فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

.قال أبو حيان:

وذكروا أيضًا أن في هاتين الآيتين من ضروب الفصاحة أنواعًا.
الأول: الخطاب العام اللفظ الخاص المعنى.
الثاني: الاستفهام الذي يراد به تقرير المعنى في النفس، أي يتقرر أن الإنذار وعدمه سواء عندهم.
الثالث: المجاز، ويسمى: الاستعارة، وهو قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} وحقيقة الختم وضع محسوس على محسوس يحدث بينهما رقم يكون علامة للخاتم، والختم هنا معنوي، فإن القلب لما لم يقبل الحق مع ظهوره استعير له اسم المختوم عليه فبين أنه من مجاز الاستعارة.
الرابع: الحذف، وهو في مواضع: منها: أن الذين كفروا، أي أن القوم الذين كفروا بالله وبك وبما جئت به.
ومنها: لا يؤمنون بالله وبما أخبرتهم به عنه.
ومنها: ختم الله على قلوبهم فلا تعي وعلى أسماعهم فلا تصغي.
ومنها: وعلى أبصارهم غشاوة على من نصب، أي وجعل على أبصارهم غشاوة فلا يبصرون سبيل الهداية.
ومنها: ولهم عذاب، أي ولهم يوم القيامة عذاب عظيم دائم، ويجوز أن يكون التقدير: ولهم عذاب عظيم في الدنيا بالقتل والسبي أو بالإذلال ووضع الجزية وفي الآخرة بالخلود في نار جهنم.
الخامس: التعميم: وهو في قوله: {ولهم عذاب عظيم} فإنه لو اقتصر على قوله: {عذاب} ولم يقل {عظيم} لاحتمل القليل والكثير، فلما وصفه بالعظيم تمم المعنى وعلم أن العذاب الذي وعدوا به عظيم، إما في المقدار وإما في الإيلام والدوام.
السادس: الإشارة، فإن قوله: {سواء عليهم} إشارة إلى أن السواء الذي أضيف إليهم وباله ونكاله عليهم ومستعل فوقهم، لأنه لو أراد بيان أن ذلك من وصفهم فحسب لقال: سواء عندهم، فلما قال: سواء عليهم، نبه على أنه مستعل عليهم، فإن كلمة على للاستعلاء وهو الذي قاله هذا القائل من أن على تشعر بالاستعلاء صحيح، وأما أنها تدل على أن الكلام تضمن معنى الوبال والنكال عليهم فليس بصحيح، بل المعنى في قولك سواء عليك وعندك كذا وكذا واحد، وإن كان أكثر الاستعمال بعلى، قال تعالى: {سواء علينا أوعظت أو لم تكن من الواعظين} {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} سواء عليها رحلتي ومقامي، وكل هذا لا يدل على معنى الوبال والنكال عليهم.
السابع: مجاز التشبيه شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق، وأسماعهم لإضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية بالوعاء المختوم عليه المسدود منافذه المغشي بغشاء يمنع أن يصل إليه ما يصلحه، لما كانت مع صحتها وقوة إدراكها ممنوعة عن قبول الخير وسماعه وتلمح نوره، وهذا كله من مجاز التشبيه، إذ الختم والغشاوة لم يوجدا حقيقة، وهو بالاستعارة أولى، إذ من شرط التشبيه أن يذكر المشبه والمشبه به. اهـ.

.قال في إشارات الإعجاز:

{خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
مقدمة:
اعلم! أنه لزمنا أن نقف هنا حتى نستمع لما يتكلم به المتكلمون؛ إذ تحت هذه الآية حرب عظيمة بين أهل الاعتزال واهل الجبر واهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسب أن نذكر اساسات لتستفيد منها:
إن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم، وماعداه إما افراط أو تفريط.
منها: أنه قد تحقق أَنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ إلا الله فإذًا لا تفويض.
ومنها: إن الله حكيم فلا يكون الثواب والعقاب عبثين فحينئذ لا اضطرار. فكما أن التوحيد يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنزيه يضرب على فم الجبر.
ومنها: أن لكل شيء جهتين: جهة مُلكية هي قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة تتوارد عليها الأشكال كظهر المرآة. وجهة ملكوتية تنظر إلى الخالق.
وتلك شفافة في كل شيء كوجه المرآة. فخلقُ القبيح ليس قبيحًا؛ إذ الخلق من جهة الملكوتية حسن، ولأن خلقه لتكميل المحاسن فيحسن بالغير. فلا تصغ إلى سفسطة الاعتزال!
ومنها: أن الحاصل بالمصدر أمر قارٌ مخلوق جامد لا يشتق منه الصفات. وأما المصدر فمكسوب نسبيّ اعتباريّ يشتق منه الصفات. فلا يكون خالق القتل قاتلا.. فَذَرْ أهل الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!
ومنها: أن الفعل الظاهريّ في الأغلب نتيجة لافعال متسلسلة منتهية إلى ميلان النفس الذي يسمّى بالجزء الاختياري. فتدور المنازعات على هذا الأساس.
ومنها: أن الإرادة الكلية الالهية ناظرة بعادته تعالى إلى الإرادة الجزئية للعبد، فلا اضطرار.
ومنها: أن العلم تابع للمعلوم، فلا يتبعه المعلوم حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل باحالة مقاييسه على القدر.
ومنها: أن خلق الحاصل بالمصدر متوقف على كسب المصدر بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواة في كسب المصدر والعقدة الحياتية فيه هي الميلان، فبحلّه تنحل عقدة المسألة.
ومنها: أن الترجح بلا مرجح محال دون الترجيح بلا مرجح فلا تُعلّلُ أفعالُه تعالى بالاغراض؛ بل اختياره تعالى هو المرجح.
ومنها: أن الأمر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزم الترجح بلا مرجح وهو محال كما مر. وأما الأمر الاعتباري فتخصصه بلا مخصص لا يلزم منه المحال.
ومنها: أن الموجود يجب أن يجب ثم يوجد. وأما الأمر الاعتباري فالترجح بلا انتهاء إلى حد الوجوب كاف فلا يلزم ممكن بلا مؤثر.
ومنها: أن العلم بوجود شيء لا يستلزم العلم بماهيته، وعدم العلم بالماهية لا يستلزم العدم. فعدم التعبير عن كُنهِ الاختيار لا ينافي قطعية وجوده.
وإذا تفطنت لهذه الأساسات فاستمع لما يُتلى عليك:
فنحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول: يا أهل الاعتزال! أن العبد ليس خالقًا للحاصل بالمصدر كالحاصل من المصدر، بل هو مصدر المصدر فقط؛ إذ لا مؤثر في الكون إلا الله، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا أهل الجبر! ليس العبد مضطرًا بل له جزء اختياري لأن الله حكيم. وهكذا يقتضي التنزيه.
فإن قلتم: كلما يُشرّح الجزء الاختياري بالتحليل لايظهر منه إلا الجبر.
قيل لكم:
أولًا: أن الوجدان والفطرة يشهدان أن بين الأمر الاختياري والاضطراري امرا خفيا فارقا، وجودُه قطعي. فلا علينا أن لانعبِّر عنه.
وثانيًا: نقول أن الميلان أن كان امرًا موجودًا- كما عليه الاشاعرة- فالتصرف فيه أمر اعتباري بيد العبد؛ وأن كان الميلان امرا اعتباريا- كما عليه الماتريدية- فذلك الأمر الاعتباري ثبوته وتخصصه لايستلزم العلة التامة الموجبة فيجوز التخلف. فتأمل!
والحاصل: أن الحاصل بالمصدر موقوف عادة على المصدر الذي اساسه الميلان الذي هو- أو التصرف فيه- ليس موجودًا حتى يلزم من تخصصه مرة هذا ومرة ذاك ممكن بلا مؤثر، أو ترجح بلا مرجح.. ولا معدومًا أيضًا حتى لايصلح أن يكون شرطا لخلق الحاصل بالمصدر أو سببًا للثواب والعقاب.
إن قلت: العلم الازلي والارادة الأزلية ينحيان على الاختيار بالقلع؟
قيل لك: إن العلم بفعلٍ باختيارٍ لا ينافي الاختيار.. وأيضا أن العلم الأزلي محيط كالسماء لا مبدأ للسلسلة كرأس زمان الماضي حتى تسند إليه المسببات متغافلا عن الأسباب موهما خروجها.. وأيضا أن العلم تابع للمعلوم، أي على أي كيفية يكون المعلوم، كذلك يحيط به العلم، فلا يستند مقاييس المعلوم إلى اساسات القدر.. وأيضا أن الإرادة لاتتعلق بالمسبب فقط مرة وبالسبب مرة اخرى حتى لاتبقى فائدة في الاختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقًا واحدًا بالمسبب وبسببه. وعلى هذا السر لو قتل شخص شخصًا بالبندقة مثلا، ثم فرضنا عدم السبب والرمي هل يموت ذلك الشخص في ذلك الآن أم لا؟ فاهل الجبر يقولون: لو لم يُقتل لمات ايضا لتعدد التعلق والانقطاع بين السبب والمسبب.. واهل الاعتزال يقولون: لم يمت، لجواز تخلف المراد عن الإرادة عندهم.. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: نتوقف ونسكت؛ إذ فرض عدم السبب يستلزم فرض عدم تعلق الإرادة والعلم بالمسبب ايضا، إذ التعلق واحد. فهذا الفرض المحال جاز أن يستلزم محالا. فتأمل!
مقدمة أخرى:
اعلم! أن الطبيعيين يقولون: أن للاسباب تأثيرًا حقيقيًا.. والمجوس يقولون: أن للشر خالقًا آخر.. والمعتزلة يدّعون: أن الحيوان خالق لإفعاله الاختيارية. وأساس هذه الثلاثة مبنية على وهمٍ باطلٍ، وخطأ محض، وتجاوز عن الحد وقياس مع الفارق، خدعهم وشبطهم؛ إذ ذهبوا ظنًا منهم إلى التنزيه فوقعوا في شَرَك الشِرك. وإن شئت التفصيل فاستمع لمسائل تطرد ذلك الوهم:
منها: أنه كما أن استماع الإنسان وتكلمه وملاحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على سبيل التعاقب؛ كذلك همتُه جزئية لا تشتغل بالاشياء إلا على سبيل التناوب.
ومنها: أن قيمة الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيته بدرجة همته.. وهمته بمقدار اهمية المقصد الذي يشتغل به.
ومنها: أن الإنسان إلى أى شيء توجّه يفنى فيه وينحبس عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس- في عرفهم- لا يسندون شيئا خسيسًا وأمرًا جزئيا إلى شخص عظيم وذاتٍ عال؛ بل إلى الوسائل ظنًا منهم أن الاشتغال بالأمر الخسيس لايناسب وقاره، وهو لايتنزل له ولا يسع الأمر الحقير همته العظيمة، ولا يوازن الأمر الخفيف مع همته العظيمة.
ومنها: أن من شأن الإنسان- إذا تفكر في شيء لمحاكمة احواله- أن يتحرى مقاييسه وروابطه واساساته، أولًا في نفسه، ثم في ابناء جنسه.. وأن لم يجد ففي جوانبه من الممكنات. حتى أن واجب الوجود الذي لا يشبه الممكنات بوجه من الوجوه إذا تفكر فيه الإنسان تلجؤه القوة الواهمة لأن يجعل هذا الوهم السئ المذكور دستورًا، والقياس الخادع منظارًا له. مع أن الصانع جل جلاله لاينظر إليه من هذه النقطة؛ إذ لا انحصار لقدرته.
ومنها: أن قدرته وعلمه وارادته جل جلاله كضياء الشمس- ولله الْمَثَلُ الاعْلى- شاملة لكل شئ، وعامة لكل امر. فلا تقع في الانحصار ولاتجئ في الموازنة. فكما تتعلق باعظم الاشياء كالعرش؛ تتعلق باصغرها كالجوهر الفرد.. وكما خلق الشمس والقمر؛ كذلك خلق عينَي البرغوث والبعوضة.. وكما اودع نظامًا عاليًا في الكائنات؛ كذلك اوقع نظامًا دقيقًا في امعاء الحيوانات الخردبينية.. وكما ربط الاجرام العلوية والنجوم المعلَّقة بقانونه المسمى بالجاذب العمومي؛ كذلك نظّم الجواهر الفردة بنظير ذلك القانون كأنه مثال مصغر لها. إذ بتداخل العجز تتفاوت مراتب القدرة. فمن امتنع عليه العجزُ تتساوى في قدرته الاشياء، إذ العجز ضد القدرة الذاتية. فتأمل!
ومنها: أن أول ماتتعلق به القدرة ملكوتية الاشياء وهي شفّافة حسنة في الكل كما مر. فكما أنه جل جلاله جعل وجه الشمس مجلىً ووجه القمر مستضيئا؛ كذلك صير ملكوتية الليل والغيم حسنة منيرة.
ومنها: أن مقياس عظمته تعالى وميزان كمالاته وواسطة محاكمة اوصافه لا يسعها ذهنُ البشر، ولا يمكن له إلا بوجه، بل إنما هو بما يتحصل من جميع مصنوعاته.. وبما يتجلى من مجموع آثاره.. وبما يتلخص من كل افعاله. نعم الذرة تكون مرآةً ولا تكون مقياسًا.
وإذا تفطنت لهذه المسائل فاعلم! أن الواجب تعالى لايقاس على الممكنات، إذ الفرق من الثرى إلى الثريا. ألا ترى أهل الطبيعة والاعتزال والمجوس- بناء على تسلط القوة الواهمة بهذا القياس على عقولهم- كيف التجأوا إلى اسناد التأثير الحقيقي إلى الأسباب، وخلق الأفعال للحيوان، وخلق الشر لغيره تعالى؟ يظنون ويتوهمون أن الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزّهه كيف يتنزل لهذه الأمور الخسيسة والاشياء القبيحة؟ فسحقًا لهم! كيف صيروا العقل اسيرًا لهذا الوهم الواهي هذا؟ ياهذا! هذا الوهم قد يتسلط على المؤمن ايضا من جهة الوسوسة فتجنَّب!.
أما تحليل كلمات هذه الآية ونظمها:
فاعلم! أن ربط {ختم} ب {لايؤمنون} وتعقيبه به نظير ترتب العقاب على العمل. كأنه يقول لما افسدوا الجزء الاختياري ولم يؤمنوا عوقبوا بختم القلب وسدّه. ثم لفظ الختم يشير إلى استعارة مركبة تومئ إلى أسلوب تمثيلي يرمز إلى ضربِ مَثَلٍ يصوِّر ضلالتهم؛ إذ المعنى فيه منع نفوذ الحق إلى القلب. فالتعبير بالختم يصور القلب بيتًا بناه الله تعالى ليكون خزينة الجواهر، ثم بسوء الاختيار فسد وتعفن وصار ما فيه سموما فاُغلق واُمهر ليُجتنب.
وأما الله فاعلم! أن فيه التفاتًا من التكلم إلى الغيبة. ومع نكتة الالتفات ففي مناسبة لفظ الله مع متعلق {لايؤمنون} في النية، أعني لفظ بالله، إشارة إلى لطافة، هي أنه لما جاء نور معرفة الله اليهم فلم يفتحوا باب قلبهم له تولى عنه مغضبًا واغلق الباب عليهم.
وأما على فاعلم! أن فيه- بناء على كون الختم متعديًا بنفسه- إشارة إلى تضمين ختم وسم، كأنه يقول: جعل الله الختم وسمًا وعلامةً على القلب يتوسمه الملائكة.. وفي على أيضا إيماء إلى أن المسدود الباب العلوي من القلب لا الباب السفلي الناظر إلى الدنيا.
وأما قلوبهم قدّمه على السمع والبصر لأنه هو محل الإيمان.. ولأن أول دلائل الصانع يتجلى من مشاورة القلب مع نفسه، ومراجعة الوجدان إلى فطرته، لأنه إذا راجع نفسه يحس بعجز شديد يلجؤه إلى نقطة استناد، ويرى احتياجًا شديدًا لتنمية آماله فيضطر إلى نقطة استمداد، ولا استناد ولا استمداد إلا بالإيمان.. ثم أن المراد بالقلب اللطيفة الربانية التي مظهر حسيّاتها الوجدان، ومعكس افكارها الدماغ، لا الجسم الصنوبري. فإذا في التعبير بالقلب رمز إلى أن اللطيفة الربانية لمعنويات الإنسان كالجسم الصنوبري لجسده. فكما أن ذلك الجسم ماكينة حياتية تنشر ماء الحياة لأقطار البدن، وإذا انسد وسكن جمد الجسد؛ كذلك تلك اللطيفة تنشر نور الحياة الحقيقية لاقطار الهيئة المجسمة من معنوياته واحواله وآماله. وإذا زال نور الإيمان- العياذ بالله- صارت ماهيته التي يصارع بها الكائنات كشبحٍ لاحراك به وأظلم عليه.
وأما {وعلى سمعهم} كرر {على} للإشارة إلى استقلال كلٍ بنوع من الدلائل. فالقلب بالدلائل العقلية والوجدانية. والسمع بالدلائل النقلية والخارجية، وللرمز إلى أن ختم السمع ليس من جنس ختم القلب.. ثم أن في افراد السمع مع جمع جانبيه ايجازًا ورموزًا إلى أن السمع مصدر، لعدم الجفن له.. وإلى أن المُسمِع فرد.. وأن المسموع للكل فرد.. وانه يسمع فردًا فردًا.. ولاشتراك الكل كأن اسماعهم بالاتصال صارت فردًا.. ولاتحاد الجماعة وتشخصها يتخيل لها سمع فرد.. وإلى اغناء سمع الفرد عن استماع الكل فحق السمع في البلاغة الافراد.. لكن القلوب والابصار مختلفة متعلقاتهما، ومتباينة طرقهما، ومتفاوتة دلائلهما، ومعلمهما على أنواع، وملقّنهما على اقسام. فلهذا توسط المفرد بين الجمعين. وعقّب القلب بالسمع لأن السمع ابٌ لملكاته، وأقرب إليه، ونظيره في تساوي الجهات الست عنده.
وأما {وعلى أبصارهم غشاوة} فاعلم! أن في تغيير الاسلوب باختيار الجملة الاسمية إشارة إلى أن جنانَ البصر التي يجتني منها دلائله ثابتة دائمة بخلاف حدائق السمع والقلب؛ فانها متجددة.. وفي اسناد الختم إلى الله تعالى دون الغشاوة إشارة إلى أن الختم جزاء كسبهم، والغشاوة مكسوبة لهم، ورمز إلى أن في مبدأ السمع والقلب اختيارًا، وفي مبدأ البصر اضطرارًا ومحل الاختيار غشاوة التعامي. وفي عنوان الغشاوة إشارة إلى أن للعين جهة واحدة. وتنكيرها للتنكير، أي التعامي حجاب غير معروف حتى يُتَحفظ منه.. قدّم {على أبصارهم} ليوجه العيون إلى عيونهم إذ العين مرآة سرائر القلب.
وأما {ولهم عذاب عظيم} فاعلم! أنه كما اشار بالكلمات السابقة إلى حنظلات تلك الشجرة الملعونة الكفرية في الدنيا؛ كذلك اشار بهذه إلى حنظلة جانبها الممتد إلى الآخرة وهي زقّوم جهنّم.
ثم أن سجية الاسلوب تقتضي {وعليهم عقاب شديد}. ففي ابدال على باللام والعقاب بالعذاب والشديد بالعظيم، مع أن كلا منها يليق بالنعمة رمز إلى نوعِ تهكم توبيخيّ تعريضيّ؛ كأنه ينعي بهم: ما منفعتهم، ولا لذتهم، ولا نعمتهم العظيمة إلا العقاب؛ نظير تَحِيَّةُ بَيْنهمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ. و{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ اَلِيمٍ}.
إذ اللام لعاقبة العمل وفائدته. فكأنه يتلو عليهم خذوا أجرة عملكم.
وفي لفظ العذاب رمز خفي إلى أن يذكرهم استعذابهم واستلذاذهم بالمعاصي في الدنيا فكأنه يقرأ عليهم ذوقوا مرارة حلاوتكم.
وفي لفظ ا ل {عظيم} إشارة خفية إلى تذكيرهم حال صاحب النعمة العظيمة في الجنة فكأنه يلقنهم: انظروا إلى ماضيعتم على انفسكم من النعمة العظيمة، وكيف وقعتم في الالم الاليم. ثم أن {عظيم} تأكيد لتنوين {عذاب}.
إن قلت: إن معصية الكفر كانت في زمان قليل والجزاء أبديّ غير متناه فكيف ينطبق هذا الجزاء على العدالة الالهية؟ وإنْ سُلِّم، فكيف يوافق الحكمة الأزلية؟ وإن سُلِّم، فكيف تساعده المرحمة الربانية؟
قيل لك: مع تسليم عدم تناهي الجزاء، أن الكفر في زمان متناهٍ جناية غير متناهية بست جهات:
منها: أن من مات على الكفر لو بقي أبدا لكان كافرًا أبدًا لفساد جوهر روحه، فهذا القلب الفاسد استعد لجناية غير متناهية.
ومنها: أن الكفر وأن كان في زمان متناه لكنه جناية على غير المتناهي، وتكذيب لغير المتناهي أعني عموم الكائنات التي تشهد على الوحدانية.
ومنها: أن الكفر كفرانٌ لنعمٍ غير متناهية.
ومنها: أن الكفر جناية في مقابلة الغير المتناهي وهو الذات والصفات الإلهية.
ومنها: أن وجدان البشر- بسر حديث: «لاَ يَسَعُني اَرْضِي وَلا سَمائي».
وأن كان في الظاهر والملك محصورًا ومتناهيًا لكن ملكوتيته بالحقيقة نشرت ومدت عروقها إلى الأبد. فهو من هذه الجهة كغير المتناهي وبالكفر تلوث واضمحل.
ومنها: أن الضد وأن كان معاندًا لضده لكنه مماثل له في أكثر الأحكام. فكما أن الإيمان يثمر اللذائذ الأبدية، كذلك من شأن الكفر أن يتولد منه الآلام الأبدية.
فمن مزج هذه الجهات الست يستنتج أن الجزاء الغير المتناهي إنما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلاّ عين العدالة.
إن قلت: طابق العدالة لكن أين الحكمة الغنية عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟
قيل لك: كما قد سمعت مرة أخرى أنه لايُترك الخير الكثير لتخلل الشر القليل لأنه شر كثير. إذ لما اقتضت الحكمة الالهية تظاهر ثبوت الحقائق النسبية التي هي أزيد بدرجات من الحقائق الحقيقية- ولا يمكن هذا التظاهر إلا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيف الشر على حدّه ومنع طغيانه إلا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثير الترهيب حقيقة في الوجدان إلا بتصديق الترهيب وتحقيقه بوجود عذاب خارجي؛ إذ الوجدان لا يتأثر حق التأثر- كالعقل والوهم- بالترهيب إلا بعد أن يتحدس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الامارات- فمن عين الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجود النار في الآخرة.
إن قلت: قد وافق الحكمة فما جهة المرحمة فيه؟
قلت: لا يتصور في حقهم إلاّ العدم أو الوجود في العذاب، والوجود- ولو في جهنم- مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة إلى العدم إن تأملت في وجدانك؛ إذ العدم شر محض، حتى أن العدم مرجع كل المصائب والمعاصي أن تفكرت في تحليلها. وأما الوجود فخير محض فليكن في جهنم.. وكذا أن من شأن فطرة الروح- إذا علم أن العذاب جزاء مزيل لجنايته وعصيانه- أن يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية ويقول: هو حق، وأنا مستحق. بل حبًا للعدالة قد يلتذ معنى! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق إلى اجراء الحد على نفسه ليزول عنه حجاب خجالة الجناية. وكذا أن الدخول وأن كان إلى خلود دائم وجهنم بيتهم أبدا، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع اُلفة وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. أشارت إليها الأحاديث. فهذا مرحمة لهم مع عدم لياقتهم. اهـ.