فصل: من فوائد الشوكاني في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشوكاني في الآيات:

قال رحمه الله:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)}
أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة، وهم كفار قريش أو جميع المشركين، يريدون أنه لو شاء الله عدم شركهم ما أشركوا هم ولا آباؤهم، ولا حرّموا شيئًا من الأنعام، كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقًا لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك، وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلًا يأمرونهم بترك الشرك، وبترك التحريم لما لم يحرمه الله، والتحليل لما لم يحلله: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثل ما كذب هؤلاء كذب من قبلهم من المشركين أنبياء الله: {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا بأسنا الذي أنزلناه بهم، ثم أمره الله أن يقول لهم: {هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي هل عندكم دليل صحيح بعد من العلم النافع، فتخرجوه إلينا لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم، لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة، ويقوم به البرهان، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون، أي ما يتبعون إلا الظنّ الذي هو محل الخطأ، ومكان الجهل {وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} أي تتوهمون مجرّد توهم فقط كما يتوهم الخارص، وقد سبق تحقيقه، ثم أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أن لله الحجة البالغة على الناس، أي التي تنقطع عندها معاذيرهم، وتبطل شبههم، وظنونهم وتوهماتهم.
والمراد بها الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، وما جاءوا به من المعجزات {فَلَوْ شَاء} هدايتكم جميعًا {لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ولكنه لم يشأ ذلك، ومثله قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 107] و{مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الأنعام: 111] ومثله كثير.
ثم أمره الله أن يقول لهؤلاء المشركين {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} أي هاتوهم وأحضرهم، وهو اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والمجموع عند أهل الحجاز، وأهل نجد يقولون: هلما هلمي هلموا، فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال، وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن، ومنه قوله تعالى: {والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] والأصل عند الخليل ها ضُمَّت إليها لم، وقال غيره: أصلها هل زيدت عليها الميم، وفي كتاب العين للخليل: أن أصلها هل أؤم، أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضًا من باب التبكيت لهم، حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرّم تلك الأشياء، مع علمه أن لا شهود لهم {فَإِن شَهِدُواْ} لهم بغير علم، بل مجازفة وتعصب {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم، فإنهم كاذبون جاهلون، وشهادتهم باطلة {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} أي ولا تتبع أهواءهم، فإنهم رأس المكذبين بآياتنا.
قوله: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} معطوف على الموصول، أي لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، وأهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلًا من مخلوقاته كالأوثان، والجملة إما في محل نصب على الحال، أو معطوفة على لا يؤمنون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن مجاهد، في قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} قال: هذا قول قريش إن الله حرم هذا، أي البحيرة والسائبة، والوصيلة والحام.
وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة: {قُل فلِلَّهِ الحجة البالغة} قال: السلطان.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس أنه قيل له إن ناسًا يقولون ليس الشرّ بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} إلى قوله: {فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر.
وأخرج أبو الشيخ، عن عليّ بن زيد، قال: انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} قال: أروني شهداءكم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
قَدْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانًا مُفَصِّلًا لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ، وَدَحْضًا لِشُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى شِرْكِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرُّسُلِ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَعَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ مَظَاهِرُ شِرْكِهِمْ مِنْ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، وَخُرَافَاتٍ وَتَضْلِيلٍ، وَأَوْهَامٍ وَأَبَاطِيلَ، وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِشُبْهَةٍ مِنْ أَكْبَرِ شُبُهَاتِهِمُ الَّتِي ضَلَّ بِمِثْلِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا أَوْرَدُوهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ السُّورَةَ جَامِعَةً لِكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ الْعَقَائِدِ وَإِثْبَاتِهَا بِالْحُجَّةِ النَّاهِضَةِ، وَإِبْطَالِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ الدَّاحِضَةِ، مَا قِيلَ مِنْهَا، وَمَا سَيُقَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِهَا. فَذَكَرَهَا وَرَدَّ عَلَيْهَا بِمَا يُبْطِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ إِخْبَارِهِ بِأُمُورِ الْغَيْبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} أَيْ سَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا نُشْرِكَ بِهِ مَنِ اتَّخَذْنَا لَهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ، وَأَلَّا نُعَظِّمَ مَا عَظَّمْنَا مِنْ تَمَاثِيلِهِمْ وَصُوَرِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ وَسَائِرِ مَا يُذَكِّرُ بِهِمْ- وَأَلَّا يُشْرِكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا كَذَلِكَ لَمَا أَشْرَكُوا وَلَا أَشْرَكْنَا- وَلَوْ شَاءَ أَلَّا نُحَرِّمَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمْنَا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَغَيْرِهِمَا لَمَا حَرَّمْنَا. أَيْ وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ نُشْرِكَ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ وَالشُّفَعَاءَ بِهِ وَهُمْ لَهُ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى، وَشَاءَ أَنْ نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَغَيْرِهَا فَحَرَّمْنَاهَا، فَإِتْيَانُنَا مَا ذُكِرَ دَلِيلٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، بَلْ عَلَى رِضَاهُ وَأَمْرِهِ بِهِ أَيْضًا،- كَمَا حَكَى عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [7: 28] وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّ مَشِيئَتَهُ مُلْزِمَةٌ وَمُجْبِرَةٌ، فَهُمْ غَيْرُ مُخْتَارِينَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [16: 35] وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [43: 20].
وَقَدْ رَدَّ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} إِلَخْ.
أَيْ مِثْلُ هَذَا التَّكْذِيبِ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ تَوْحِيدِ اللهِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَمِنْهَا حَقُّ التَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِرُسُلِهِمْ. أَيْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ تَكْذِيبًا جَهْلِيًّا غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَالرُّسُلُ- وَلاسيما خَاتَمُهُمْ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَدْ أَقَامُوا الْحُجَجَ الْعِلْمِيَّةَ وَالْعَقْلِيَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ، وَأَيَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُكَذِّبِينَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ نَظَرَ الْإِنْصَافِ لِاسْتِبَانَةِ الْحَقِّ، بَلْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَأَصَرُّوا عَلَى جُحُودِهِمْ وَعِنَادِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَهُ تَعَالَى، وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فَجَعَلَهَا الرُّسُلُ نَذِيرًا لَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَمَا دُونَهُ لِغَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَةُ اللهِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي إِجْبَارًا مُخْرِجًا لِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ.
وَهُوَ قَدْ قَالَ إِنَّهُ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَهْلَكَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ- وَلَوْ كَانَتْ مَشِيئَتُهُ لِذَلِكَ مُتَضَمِّنَةً لِرِضَاهُ عَنْ فَاعِلِهِ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِهِ- خِلَافًا لِمَا قَالَ الرُّسُلُ- لَمَا عَاقَبَهُمْ عَلَيْهِ تَصْدِيقًا لِلرُّسُلِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} بَيَانٌ لِلْبُرْهَانِ الْفِعْلِيِّ الْوَاقِعِ الدَّالِّ عَلَى صِدْقِ الرُّسُلِ فِي دَعْوَاهُمْ وَبُطْلَانِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ عَطَّلُوا شَرَائِعَهُمْ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِهَا وَبِهِمْ.
وَبَعْدَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْرِكِينَ بِدَلِيلٍ عِلْمِيٍّ عَلَى زَعْمِهِمْ فَقَالَ: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أَيْ هَلْ عِنْدَكُمْ بِمَا تَقُولُونَ عِلْمٌ مَا تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ وَتَحْتَجُّونَ بِهِ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا لِنَبْحَثَ مَعَكُمْ فِيهِ، وَنَعْرِضَهُ عَلَى مَا جِئْنَاكُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَحْكِيَّةِ عَنْ وَقَائِعِ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَكُمْ، وَنَنْصِبَ بَيْنَهُمَا الْمِيزَانَ الْقِسْطَ لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعْجِيزِ وَالتَّوْبِيخِ؛ وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ حَقِيقَةِ حَالِهِمْ فَقَالَ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ مَا مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ مَا تَتَّبِعُونَ فِي بَقَائِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَقِيدَةٍ وَقَوْلٍ فِي الدِّينِ وَعَمَلٍ بِهِ إِلَّا الظَّنَّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا لَيْسَ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْحِسِّ وَلَا ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ نَظَرِيَّاتٍ يَطْمَئِنُّ لَهَا الْقَلْبُ وَيُرَجِّحُهَا الْعَقْلُ، وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ أَصْلَيِ الدِّينِ وَهُمَا عَقَائِدُهُ وَقَوَاعِدُ التَّشْرِيعِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِهَا، بَلْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ وَأَضْعَفَهَا لَا يَعْدُونَهَا، وَهِيَ دَرَجَةُ الْخَرْصِ، أَيِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ الْحُكْمُ، كَخَرْصِ مَا يَأْتِي مِنَ النَّخِيلِ أَوِ الْكَرْمِ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخَرْصُ عَلَى لَازِمِهِ الَّذِي يَنْدُرُ أَنْ يُفَارِقَهُ وَهُوَ الْكَذِبُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ هُنَا.
بَعْدَ أَنْ نَفَى عَنْهُمْ أَدْنَى مَا يُقَالُ لَهُ عَلِمٌ، وَحَصَرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الظَّنِّ، مَعَ أَنَّ أَعْلَاهَا لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ مِنْ شَيْءٍ. أَثْبَتَ لِذَاتِهِ الْعَلِيَّةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحُجَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي لَا تَعْلُوهَا حُجَّةٌ فَقَالَ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ الدَّلَالَةُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْحُجَّةِ، أَيِ الْمَقْصِدُ الْمُسْتَقِيمُ- كَمَا قَالَ الرَّاغِبُ- فَهِيَ مِنَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ، وَالْمَعْنَى قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ بَنَوْا قَوَاعِدَ دِينِهِمْ عَلَى أَسَاسِ الْخَرْصِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ الظَّنِّ، بَعْدَ تَعْجِيزِكَ إِيَّاهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ أَوْ قَوْلٍ يَرْتَقِي إِلَى أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِلْمِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ مَا فِي أَمْرِ دِينِكُمْ، فَلِلَّهِ وَحْدَهُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، مِمَّا بَعَثَنِي بِهِ مِنْ مَحَجَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِحْقَاقِ الْحَقِّ وَإِزْهَاقِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ مَا بَيَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ وَمُوَافَقَتِهَا لِحِكَمِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْكَامِلَةِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ وَتَكْمِيلِهَا لِلنِّظَامِ الْعَامِّ، الَّذِي يُعَرِّجُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاقِي الْكَمَالِ، وَلَكِنْ لَا يَكَادُ يَهْتَدِي بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْأَكْوَانِ، الْمُبَيَّنَةِ فِي آيَةِ اللهِ الْكُبْرَى وَهِيَ الْقُرْآنُ، إِلَّا الْمُسْتَعِدُّ لِلْهِدَايَةِ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِلْحَقِّ الْحَرِيصُ عَلَى طَلَبِهِ، الَّذِي يَسْتَمِعُ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُ أَحْسَنَهُ، دُونَ مَنْ أَطْفَأَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى نُورَ فِطْرَتِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامَ عَقْلِهِ لِكِبْرِيَائِهِ وَشَهْوَتِهِ، الْمُعْرِضِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ اسْتِكْبَارًا عَنْهَا، أَوْ حَسَدًا لِلْمُبَلِّغِ الَّذِي جَاءَ بِهَا، أَوْ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، وَاتِّبَاعِ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّمَا الْحُجَّةُ عِلْمٌ وَبَيَانٌ، لَا قَهْرٌ وَلَا إِلْزَامٌ، وَمَا عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَإِلَّا فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَقَامَ أَمْرَ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَهِيَ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَمَا ثَمَّ إِلَّا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ أَوِ الْقَهْرُ وَالْإِلْزَامُ- لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ بِجَعْلِكُمْ كَذَلِكَ بِالْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مَفْطُورِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَطَاعَةِ الرَّبِّ {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [66: 6] أَوْ بِخَلْقِ الطَّاعَةِ فِيكُمْ بِغَيْرِ شُعُورٍ مِنْكُمْ وَلَا إِرَادَةٍ كَجَرَيَانِ دِمَائِكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ، وَهَضْمِ مِعَدِكُمْ لِطَعَامِكُمْ، أَوْ مَعَ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِكُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُونَ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَضَتِ الْحِكْمَةُ وَسَبَقَ الْعِلْمُ بِأَنْ يُخْلَقَ مُسْتَعِدًّا لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنُهُ يُرَجِّحُ بَعْضَ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ عَلَى بَعْضِ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُهُ لِأَحَدِ النَّجْدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَنْفِي مَشِيئَةَ اللهِ تَعَالَى وَلَا يُعَارِضُهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعَ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} [107] وَقَوْلُهُ مِنْهَا أَيْضًا: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [35] وَأَيْضًا {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39] وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [5: 48] وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [11: 118، 119] وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [10: 99] فَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كُلُّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُجْبِرَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ جَمِيعًا لَا لَهُمَا.