فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{قُلْ تَعَالَوْاْ} أمر له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانًا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم، و(تعال) أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازًا، ويحتمل هنا كما قيل أن يكون على الأصل تعريضًا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم ترقوا إلى ذروة العلم وقنة العز.
وقوله سبحانه: {اتل} جواب الأمر أي أن تأتوني أتل، و(ما) في قوله تعالى: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه، والمراد الآية الدالة عليه، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم، والجملة مفعول {اتل} لأن التلاوة ومن باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناءً على المذهب الكوفي من أنه تحكي الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلًا ونحوه.
والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم، وقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ} متعلق على كل حال بحرم، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرمًا على الكل كما لا يخفى.
{أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} أي من الإشراك أو شيئًا من الأشياء فشيئًا يحتمل المصدرية والمفعولية؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب (أن لا).
وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر {وبالوالدين} أي أحسنوا بهما {إحسانا} كاملًا لا إساءة معه.
وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللًا لهما، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان.
وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} بالوأد {خشية إملاق} [الإسراء: 31] من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه: {خَشْيَةَ إملاق} وقيل: الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابًا واحدًا فالمخاطب بقوله سبحانه: {مّنْ إملاق} من ابتلي بالفقر وبقوله تعالى: {خَشْيَةَ إملاق} من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عز وجل: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] وهو كلام حسن.
وأيًا ما كان فجملة {نَحْنُ} إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببًا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} أي الزنا، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرًا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وروي ذلك عن ابن عباس والضحاك والسدي، وقيل: المراد بها المعاصي كلها.
وفي المراد بما ظهر منها وما بطن على هذا أقوال تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة، ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات، ووجه توسيط هذا النهي عن النهي بين قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقًا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات.
وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل: «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله} أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمّي، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله {إِلاَّ بالحق} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر: «بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة» أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلًا إلا قتلًا كائنًا بالحق وهو القتل بأحد المذكورات.
{ذلكم} أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية {وصاكم بِهِ} أي طلبه منكم طلبًا مؤكدًا.
والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدًا للعهد وتأكيدًا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه.
وقال الإمام: جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادّعوا تحريمه من لحوم الأنعام، إلى دعوتهم لمعرفة المحرّمات، التي علمُها حقّ وهو أحقّ بأنْ يعلموه ممّا اختلقوا من افترائهم وموّهوا بجدلهم.
والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقامُ تعليم وإرشاد، ولذلك ابتدئ بأمر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدّم آنفًا.
وعُقّب بفعل: {تعالوا} اهتمامًا بالغرض المنتقل إليه بأنَّه أجدى عليهم من تلك السّفاسف التي اهتمّوا بها وهذا على أسلوب قوله تعالى: {ليس البِرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] الآيات.
وقوله: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر} [التوبة: 19] الآية، ليعلموا البون بين ما يَدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام، من جلائل الأعمال، فيعلموا أنَّهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم.
وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أنّ الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض.
وقد تلا عليهم أحكامًا قد كانوا جارين على خلافها ممّا أفسد حالهم في جاهليتهم، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم ممّا يؤخذ من النّهي عنها والأمر بضدّها.
وقد انقسمت الأحكام التي تضمّنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثّلاث المفتتحة بقوله: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامَّة بين النّاس وهو ما افتتح بقوله: {ألاَّ تشركوا به شيئًا}.
الثّاني: ما به حفظ نظام تعامل النّاس بعضِهم مع بعض وهو المفتتح بقوله: {ولا تَقْرَبوا مال اليتيم} [الأنعام: 152].
الثّالث: أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتّباع طريق الإسلام والتّحرّز من الخروج عنه إلى سبل الضّلال وهو المفتتح بقوله: {وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه} [الأنعام: 153].
وقد ذيّل كلّ قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله: {ذلكم وصاكم به} ثلاث مرّات.
و(تعالَ) فعل أمر، أصله يُؤْمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه، ولعلّ ذلك لأنَّهم كانوا إذا نَادوا إلى أمر مهمّ ارتقَى المنادي على ربوة ليُسمَع صوته، ثمّ شاع إطلاق (تَعالَ) على طلب المجيء مجازًا بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلّف الاعتلاء ثمّ نقل إلى طلب الإقبال مطلقًا، فقيل: هو اسم فعللِ أمر بمعنى (اقدَمْ)، لأنَّهم وجدوه غير متصرّف في الكلام إذ لا يقال: تعاليتُ بمعنى (قَدِمت)، ولا تعالَى إليّ فلان بمعنى جاء، وأيًّا ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال: تعالوا وتَعالَيْن.
وبذلك رجَّح جمهور النّحاة أنَّه فعل أمر وليس باسْم فِعل، ولأنَّه لو كان اسم فعل لما لحقتْه العلامات، ولكان مثل: هَلُمّ وهَيْهات.
و{أتْلُ} جواب {تعالوا}، والتّلاوة القراءة، والسّردُ وحكاية اللّفظ، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102].
و{ألاَّ تشركوا} تفسير للتّلاوة لأنَّها في معنى القول.
وذُكرَت فيما حرّم الله عليهم أشياءُ ليست من قبيل اللّحوم إشارة إلى أنّ الاهتمام بالمحرّمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة، تعريضًا بصرف المشركين همتّهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكفّ المفاسد عن النّاس، ونظيره قوله: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده إلى قوله إنَّما حرم ربِّي الفواحش ما ظهر منها} [الأعراف: 32، 33] الآية.
وقد ذُكرت المحرّمات: بعضها بصيغة النّهي، وبعضها بصيغة الأمر الصّريح أو المؤوّل، لأنّ الأمر بالشّيء يقتضي النّهي عن ضدّه، ونكتة الاختلاف في صيغة الطّلب لهاته المعدودات سنبيّنها.
و{أنْ} تفسيرية لفعل: {أتل} لأنّ التّلاوة فيها معنى القول.
فجملة: {ألا تشركوا} في موقع عطف بيان.
والابتداء بالنَّهي عن الإشراك لأنّ إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل، والفلاح في الآجل.
وقوله: {وبالوالدين إحسانا} عطف على جملة: {ألاَّ تشركوا}.
و{إحسانا} مصدر ناب مناب فعله، أي وأحسنوا بالوالدين إحسانًا، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النّهي عن ضدّه: وهو الإساءة إلى الوالدين، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حَرّم الله لأنّ المحرّم هو الإساءة للوالدين.
وإنَّما عدل عن النّهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين، لأن الله أراد برهما، والبرّ إحسان، والأمرُ به يتضمّن النَّهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة، فكان الأولاد لا يوقّرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر.
فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين.
وقوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النّهي عن الوأد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى في هذه السّورة (137): {وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} و(مِنْ) تعليلية، وأصلها الابتدائيّة فجعل المعلول كأنَّه مبتدئ من علّته.
والإملاق: الفقر، وكونه علّة لقتل الأولاد يقع على وجهين: أن يكون حاصلًا بالفعل، وهو المراد هنا، وهو الذي تقتضيه (من) التّعليلية، وأن يكون متوقَّع الحصول كما قال تعالى، في آية سورة الإسراء (31): {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} لأنَّهم كانوا يئدون بناتهم إمّا للعجز عن القيام بهنّ وإمَّا لتوقّع ذلك.
قال إسحاق بن خلف، وهو إسلامي قديم:
إذَا تذكرتُ بنتي حين تندبني ** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم

أحاذر الفقر يومًا أن يُلِمّ بها ** فيُكشفَ السترُ عن لحم على وضم

وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وكذلك زيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} في هذه السورة (137).
وجملة: {نحن نرزقكم وإياهم} معترضة، مستأنفة، علّة للنّهي عن قتلهم، إبطالًا لمعذرتهم: لأنّ الفقر قد جعلوه عذرًا لقتل الأولاد، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعيًا لقتل النّفس، فقد بيّن الله أنَّه لمّا خَلق الأولاد فقد قدّر رزقهم، فمن الحماقة أن يظنّ الأب أنّ عجزه عن رزقهم يخوّله قتلهم، وكان الأجدر به أن يكتسِبَ لهم.
وعُدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله: {ما حرم ربكم} إلى طريق التكلّم بضمير: نرزقكم تذكيرًا بالذي أمر بهذا القول كلّه، حتى كأنّ الله أقحمَ كلامَه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به، فكلّم النّاس بنفسه، وتأكيدًا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وذكَرَ الله رزقهم مع رزق آبائهم، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنَّه كما رزق الآباء، فلم يموتوا جوعًا، كذلك يرزق الأبناء، على أن الفقر إنَّما اعترى الآباء فلِمَ يُقتل لأجله الأبناء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي.
هنا لإفادة الاختصاص: أي نحن نرزقكم وإيَّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم.
وقد بيّنتُ آنفًا أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات.