فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}
قال داود الأوْدِي، عن الشعبي، عن علَقْمَة، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو، حدثنا عبد الصمد بن الفضل، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة قال: سمعت ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}.
ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
قلت: ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس، به. والله أعلم.
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه من حديث يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على ثلاث؟»- ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من الآيات- فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه.
ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وإنما اتفقا على حديث الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا» الحديث. وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما، والله أعلم.
وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد- لهؤلاء المشركين الذين أشركوا وعبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم، {قُلْ} لهم {تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أي: أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا، ولا ظنًا، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده: {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق، وتقديره: وأوصاكم {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}؛ ولهذا قال في آخر الآية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكما قال الشاعر:
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا ** أنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أحَدا

ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا

وتقول العرب: أمرتك ألا تقوم.
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك، دخل الجنة. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق. قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر»: وفي بعض الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه، عليه السلام، قال في الثالثة: «وإن رغم أنفُ أبي ذر» فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: وإن رغم أنف أبي ذر.
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك».
ولهذا شاهد في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: «من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة» والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء: «لا تشركوا بالله شيئًا، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن، عن يزيد بن قَوْذر، عن سلمة بن شُرَيح، عن عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: «ألا تشركوا بالله شيئًا، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم».
وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا، أي: أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وقرأ بعضهم: ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين، كما قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 14، 15]. فأمر بالإحسان إليهما، وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية. [البقرة: 83]. والآيات في هذا كثيرة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها». قلت: ثم أيّ؟ قال: «بر الوالدين». قلت: ثم أيّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني.
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء، وعن عبادة بن الصامت، كل منهما يقول: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: «أطع والديك، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا، فافعل».
ولكن في إسناديهما ضعف، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لما أوصى تعالى ببر الآباء والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار؛ ولهذا جاء في الصحيحين، من حديث عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ». قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك». قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزَاني حليلة جارك». ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].
وقوله: {مِنْ إِمْلاقٍ} قال ابن عباس، وقتادة، والسُّدِّي: هو الفقر، أي: ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة سبحان: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، أي: خشية حصول فقر، في الآجل؛ ولهذا قال هناك: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فبدأ برزقهم للاهتمام بهم، أي: لا تخافوا من فقركم بسببهم، فرزقهم على الله. وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}؛ لأنه الأهم هاهنا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. وقد تقدم تفسيرها في قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 12].
وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغْيَر من الله، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ».
وقال عبد الملك بن عُمَيْر، عن وَرّاد، عن مولاه المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غيرة سعد! فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن». أخرجاه.
وقال كامل أبو العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، إنا. نغار. قال: «والله إني لأغار، والله أغير مني، ومن غيرته نهى عن الفواحش».
رواه ابن مَرْدُوَيه، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وهو على شرط الترمذي، فقد روي بهذا السند: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين».
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصحيحين، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
وفي لفظ لمسلم: «والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم...» وذكره، قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم، فحدثني عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، بمثله.
وروى أبو داود، والنسائي، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زانٍ مُحْصَن يُرْجَم، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض». وهذا لفظ النسائي.
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أنه قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كَفَر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس». فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفسا، فبم تقتلونني. رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ- وهو المستأمن من أهل الحرب- كما رواه البخاري، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما».
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا».
رواه ابن ماجه، والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: هذا ما وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ تَعَالَوْاْ} لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزًا بينًا أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن يبينَ لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذانًا بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ، وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ} الآية، وتعالَ أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقوله من مكان عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم، كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعًا ثم في الفوز بكل مطلبٍ من غير مشقة {اتل} جوابُ الأمر وقوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} منصوبٌ به على أن (ما) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ، أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه، أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو بحرم على أنها استفهاميةٌ، والجملةُ مفعولٌ لأتلُ لأن التلاوةَ من باب القول، كأنه قيل: أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم {عَلَيْكُمْ} متعلقٌ بحرّم على كل حال، وقيل: بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السرُّ في العرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم، فإن تذكيرَ كونِه تعالى ربًا لهم ومالكًا لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قوله تعالى: {أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ} مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم، و(لا) ناهيةٌ كما ينبئ عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه، وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسيرًا لتلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضًا كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيرًا لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداد ما تعلقت هي به، فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض، كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها، فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسر لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرمًا دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل: أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما، ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ هاهنا في سائر المواقعِ، وقيل: (أن) ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء، وقيل: النصبُ على البدلية مما حرم وقيل: من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة، وقيل: الجرُّ بتقدير اللام وقيل: الرفع بتقدير المتلُوِّ أن لا تشركوا، أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل: والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى: {شَيْئًا} نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئًا من الإشراك أو شيئًا من الأشياء {وبالوالدين} أي وأحسِنوا بهما {إحسانا} وقد رم تحقيقه {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد {مّنْ إملاق} أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى: {خَشْيَةَ إملاق} وقيل: هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سببًا لمباشرة المنهيِّ عنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} الآية، إلا أنه جيء هاهنا بصيغة الجمعِ قصدًا إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سرًا باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم. وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها، وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقًا كما وقع في سورة بني إسرائيلَ باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ: «إن ذاك وأدٌ خفيٌّ» ومن هاهنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقًا وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} أي حرم قتلَها بأن عصمَها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى: {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرُ الشرعِ بقتلها، وذلك بالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، وقتلِ النفسِ المعصومةِ، أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر، أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلًا ما إلا قتلًا كائنًا بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذان بعلوّ طبقاتِها بين التكاليف الشرعية، وهو مبتدأ وقوله تعالى: {وصاكم بِهِ} أي أمركم به ربكم أمرًا مؤكدًا خبرُه، والجملة استئنافٌ جيء به تجديدًا للعهد وتأكيدًا لإيجاب المحافظةِ على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقُبحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة. اهـ.