج الثّمانية للأكل والانتفاع بها، فمِن أيْن جاء هذا التّحريم أمِن قِبلَ الذّكر أم من قِبَل الأنثى.
فسكت مالك بن عوف وتحيَّر اهـ (أي وذلك قبل أن يُسلم مالك بن عوف) ولم يعزه البغوي إلى قائل وهو قريب ممّا قاله قتادة والسّدي ومجاهد فتبيّن أنّ الحجاج كلّه في تحريم أكل بعض هذه الأنواع من الأنعام، وفي عدم التّفرقة بين ما حرّموا أكله وما لم يحرّموه مع تماثل النّوع أو الصنف.
والّذي يؤخذ من كلام أئمَّة العربيّة في نظم الاستدلال على المشركين أنّ الاستفهام في قوله: {ءآلذكرين حرم} في الموضعين.
استفهام إنكاري، قال في الكشاف الهمزة في {ءآلذكرين} للإنكار.
والمعنى: إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسي الغنم شيئًا من نوعي ذكورها وإناثها وما تحمل إناثها وكذلك في جنسي الإبل والبقر، وبيّنه صاحب المفتاح في باب الطلب بقوله: وإن أردتَ به (أي بالاستفهام) الإنكا فانسجه على منوال النّفي فَقُل (في إنكار نفس الضرب) أضربت زيدًا، وقل (في إنكار أن يكون للمخاطب مضروبٌ) أزيدًا ضربت أم عمرًا، فإنَّك إذا أنكرت من يُردّد الضّرب بينهما (أي بزعمه) تولّد منه (أي من الإنكار عليه) إنكار الضرب على وجه بُرهاني ومنه قوله تعالى: {ءآلذكرين حرم أم الأنثيين}.
قال شارحه القطب الشّيرازي: لاستلزام انتفاء محلّ التّحريم انتفاءَ التّحريم لأنَّه عرض يمتنع وجوده، أي التّحريم، دون محلّ يقوم به فإذا انتفى (أي محلّه) انتفى هو أي التّحريم. اهـ.
قال ابن عاشور:
أقول وجه الاستدلال: أنّ الله لو حرّم أكل بعض الذّكور من أحد النّوعين لحرّم البعضَ الآخر، ولو حرّم أكل بعض الإناث لحرّم البعض الآخر.
لأنّ شأن أحكام الله أن تكون مطّردة في الأشياء المتّحدة بالنّوع والصّفة، ولو حَرّم بعض ما في بطون الأنعام على النّساء لحرّم ذلك على الرّجال، وإذْ لم يحرّم بعضها على بعض مَع تماثل الأنواع والأحوال.
أنتجَ أنَّه لم يحرّم البعض المزعوم تحريمُه، لأنّ أحكام الله منوطة بالحكمة، فدلّ على أنّ ما حرّموه إنَّما حرّموه من تلقاء أنفسهم تحكّمًا واعتباطًا، وكان تحريمهم ما حرّموه افتراءً على الله.
ونهضت الحجّة عليهم، الملجئةُ لهم، كما أشار إليه كلام النّبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن عوف الجُشمي المذكورُ آنفًا، ولذلك سَجَّل عليهم بقوله: {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} فقوله: {ءآلذكرين حرم} أي لو حرّم الله ءآلذكرين لسوّى في تحريمهما بين الرّجال والنّساء.
وكذلك القول في الأنثيين، والاستفهام في قوله: {ءآلذكرين حرم} في الموضعين مُستعمل في التّقرير والإنكار بقرينة قوله قبله: {سيجزيهم وصفهم إنَّه حكيم عليم} [الأنعام: 139].
وقوله: {ولا تتَّبعوا خطوات الشّيطان} [البقرة: 168].
ومعلوم أنّ استعمال الاستفهام في غير معنى طلب الفهم هو إما مجاز أو كناية.
ولذلك تعيَّن أن تكون {أم} منقطعة بمعنى (بل) ومعناها الإضراب الانتقالي تعديدًا لهم ويُقَدّر بعدها استفهام.
فالمفرد بعد {أم} مفعول لفعل محذوف، والتّقدير: أم أحرّم الأنثيين.
وكذلك التّقدير في قوله: {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} وكذلك التّقدير في نظيره.
وقوله: {من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} مع قوله: {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين} من مسلك السير والتقسيم المذكور في مسالك العلة من علم أصول الفقه.
وجملة: {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} بدل اشتمال من جملة؛ {ءآلذكرين حرم أم الأنثيين} لأنّ إنكار أن يكون الله حرّم شيئًا من ذكور وإناث ذينك الصنفين يقتضي تكذيبهم في زعمهم أنّ الله حرّم ما ذكروه فيلزم منه طلبُ الدّليل على دعواهم.
فموقع جملة {ءآلذكرين} بمنزلة الاستفسار في علم آداب البحث.
وموقع جملة: {نبئوني بعلم إم كنتم صادقين} بمنزلة المنع.
وهذا تهكّم لأنَّه لا يَطلب تلقّي علم منهم.
وهذا التَّهكّم تابع لصورة الاستفهام وفرعٌ عنها.
وهو هنا تجريد للمجاز أو للمعنى الملزوم المنتقل منه في الكناية.
وتثنية ءآلذكرين والأنثيين: باعتبار ذكور وإناث النّوعين.
وتعدية فعل: {حَرّم} إلى {الذّكرين} و{الأنثيين} وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، على تقدير مضاف معلوم من السّياق، أي: حرّم أكل ءآلذكرين أم الأنثيين إلى آخره.
والتّعريف في قوله: {ءآلذكرين} وقوله: {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} تعريف الجنس كما في الكشاف.
والباء في {بعلم}: يحتمل أن تكون لتعدية فعل الإنباء، فالعلم بمعنى المعلوم.
ويحتمل أن تكون للملابسة، أي نبّئوني إنباء ملابسًا للعلم، فالعلم ما قابل الجهل أي إنباء عالم.
ولمَّا كانوا عاجزين عن الإنباء دلّ ذلك على أنَّهم حرّموا ما حرّموه بجهالة وسوء عقل لا بعلم، وشأن من يتصدّى للتحريم والتّحليل أن يكون ذا علم.
وقوله: {إن كنتم صادقين} أي في قولكم: إنّ الله حرّم ما ذكرتم أنَّه محرّم، لأنَّهم لو كانوا صادقين في تحريم ذلك لاستطاعوا بيان ما حرّمه الله، ولأبدوا حكمة تحريم ما حرّموه ونسبوا تحريمه إلى الله تعالى.