فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}..
قال أبو جعفر بن جرير الطبري:
يقول- جل ثناؤه- لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله. والقائلين: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- والمحرمين من أنعام أخر ظهورها، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها. والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومُحليه لذكورهم. المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم.
فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئًا محرمًا على آكل يأكله، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها- بزعمكم- إلا أن يكون {ميتة}، قد ماتت بغير تذكية، أو {دمًا مسفوحًا}، وهو المنصبّ، أو إلا أن يكون لحم خنزير {فإنه رجس}.. {أو فسقا} يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه. فإن ذلك الذبح فسق، نهى الله عنه وحرمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة.
وهذا إعلام من الله- جل ثناؤه- للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله.
وقال في تأويل قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم}:
أن معناه: فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو ما أهل لغير الله به، غير باغ في أكله إياه تلذذًا، لا لضرورة حالة من الجوع؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك.. لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه.. فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك. {فإن الله غفور} فيما فعل من ذلك، فساتر عليه، بتركه عقوبته عليه. ولو شاء عاقبه عليه. {رحيم} بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه. ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه.
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية.. فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقط عند خوف الهلاك لو امتنع.. ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع.. ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام.. ولا ندخل في تفصيلا ت الفروع.. فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع.
فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان- أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة؛ وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط. وحرم كذلك شحم البقر والغنم- إلا شحم الظهر، أو الدهن الملتف بالأمعاء، أو ما اختلط منه بالعظم.. وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}.
والنص يبين سبب هذا التحريم، وهو سبب خاص باليهود، ويؤكد أن هذا هو الصدق، لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل، وهو يعقوب جدهم، هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه.. لقد كان هذا مباحا حلالًا ليعقوب. ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا، فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات.
{فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}.
فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا، وبمن كان مؤمنا من عباده، وبغيرهم من خلقه. فرحمته سبحانه تسع المحسن والمسيء؛ وهو لا يعجل على من استحق العقاب؛ حلما منه ورحمة. فإن بعضهم قد يثوب إلى الله.. ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه، وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم.
وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس. والله الذي خلق قلوب البشر؛ يخاطبها بهذا وذاك؛ لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب.
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم، وسد الذرائع في وجوههم، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليهم شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم.. إنهم يقولون: إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال. فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}:
وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة... وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل، فتعقد تعقيدًا لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية.. ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد، ما اشتد هذا الجدل، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه.
ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه، فنجد قضية واضحة بسيطة محددة:
{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.. فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل.. يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم. فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا..
فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة؟
لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله.
وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد:
{كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}..
وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر، وتوقظ من الغفلة، وتوجه إلى العبرة..
واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر.. إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات.. وهذا ما يملكون أن يعلموه علمًا مستيقنًا.. فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه، فكيف يعلمونه؟ وإذا لم يعلموه يقينًا فكيف يحيلون عليه:
{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}..
إن لله أوامر ونواهي معلومة علمًا قطعيًا، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟
هذا هو فصل القول في هذه القضية.. إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه. وإنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه، ليكيفوا أنفسهم على حسبها.. وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام.. وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ- في واقعها العملي- يسيرة واضحة، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته!
إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يقهرهم على الهدى. أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر... ولكنه سبحانه شاء غير هذا! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته.. وجرت سنته بما شاء..
{قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}.
قضية واضحة، مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري. فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي.. ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة. لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها..
إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها، وأسلوب التعبير عنها كذلك. الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل. والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن. والحقيقة التي وراء هذا المدى، لابد أن تتناول بمنهج آخر.. هو كما قلنا من قبل: منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي. ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديمًا وحديثًا.
وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعًا عمليًا؛ تحدده أوامر ونواه واضحة. فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة، يرتادها العقل بغير دليل، ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود.
وأخيرًا يوجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة:
في أوائل السورة قال له:
{قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وهنا قال له: {قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون}..
إنها مواجهة هائلة، ومواجهة كذلك فاصلة. ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية.. إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله؛ وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس. بما لم يأذن به الله- دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله!- كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله، ولا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون.. أي يجعلون له أندادًا تعدله.. وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس- دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله!- وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة.
فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله سبحانه بهذا الحكم؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته؛ غير مؤمنين بالآخرة، مشركين يعدلون بربهم غيره.. فإن لنا أن نحاول الفهم. فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم..
إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم- مهما قالوا إنه من شرع الله- بأنهم يكذبون بآياته. لأن آياته- إن كان المراد بها آياته الكونية- كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد.. والخالق الرازق هو المالك. فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم.. فمن لم يفرده سبحانه بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه.. وإن كان المقصود آياته القرآنية، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده سبحانه بالحاكمية في حياة البشر الواقعية، واتخاذ شريعته وحدها قانونا، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر..
كذلك حكم عليهم سبحانه بأنهم لا يؤمنون بالآخرة.. فالذي يؤمن بالآخرة، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به. وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر.
ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره، وفي شريعته وحكمه..
ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون.. أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين.. ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله سبحانه في حق الحاكمية الذي تفرد به. أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون!
هذه- فيما يبدو لنا- هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به، بالتكذيب بآياته، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر.. أما الحكم ذاته فلا يملك مسلم أن يجادل فيه. فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها. فلينظر كل مسلم كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
أشار إلى أَنَّ مَنْ تجرَّد عن برهانٍ يُصَرِّحه وبيان (يوضِّحهُ) فغيرُ مقبول من فاعله. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآيات:

قال رحمه الله:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا؛ فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان، أو يحول بيننا وبين الكفر، فلم يغيره، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك؛ ولهذا قال: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20]، وكذلك التي في النحل مثل هذه سواء قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه، ودمر عليهم، وأدال عليهم رسله الكرام، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} أي: بأن الله تعالى راض عنكم فيما أنتم فيه {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي: فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي: الوهم والخيال. والمراد بالظن هاهنا: الاعتقاد الفاسد. {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} أي: تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وقال: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ثُمَّ قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}، يقول تعالى: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} لهم- يا محمد: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} أي: له الحكمة التامة، والحجة البالغة في هداية من هَدى، وإضلال من أضل، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويُبْغض الكافرين، كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119].
قال الضحاك: لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} أي: أحضروا شهداءكم {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} أي: هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه، {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي: لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبًا وزورًا، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يشركون به، ويجعلون له عديلا. اهـ.