فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} استئناف ابتدائي: للانتقال من طريقة الجدل والمناظرة في إبطال زعمهم، إلى إبطاله بطريقة التّبيين، أي أحضروا من يشهدون أنّ الله حرّم هذا، تقصيًا لإبطال قولهم من سائر جهاته.
ولذلك أعيد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يظهر كذب دعواهم.
وإعادة فعل {قل} بدون عطف لاسترعاء الأسماع ولوقوعه على طريقة المحاورة كما قدمناه آنفًا.
و{هلمّ} اسم فعللِ أمْرٍ للحُضور أو الإحضار، فهي تكون قاصرة كقوله تعالى: {هلمّ إلينا} [الأحزاب: 18] ومتعدية كما هنا، وهو في لغة أهل الحجاز يلزم حالة واحدة فلا تلحقه علامات مناسبة للمخاطب، فتقول: هلمّ يا زيدُ، وهلمّ يا هندُ، وهكذا، وفي لغة أهل العالية أعني بني تميم تلحقه علامات مناسبة، يقولون: هَلُمّي يا هند، وهلُمَّا، وهلُمّوا، وهلْمُمْنَ، وقد جاءَ في هذه الآية على الأفصح فقال: {هلم شهداءكم}.
والشّهداء: جمع شهيد بمعنى شاهد، والأمر للتّعجيز إذ لا يَلقون شهداء يشهدون أنّ الله حرّم ما نسبوا إليه تحريمه من شؤون دينهم المتقدّم ذكرها.
وأضيف الشّهداء إلى ضمير المخاطبين لزيادة تعجيزهم، لأنّ شأن المحقّ أن يكون له شهداء يعلمهم فيحضرهم إذا دُعي إلى إحقاق حقّه، كما يقال للرّجل: اركَب فرسك والْحَقْ فلانًا، لأنّ كلّ ذي بيت في العرب لا يَعدِم أن يكون له فرس، فيقول ذلك له من لا يعلم له فرسًا خاصًا ولكن الشأن أن يكون له فرس ومنه قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59] وقد لا يكون لإحداهن جلباب كما ورد في الحديث أنَّه سئل: إذا لم يكن لإحدانا جلباب، قال: لتُلْبِسْها أخْتُها من جلبابها.
ووصفُهم بالموصول لزيادة تقرير معنى إعداد أمثالهم للشّهادة، فالطّالب ينزّل نفسه منزلة من يظنّهم لا يخلُون عن شهداء بحقِّهم من شأنهم أن يشهدوا لهم وذلك تمهيد لتعجيزهم البين إذا لم يحضروهم، كما هو الموثوق به منهم ألا ترى قوله: {أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا} [الأنعام: 144] فهو يعلم أن ليس ثمة شهداء.
وإشارة {هذا} تشير إلى معلوم من السّياق، وهو ما كان الكلام عليه من أوّل الجدال من قوله: {ثمانية أزواج} [الأنعام: 143] الآيات، وقد سبقت الإشارة إليه أيضًا بقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا} [الأنعام: 144].
ثمّ فرع على فرض أن يحضروا شهداء يشهدون، قوله: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم}، أي إن فرض المستبعد فأحضروا لك شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا الذي زعموه، فكذّبهم وأعلم بأنَّهم شهود زور، فقوله: {فلا تشهد معهم} كناية عن تكذيبهم لأنّ الذي يصدق أحدًا يوافقه في قوله، فاستعمل النّهي عن موافقتهم في لازمه، وهو التّكذيب، وإلاّ فإنّ النَّهي عن الشّهادة معهم لمن يعلم أنَّه لا يشهد معهم لأنَّه لا يصدّق بذلك فضلًا على أن يكون شاهده من قبيل تحصيل الحاصل، فقرينة الكناية ظاهرة.
وعُطف على النّهي عن تصديقهم، النّهيُ عن اتّباع هواهم بقوله: {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا}.
وأظهر في مقام الإضمار قوله: {الذين كذبوا بآياتنا} لأنّ في هذه الصّلة تذكيرًا بأنّ المشركين يكذّبون بآيات الله، فهم ممّن يتجنّب اتَّباعهم، وقيل: أريد بالذين كذبوا اليهود بناء على ما تقدّم من احتمال أن يكونوا المراد من قوله: {فإن كذّبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة} [الأنعام: 147] وسمَّى دينهم هوى لعدم استناده إلى مستند ولكنّه إرضاء للهوى.
والهوى غلب إطلاقه على محبّة الملائم العاجل الذي عاقبته ضرر.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم} في سورة البقرة (145).
وقوله: {والذين لا يؤمنون بالآخرة} عطف على {الذين كذبوا} والمقصود عطف الصّلة على الصّلة لأنّ أصحاب الصّلتين متّحدون، وهم المشركون، فهذا كعطف الصّفات في قول القائل، أنشده الفراء:
إلى الملك القرم وابن الهما ** م وليثثِ الكتيبة في المزدَحَم

كان مقتضَى الظاهر أن لا يعاد اسم الموصول لأنّ حرف العطف مغن عنه، ولكن أجري الكلام على خلاف مقتصى الظاهر لزيادة التّشهير بهم، كما هو بعض نكت الإظهار في مقام الإضمار.
وقيل: أريد بالذين كذّبوا بالآيات: الذين كذّبوا الرّسول عليه الصّلاة والسّلام والقرَآن، وهم أهل الكتابين، وبالذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربِّهم يعدلون: المشركون، وقد تقدّم معنى: {بربهم يعدلون} عند قوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} في أوّل هذه السورة. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأنعام: آية 141]

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ}
{أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} من الكروم {مَعْرُوشاتٍ} مسموكات {وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} متروكات على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل: المعروشات ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه {وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} مما أنبته وحشيًا في البراري والجبال. فهو غير معروش. يقال: عرّشت الكرم، إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان. وسقف البيت: عرّشه {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ {أكله} بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. ومختلفًا: حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى: {فَادْخُلُوها خالِدِينَ}. وقرئ {ثمره} بضمتين. فإن قلت: ما فائدة قوله: {إِذا أَثْمَرَ} وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: إذا أثمر، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ} الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبًا حتى نسخه افتراض العشر، ونصف العشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة. ومعناه: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء {وَلا تُسْرِفُوا} في الصدقة كما روى عن ثابت بن قيس بن شماس أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئًا إلى منزله {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.

.[سورة الأنعام: الآيات 142- 144]

{وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)}
{حَمُولَةً وَفَرْشًا} عطف على جنات. أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش. وقيل: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} بدل من حمولة وفرشًا {اثْنَيْنِ} زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز- والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمى كل واحد منها زوجًا، وهما زوجان، بدليل قوله: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} والدليل عليه قوله تعالى: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} ثم فسرها بقوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة كأسًا بشرط أن يكون فيها خمر. والضأن والمعز جمع ضائن وما عز، كتاجر وتجر. وقرئا بفتح العين. وقرأ أبىّ. ومن المعزى. وقرئ: اثنان، على الابتداء.
الهمزة في {آلذَّكَرَيْنِ} للإنكار والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من العز.
وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم اللّه تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكورًا وإناثًا، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرّمها اللّه، فأنكر ذلك عليهم {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أخبرونى بأمر معلوم من جهة اللّه تعالى يدل على تحريم ما حرّمتم {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في أنّ اللّه حرّمه {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} بل أكنتم شهداء. ومعنى الهمزة الإنكار، يعنى أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون: اللّه حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم {لِيُضِلَّ النَّاسَ} وهو عمرو بن لحى بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.

.[سورة الأنعام: آية 145]

{قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)}
فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبى من المعدود. وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد {فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ} تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي اللّه تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس {مُحَرَّمًا} طعامًا محرّمًا من المطاعم التي حرّمتموها {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} أي مصبوبًا سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح.
{أَوْ فِسْقًا} عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهلّ به لغير اللّه فسقًا لتوغله في باب الفسق.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وأهل: صفة له منصوبة المحل.
ويجوز أن يكون مفعولا له من أهلّ، أي أهلّ لغير اللّه به فسقًا. فإن قلت: فعلام تعطف {أُهِلَّ}؟ وإلام يرجع الضمير في بِهِ على هذا القول؟ قلت: يعطف على يكون، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون {فَمَنِ اضْطُرَّ} فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات {غَيْرَ باغٍ} على مضطر مثله تارك لمواساته {وَلا عادٍ} متجاوز قدر حاجته من تناوله {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لا يؤاخذه.

.[سورة الأنعام: الآيات 146- 147]

{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)}
ذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالا لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط. والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذى ظفر وشحمه وكل شيء منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلا الشحوم الخالصة، وهي الثروب وشحوم الكلى.
وقوله: {إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما} يعنى إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة {أَوِ الْحَوايا} أو اشتمل على الأمعاء {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} وهو شحم الإلية. وقيل الْحَوايا عطف على شحومهما. و{أو} بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين {ذلِكَ} الجزاء {جَزَيْناهُمْ} وهو تحريم الطيبات {بِبَغْيِهِمْ} بسبب ظلمهم {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب. {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} في ذلك وزعموا أن اللّه واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جودًا وكرمًا {فَقُلْ لهم رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ} لأهل طاعته {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} مع سعة رحمته {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته.

.[سورة الأنعام: الآيات 148- 149]

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)}
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} إخبار بما سوف يقولونه، ولما قالوه قال: {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} يعنون بكفرهم وتمردهم. أن شركهم وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحل اللّه، بمشيئة اللّه وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي جاءوا بالتكذيب المطلق، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة اللّه وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب اللّه وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره {حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا} حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم {فَتُخْرِجُوهُ لَنا} وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} في قولكم هذا {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون. وقرئ {كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بالتخفيف {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ} يعنى فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة اللّه فللّه الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم {فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ} منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة اللّه يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضًا بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.