فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَعَلَى الذين هَادُواْ} خاصة لا على مَنْ عداهم من الأولين والآخِرين {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} أي كلَّ ما له أصبَعٌ من الإبل والسباعِ والطيورِ وقيل: كلَّ ذي مِخْلبٍ وحافرٍ، وسُمِّيَ الحافرُ ظفُرًا مجازًا والمسبَّبُ عن الظلم هو تعميمُ التحريمِ حيث كان بعضُ ذواتِ الظفرِ حلالًا لهم فلما ظلموا عم التحريمُ كلَّها وهذا تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرَّماتِ فيما فُصِّل بإبطال ما يخالِفُه من فرية اليهودِ وتكذيبِهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أولَ من حرُمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمر إلينا.
{وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا لحومَهما فإنها باقيةٌ على الحل، والشحومُ الثروبُ وشحومُ الكلى والإضافةُ لزيادة الربطِ {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} استئناءٌ من الشحوم مُخرِّج لما علِق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم.
{أَوِ الحوايا} عطفٌ على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمعُ حاوية أو حاوِياء كقاصِعاء وقواصِعَ أو حَواية كسفينة وسفائن {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} عطف على ما حمَلَتْ وهو شحمُ الأَلْيةِ واختلاطُه بالعظم اتصالُه بعُجْب الذنب، وقيل: هو كلُّ شحمٍ متصلٍ بالعظم من الأضلاع وغيرِها {ذلك} إشارة إلى الجزاء أو التحريم، فهو على الأول نُصب على أنه مصدرٌ مؤكدٌ لما بعده وعلى الثاني على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك التحريمُ {جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} بسبب ظلمِهم وهو قتلُهم الأنبياءَ بغير حق وأكلُهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلُهم أموالَ الناس بالباطل، كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} وكانوا كلما أتَوْا بمعصية عُوقبوا بتحريم شيءٍ مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدّعون أنها لم تزَلْ محرمةً على الأمم، فرُدَّ ذلك عليهم وأُكِّد بقوله تعالى: {وِإِنَّا لصادقون} أي في جميع أخبارِنا التي من جملتها هذا الخبرُ، ولقد ألقمهم الحجرَ قوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ} روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بُهتوا ولم يجسُروا أن يُخرِجوا التوراة، كيف وقد بُيِّن فيها جميعُ ما يحذرون أوضحَ بيان. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَعَلَى الذين هَادُواْ} أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والسدي، وعن ابن زيد أنه الإبل فقط، وقال الجبائي: يدخل فيه كل السباع والكلام والسنانير وما يصطاد بظفره، وعن القتبي والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرًا مجازًا.
واستبعد ذلك الإمام، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حرامًا قبله.
ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة {حَرَّمْنَا} وهذا كما قيل تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهما السلام حتى انتهى التحريم إلينا، وقال بعض المحققين: إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبًا عليهم.
وقرأ الحسن {ظُفُرٍ} بكسر الظاء وسكون الفاء.
وقرأ أبو السماك بكسرهما.
وقرئ كما قال أبو البقاء {ظُفُرٍ} بضم الظاء وسكون الفاء.
{وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا لحومهما فإنها باقية على الحل، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى، وقيل: هو عام استثني منه ما سيأتي.
و{مِنْ البقر} متعلق بحرمنا بعده وكان يكفي حينئذ أن يقال: الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال: أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم، وجوز أبو البقاء وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر أن {مِنْ البقر} عطف على {كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} على معنى وبعض البقر وجعل {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} تبيينًا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه.
{إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} أي ما علق بظهورهما.
والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم.
وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحمًا يحنث بشحم البطن فقط.
وخالفه في ذلك صاحباه فقالا يحنث بشحم الظهر أيضًا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار.
وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال.
وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحمًا وبائعه يسمى لحامًا لا شحامًا.
والاتصال وإن كان أصلًا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى: {أَوِ الحوايا} فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والإمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة.
وللقائل بالاتصال أن يقول: العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الحوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء.
وجوز غير واحد أن يكون العطف على {ظُهُورُهُمَا} وأن يكون على {شُحُومَهُمَا} وحينئذ يكون ما ذكر محرمًا وإليه ذهب بعض السلف.
وهو يعطف قوله تعالى: {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص، وقيل: هو المخ ولا يقول أحد أنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضًا.
والحوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة ألفًا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا؛ وقيل: جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضًا وإعلاله كما علمت، وقيل: جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصل حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام ألفًا فصار حوايا.
وجوز الفارسي أن يكون جمعًا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضًا.
و{أَوْ} بمعنى الواو.
وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 135] وقال الزجاج: هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا.
و{أَوْ} بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيدًا وعمرًا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معًا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت: لا تطع زيدًا أو عمرًا أو خالدًا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدًا منهم ولا تطع الجماعة، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم بل المعنى كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدًا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب.
واختاره العلامة الثاني وقال: الوجه أن يقال إن كلمة {أَوْ} في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل.
وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال: وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزًا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط.
وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في {أَوْ} هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثنى منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم و{أَوْ} على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع.
{ذلك} إشارة إلى الجزاء أو التحريم فهو على الأول: نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده.
وعلى الثاني: على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم {جزيناهم} وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره.
وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارًا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والجلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارًا به إلى المصدر غير متبوع به.
وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه {بِبَغْيِهِمْ} أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل.
وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم.
وقيل: المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن إبراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضًا ولا بعد في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم.
{وِإِنَّا لصادقون} في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي.
وعد منها واقتصر عليه بعضهم الوعد والوعيد.
وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين، الأول: أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرًا.
والثاني: أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال: إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذًا وجب حمله على المخلب.
والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين، الأول: إفادة التركيب الحصر لغة، والثاني: أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصًا باليهود وحينئذ فما روي أنه صلى الله عليه وسلم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولًا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة: {وعلى الذين هادوا حرمنا} عَطْف على جملة: {قُل} [الأنعام: 145] عطفَ خبر على إنشاء، أي بيِّن لهم ما حرّم في الإسلام، واذكُرْ لهم ما حرّمنا على الّذين هادوا قبل الإسلام، والمناسبة أنّ الله لمّا أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام أن يبيّن ما حَرّم الله أكله من الحيوان، وكان في خلال ذلك تنبيه على أنّ ما حرّمه الله خبيث بعضُه لا يصلح أكله بالأجساد الّذي قال فيه {فإنه رجس} [الأنعام: 145]، ومنه ما لا يلاقي واجب شكر الخالق وهو الّذي قال فيه: {أو فِسقًا أهل لغير الله به} [الأنعام: 145] أعقب ذلك بذكر ما حرّمه على بني إسرائيل تحريمًا خاصًّا لحكمة خاصّة بأحوالهم، وموقَّتة إلى مجيء الشّريعة الخاتمة.
والمقصود من ذكر هذا الأخير: أن يظهر للمشركين أنّ ما حرّموه ليس من تشريع الله في الحال ولا فيما مضى، فهو ضلال بحت.
وتقديم المجرور على متعلَّقة في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا} لإفادة الاختصاص، أي عليهم لا على غيرهم من الأمم.