فصل: فصل: في تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربعة فرق:
الفرقة الأولى: جعلت هذه الآيات حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهى والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلمًا، والله لا يظلم من خلقه أحدًا وفرقة صدقت بالأمر والنهى والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم، والله يتصرف في ملكه كما يشاءُ، ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ العبد لا فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التي حكاها الله عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقادًا للقضاء والقدر وإسنادًا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر ذلك عليهم، ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فسادًا وبطلانًا.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله عز وجل يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم، فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علمًا لكانوا صادقين في الإخبار به ولم يقل لهم: {هَلْ عِندَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام: 148]، وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاءُ، ويشاء ما لا يكون، وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات، وأنه لا يقدر أن يضل أحدًا ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلى مصليًا والبر برًا والفاجر فاجرًا والمؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إِلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع، والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر.
والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.
والفرقة الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت بالأمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته. فالقضاءُ والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهى يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إلَه إلا الله، والقيام بالأمر والنهى موجب شهادة أن محمدًا رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر ويقوم بالأمر والنهى فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين: فرقة قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلًا على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، فإن الحكيم إذا كان قادرًا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إماعدم قدرته وإما عدم حكمته، وكلاهما ممتنع في حق الله، فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به، وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر، وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا يستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله تعالى للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرد خلقه له، فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه، فهكذا في الأفعال خلق خيرها وشرها، وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله تعالى الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته. وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة، فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالًا لدعوة الرسل ودفعًا لما جاؤوا به، وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصى والذنوب في نصف أقوالهم وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهى.
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما في جميع تركتهم وإما في كثير منها. وإما في جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنًا والمصلى مصليًا والمتقى متقيًا، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها؛ وأنه يهدى من يشاءُ بفضله ورحمته ويضل من يشاءُ بعدله وحكمته، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم جميعًا إيمانًا يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
والقضاءُ والقدر عندهم أربع مراتب جاءَ بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض. الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه. الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق، ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هي أمر وراء ذلك، وهى الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفي الوسيلة وهى الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما في الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائنًا ما كان.
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم- لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينى ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقًا من مخلوقاته كما قالوا في كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له، ولم يكلف أحدًا ما يقدر عليه بل كل تكليفه تكليف ما لا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة، ويجوز أن يعذب رجالًا إذ لم يكونوا نساءً ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالًا وسودًا حيث لم يكونوا بيضًا وبيضًا حيث لم يكونوا سودًا، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولًا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل صلوات الله وسلامه عليه ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهى والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيرًا كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِن الله الْعَزِيز الحكيم} [الزمر: 1]، وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ} [غافر: 1- 2] وقال: في حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]
وذكر نظير هذا في الأنعام فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَنًا وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب تعالى. وكذلك ارتباط أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم في خلقه عزيز في خلقه وأمره. ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهى تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفي الأثر: «الحكمة ضالة المؤمن»، وفى الحديث: «إن من الشعر حكمة»، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدًا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم.

.فصل: في تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه:

وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به، وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم في دعاءِ الاستفتاح: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ في يديك، والشر ليس إليك»، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه، وتحقيق ذلك أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها كما في خطبته صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»، فتضمن ذلك الاستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهى عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى اللام من باب إضافة المتغايرين، أو يقال: المراد السيئات من الأعمال، فعلى هذا الإضافة بمعنى من وهى من باب إضافة النوع إلى جنسه، ويدل على الأول قوله تعالى: {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] قال شيخنا: وهذا أشبه أنه إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنما تكون من عقوباتها، إذ الواقع لا يمكن دفعه وإن استعاذه منها قبل وقوعها لئلا تقع فهذا هو الاستعاذة من شر النفس. وأيضًا فلا يقال في هذه التي لم توجد بعد سيئات أعمالنا فإنها لم تكن بعد أعمالًا فضلًا عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضى وجودها إذ لم يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التي إذا عملناها كانت سيئات. ولمن رجح التقدير الثانى أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرمات منها، والأعمال أعم وحملها على المحرمات خاصة خلاف ظاهر اللفظ، بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى من فتكون الأعمال على عمومها والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها. ويترجح أيضًا أن الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل، وشر العمل الخارج الذي سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفة التي في النفس والثانى شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة، ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة، فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم، وهذا هو اللائق بمن أوتى جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع كلمة البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان.