فصل: قال ابن القيّم في كتابه طريق الهجرتين بعد أن أطال في سرد أحاديث القدرة وآثاره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعلومٌ أنّ عقيدة الفرقة الناجية، الإيمانُ بأن: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلاّ ما يريد، وهو خالقٌ لأفعال العباد.!
وقد خالف في ذلك عامة القدرية- الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة- فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئًا من أفعال العباد. فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف أرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة. تبرأ منهم الصحابة. وأصل بدعتهم- كما قال ابن تيمية- كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه. وسنبيّن تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها- بعونه تعالى- بعدة وجوه فنقول:
قالوا: إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى. ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا، ولَمَا صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى ردّ عليهم مقالتهم وبيّن بطلانها وذمّهم عليها وأوعدهم عليها وعيدًا شديدًا. فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك، على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعّدهم؟
قلنا: إن المشيئة في الآية تتخرّج على وجوه:
أحدهما: ما قال الحسن والأصمّ- إن المشيئة هاهنا الرضا- فمرادهم: أنّ الله رضي بفعلنا وصنيعنا- حيث فعل آباؤنا ما فعلنا- فلم يَحُل الله بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك؛ فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه!
قال أبو منصور: وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أنّ الله رضي بذلك.
وبالجملة، أرادوا بقولهم ذلك. أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله. ولما كانت حجتهم داحضة باطلة- لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمّر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام- قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه! وهذا من التَهكّمِ والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.
وفي الوجيز: الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضيّ والمشيئة، كما اعتقدت المعتزلة، فاحتجوا على حقيّة الإشراك. وينادي على ذلك قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ} فإنه لو كان المراد أنّ ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال: {كَذَلكَ كَذَبَ} بالتخفيف لا التشديد. وهذه الآية- عند من له أذن واعية- تصيح على المعتزلة بالويل والثبور، لكن في آذانهم وقر، ومن لم يهده الله فلا هادي له. انتهى.
الوجه الثاني: إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك. أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فردّ تعالى عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء}.
الوجه الثالث: إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعًا لدعوته صلى الله عليه وسلم، وتعللًا لعدم إجابته وانقياده، لا تفويضًا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى. فما صدر عنهم كلمةُ حقّ أريد بها باطل. ولذلك ذمَّهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة، فقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ} بالتشديد، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك، وإلا لقال: {كَذَلِكَ كَذَبَ} بالتخفيف، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق.
وقال آخر: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم. فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم، إنما كان لاستهزائهم.
كما ذكر في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66]. وهي كلمة حقّ. لكن قالها استهزاء فلحقه الذم.
وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في المواقف وقرره أيضًا أبو منصور في تأويلاته.
قال الحسن بن الفضيل: لو قالوا هذه المقالة تعظيمًا لله وإجلالًا له ومعرفةً بحقه وبما يقولون، لما عابهم بذلك. ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبًا وجَدَلًا. من غير معرفة بالله وبما يقولون.
الوجه الرابع: ما يستفاد من قول الإمام: إنّ في كلام المشركين مقدمتين:
إحداهما: أن الكفر بمشيئة الله تعالى.
والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وما ورد من الذمّ والتوبيخ إنما هو على الثانية، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام، وإن كان لا يهدي إلاَّ من يشاء.
الوجه الخامس: إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتوّ.
قال البقاعي في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}: أي: بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم: إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثًا، فكانت دعوى الأنبياء باطلة. وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تامّ، لا يسأل عما يفعل.
وقال الإمام القاشاني قدس الله سره، في قوله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله، عنادًا وعتوًّا، فعذّبوا بكفرهم.
ثم قال في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: إن كان لكم علمٌ بذلك وحجةّ، فبيّنوا. وإنما قال ذلك، إشارة إلى قولهم: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} لأنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ، لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء، لا يقع إلا بإرادة الله. فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوْهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علمٍ، لما كانوا مشركين بل كانوا موحّدين، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزامًا لهم وإثباتًا لعدم امتناعهم عن الرسل. لأنهم محجوبون في مقام النفس. وأنَّى لهم اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟ وقوله تعالى: {قل فللَّه الحجة البالغة} أي: إن كان ظنكم صدقًا في تعليق شرككم بمشيئة الله، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذٍ بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم، بمن لا يقع أمرٌ إلا بإرادته، ما لا أثر لإرادته أصلًا. فأنتم أشقياء في الأزل مستحقّون للبعد والعقاب. وقوله تعالى: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: بلى، صدقتم. ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيءٍ علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن. انتهى.
الوجه السادس: ما في لباب التأويل من أنه قيل في معنى الآية: أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة- وهو قولهم: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا}- إلاّ أنهم كانوا يعدّونه عذرًا لأنفسهم، ويجعلونه حجّة لهم في ترك الإيمان، والردّ عليهم في ذلك: أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته؛ فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمرٍ بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرًا لأحد عليه في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان. وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل: أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسدٌ باطل، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كلّ الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام. انتهى.
الوجه السابع: ما قرره الناصر في الانتصاف: إنّ الرد عليهم إنَّما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجَّة على الله ورسله بذلك. فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم- عدم الاختيار لأنفسهم- وشبَّهَهُمْ بمن اغترّ قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل. وأشرك بالله، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كلّه بمشيئة الله، ورامّ إفحامّ الرسل بهذه الشبهة. ثم بيَّن الله تعالى أنهم لا حجّة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم، بقوله: {فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}. ثم أوضح تعالى أنّ كل واقع بمشيئته، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم. وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}: والمقصود من ذلك: أن يتمحّض وجه الردّ عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرّد؛ وينصرف الرّد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبّرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة. بل هو مجبور على أفعاله مقهورٌ عليها. وهم الفرقة المعروفون بـ (المجبرة). والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارًا وقدرةً، لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية. فمن هذه الجهة سوّى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبًا عامًا لأهل السنة. وبإجماع الرد على المجبرة- الذين ميزناهم عن أهل السنة- في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ}- إلى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}. وتتمة الآية ردٌّ صراح على (طائفة الاعتزال) القائلين بأنّ الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين. فلم تقع من أكثرهم!
ووجه الردّ: أن (لو) إذا دخلت على فعل مثبت نفته؛ فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: {فَلَوْ شَاء} لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم. ولو شاءها لوقعت. فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحلّ عقدهم. فإذا ثبت اشتمال الآية على ردّ عقيدة الطائفتين المذكورتين- المجبرة في أوّلها والمعتزلة في آخرها- فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها. فإن أوّلها- كما بيّنا- يثبت للعبد اختيارًا وقدرةً على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد، وأنّ جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، خيرًا أو غيره. وذلك عين عقيدتهم. فإنهم- كما يثبتون للعبد مشيئةً وقدرة- يسلبون تأثيرها، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجّته، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره. ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضًا وقدرته في أفعال عباده فهم- كما رأيت- تبعٌ للكتاب العزيز: يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل. والله الموفق. انتهى.
وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناسًا يقولون: ليس الشرّ بقَدَرَ. فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام 148]- إلى قوله: {فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي: لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر- من أن الله تعالى شاء منهم الكفر- لكانت الحجة للكفّار على الله، من حيث فعلوا ما شاء الله، ولكانوا بذلك مطيعين له. لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر. فأيّ حجّة له عليهم مع ذلك؟ انتهى.
وكذا قول الزمخشري: ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه. ولذا قال النحرير: نعم! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله. لكن الكفرة يحتجّون بذلك على حقية الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح. وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر، على ما هو مذهب القدرية: من عدم التفرقة بين المأمور والمراد، وأنّ كلّ ما هو مرادٌ لله فهو ليس بمعصية منهي عنها. والمجبرة- اعتقدوا أن الكلّ بمشيئة الله- لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد. فهم- في ذلك- يصدّقون الله فيما دلّ عليها العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء. والكفرة يكذّبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى. انتهى.

.قال ابن القيّم في كتابه طريق الهجرتين بعد أن أطال في سرد أحاديث القدرة وآثاره:

فالجواب أنّ هاهنا مقامين: مقام إيمانٍ وهدىً ونجاة، ومقام ضلالٍ وردى وهلاك، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء.
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة، فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإنْ لم يشأ الناس. وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس. وهذه الآثار- التي كلها تحقق هذا المقام- تبيّن أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه. وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله.
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله، وحمل العبد ذنبه على ربّه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمّارة بالسوء، حتى يقول قائل هؤلاء:
ألقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له ** إيّاك! إيّاك! أن تبتلّ بالماء

ويقول قائلهم:
دعاني وسدَّ الباب دوني. فهل إلى ** دخولي سبيلٌ؟ بيّنوا لي قصتّي

ثم ساق- رحمه الله- قصصًا غريبة في ذلك، ثم قال: وسمعته- يعني شيخ الإسلام ابن تيميّة- يقول:
القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة: نفاة القدر وهم (القدرية المجوسيّة). والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وهم (القدرية المشركية). والمخاصمون به للربّ سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم (القدرية الإبليسية) وشيخهم إبليس. وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف 16]. ولم يعترف بالذنب ويُبؤْ به كما اعترف به آدم. فمن أقرّ بالذنب وباء به ونزّه ربَّه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برّأ نفسه واحتجّ على ربّه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة. لأن النفاة إنما نفوه تنزيهًا للرب وتعظيمًا له أن يقدّر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب. ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة. بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه.. ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة. فأتى بطرّار (وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستلّ ما فيها). أحولَ. فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر- يعني سوطًا- فقال له بعض الحاضرين- ممن ينفي الجبر- بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطًا: خمسة عشر لطرّه ومثلها لحَولِهِ. فقال الجبريّ: كيف يضرب على الحَولَ ولا صنع له فيه؟ فقال كما يضرب على الطرّ ولا صنع له ليه، عندك.. فبُهتَ الجبري.