فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثالث: أنها استِفْهَاميَّة، في محلِّ نَصْبٍ بـ {حَرَّم} بعدها، وهي مُعَلقة لأتْلُ والتَّقْدير: أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم، وهذا ضعيف؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها.
و{عليكم} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلِّق بـ {حَرَّم}؛ اختِيَار البَصْرِيِّين.
والثاني: أنه متعلِّق بـ {أتْلُ}؛ وهو اختيار الكُوفيِّين، يعني: أن المسألة من باب الإعْمَال، وقد عَرَفْت ان اختيرا البَصْريِّين إعمال الثَّاني واختيار الكوفيين إعْمَال الأوَّل.
قوله: {ألاَّ تُشْركُوا} فيه أوجُه:
أحدهما: أنَّ أنْ تفسيرية؛ لأنَّه تَقَدَّمَها مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه، ولا هي نَاهِيَة، و{تُشْركُوا} مجزوم بها، وهذا وَجْهٌ ظاهرٌ، وهو اختيار الفراء قال: ويجُوزُ أن يكون مَجْزومًا بلاَ على النَّهْي؛ كقولك: أمَرْتُك ألا تذْهب إلى زَيْد بالنَّصْب والجزم.
ثم قال: والجَزْم في هذه الآية الكريمة أحبُّ إليَّ؛ كقوله- تبارك وتعالى- {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} [الأعراف: 85] يعني: عَطْف هذه الجُمْلَة الأمْرِيَّة يُقَوِّي ما قَبَلَها نَهْي؛ ليتناسَبَ طَرفًا الكلام.
وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَري أيضًا؛ فإنه قال: وأنْ في {ألاَّ تُشْرِكُوا} مفسِّرة، لا للنَّهِي ثم قال بَعْد كلام: فإن قُلْتَ: إذا جَعَلت أن مُفَسِّرة لفعل التِّلاوة، وهو مُعَلَّق بما حَرَّم ربُّكم، وجب أن يكُون ما بَعْدَه مَنْهِيَّا عنه محرّمًا كُلُّهُ؛ كالشرك وما بَعْدَه مما دَخَل عليه حَرْف النَّهْي فما تصنع بالأوَامِرِ؟.
قال شهاب الدِّين: لَمَّا وَرَدَت هذه الأوَامِر مع النَّواهي، وتقدمَهُنَّ جميعًا فعل التَّحْريم، واشتركْنَ في الدُّخُول تحت حُكْمه، عُلِم أن التَّحْريم راجعٌ إلى أضْدَادِها، ويه الإسَاءة إلى الوَالديْن، وبَخْسُ الكَيْل والمِيزَان، وتَرْكُ العَدْل في القَوْل، ونكْثُ العَهْد.
قال أبو حيَّان رضي الله عنه: وكون هذه الأشْيَاء اشتركت في الدُّخُول تحت حكم التَّحْريم، وكون التَّحْريم راجعًا إلى أضْدَاد الأوَامِر؛ بعيدٌ جدًّا، وإلغاز في التَّعَامِي، ولا ضَرُورَة تدْعُو إلى ذلك.
قال شهاب الدين: ما اسَتْبْعَدَهُ ليس بِبَعيد، وأين الإلغَاء والتَّعَمِّي من هذا الكلامِ حتى يَرْمِيه به.
قال ابن الخَطِيب: فإن قيل: قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وبالوالدين إِحْسَانا} كالتَّفْصِيل لِما أجمله في قوله:- تبارك وتعالى: {ما حَرَّم} وذلك بَاطِلٌ؛ لأن تَرْكَ الشِّرْك والإحْسَان بالوالِدين واجبٌ لامُحَرَّم.
والجوبا من وجوه:
الأول: أن المُرَاد من التَّحْريم أن يَجْعَل له حريمًا معينًا، وذلك بأن بَيِّنَه بَيَانًا مَضْبُوطًا معيَّنًا؛ فقوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} معناه: أتْلُ عليكم ما بَيَّنَه بيانًا شَافِيًا؛ بحيث يجعل له حَرِيمًا مضبوطًا مُعَيَّنًا، وعلى هذا الَّقدير السُّؤال زائِلٌ.
الثاني: أن الكلام تمَّ وانْقَطع عند قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثم ابتدأ فقال: {عليكم ألا تشركوا}.
فإن قيل: فقوله: {وبالوالدين إحسانا} معطوف على قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [فوجب أن يكون قوله: {بالوالدين إحسانًا} مفسِّرًا لقوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}] فلزم أن يكون الإحسان بالوَالديْن حرامًا؛ وهو باطل.
قلنا لما أوجب الإحْسَان إليهما، فقدَّم تحريم الإسَاءة إليها، والله- تعالى أعْلَم.
ثم قال أبو حيَّان: وأمَّا عطف هَذِهِ الأوامِرِ فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنها مَعْطُوفة لا على المَنَاهِي قبلها، فيلزم انْسِحَاب التّحْريم عليها؛ حيث كانت في حيِّز أنْ التَّفْسِيريَّة، بل هي معطُوفةٌ على قوله: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أمرهم أوّلًا بأمر يترتَّبُ عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمَرَهُم ثانيًا بأوَامِر؛ وهذا مَعْنَى وَاضِح.
والثاني: أن تكون الأوَامِر معْطُوفة على المَنَاهِي، وداخلة تحت أنْ التَّفْسِيريَّة، ويصِحُّ ذلك على تَقْدير محْذُوفٍ، تكون أنْ مُفسِرة له وللمَنْطُوق قبله الذي دَلَّ على حَذْفِه، والتَّقْدير: وما أمَرَكُم به، فحذف وما أمَرَكُم به لدِلالةِ ما حرَّم عليه؛ لأن مَعْنَى ما حرَّم ربكم: ما نَهَاكُم ربُّكم عنه، فالمعنى: تعالَوْا أتْل ما نَهَاكُم ربُّكم عنه وما أمَرَكُم به، وإذا كان التَّقْدير هكذا، صح أن تكُون أن تَفْسيريَّة لفِعْل النَّهْي، الدَّال عليه التَّحريم وفِعْل الأمْر المَحْذُوف، ألا ترى أنَّه يَجُوز أن تَقُول: أمرتُكَ ألا تكْرِم جَاهِلًا وأكرم عَالِمًا إذ يجوز أن يُعْطَف الأمْرُ على النَّهي والنَّهي على الأمر؛ كما قال: [الطويل]
-............... ** يَقُولُونَ لا تَهِلِكْ أسى وتَجَمَّل

وهذا لا نَعْلَم فيه خلافًا، بخلاف الجمل المُتَبايِنَة بالخَبَر والاستِفْهَام والإنْشَاء؛ فإن في دواز العَطْف فيها خِلافًا انتهى.
الثاني: أن تكون أنْ نَاصِبَة للفْعِل بعدها، وهي وما في حَيِّزِهَا في محلِّ نَصْبٍ بدلًا من {مَا حَرَّم}.
الثالث: أنها النَّاصِبة أيضًا، وهي وما في حَيِّزها بدلٌ من العَائِد المحذُوف، إذا التَّقْدير: ما حَرَّمه، وهلي في المَعْنى كالذي قَبْلَه.
ولا على هذهين الوَجْهَيْن زائدة؛ لئلا يَفْسُد المعنى كزِيَادَتِها شفي قوله تعالى: {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] و{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] والتَّقْدير: حرّم ربُّكُم عليككم أن تُشْرِكوا.
قال أبو حيَّان: وهذا ضَعِيف؛ لانحصار عُمُوم المحرَّم في الإشْرَاك؛ إذ ما بعده من الأمْر ليس دَاخِلًا في المُحَرَّم، ولا ما بعدها الأمر مما فيه لا يمكن ادّعَا زِيَادة لا فيه؛ لظهور أنَّ لاَ فيه للنهْي، ولما مكِّي كونها بَدَلًا من مَا حَرَّم لم يُنَبّه على زيادة لاَ ولابد منه.
وقد مَنَع الزَّمَخْشَريُّ أن يكُون بدلًا من مَا حَرَّمَ فقال: فإن قُلْتَ: هلا قُلْت: فهي الَّتِي تَنْصِب الفْعْل، وجعلت {ألاَّ تُشْرِكُوا} بدلًا من {ما حَرَّمَ}.
قلت: وجب أن يكُون: ألاَّ تُشْرِكُوا، ولا {تَقْرَبوا} و{لا تقْتُلوا} و{لا تَتّبِعُوا السُّبُلَ} نواهي؛ لانعطاف الأوَامِر الأوَامِر عليها، وهي قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَانًا}؛ لأن التقْدير: وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَانًا، وأوْفُوا وإذا قلتم فاعدلوا، وبعهد الله أوفوا.
فإن قُلْت: فما تَصْنَع بقوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه} [الأنعام: 153] فيمن قَرَأَ بالفَتْح؛ وإنما يستقيم عَطْفُه على {ألاَّ تُشْرِكُوا} إذا جعلْت أنْ هي النَّاصِبَة، حتى يكون المَعْنَى: أتْل عَلَيْكُم نَفْي الإشْرَاكِ، وأتل عَلَيْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مستَقيًا؟
قلت: أجْعَلُ قوله: {وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيمًا} علَّةً للاتِّبَاع بتقدير اللام؛ كقوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَدًا} [الجن: 18] بمعنى: واتَّبْعُوا صراطِي، لأنَّه مسْتَقِيمٌ، أو: واتِّبِعُوا صِرَاطي أنَّه مُسْتَقيم.
واعترض عليه أبُو حيَّان بعد السُّؤال الأوّل وجوابه، وهو: فإن قلت: هلاَّ قُلْت هي النَّاصِبَة إلى: و{وبِعْهْد الله أوْفُوا} فقال: لا يَتَعَيِّنُ أن تكُون جِمِيع الأوَامِر معطُوفَة على ما دخل عليه لا لأنَّا بيَّنَّا جواز عَطْفِ {وبالوَالِدَيْن إحْسانًا} على {تَعَالَوْا} وما بَعْدَه معطوف عليه، ولا يكون قوله: {وبالوَالِدَيْن إحْسَانًا} معطوفًا على {ألا تُشْرِكُوا}.
الرابع: أن تكون أنْ النَّاصِبة وما في حَيِّزها مَنْصُوبة على الإغْرَاء بـ {عَلَيْكُم}، ويكون الكلامُ الأوَّل قد تمَّ عند قوله: {رَبُّكُم}، ثم ابْتَدأ فقال: عَلَيْكُم ألاَّ تُشْرِكوا، أي: ألزَمُوا نفي الإشْراك وعدمه، وإكان ذَكَرَه جماعةٌ كما نقله انب الأنْبَاريِّ- ضَعِيفٌ؛ لتفك التركيب عن ظَاهِرهِ؛ ولأنه يَتَبَادَر إلى الذِّهْنِ.
الخامس: أنها وما فِي حيِّزها نَصْب أو جرِّ على حَذْف لام العِلَّة، والتقدير: أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم لِئَلا تُشْرِكُوا، وهذا مَنْقُول عن أبِي إسْحَاق، إلا أن بَعْضَهم استَبْعَدَه من حَيْث إن ما بَعْدَه أمرٌ مَعْطُوف بالواو، ومناهٍ معطوفة بالواوِ أيضًا، فلا يُنَاسِب أن يكون تبيينًا لما حرَّم، أمَّا الأمْر فمن حيثُ المعنى، وأمّا المناهِي فمن حيثُ العَطْف.
السادس: أن يكون هِي وما بَعْندَها في محلِّ نصب بإضمار فِعْل، تقديره: أُوصِيكم ألاَّ تُشْرِكُواح لأن قوله: {وبالوالدين إِحْسَانًا} محمولٌ على أوصِيكُم بالوَالدَيْن إحْسَانًا، وها مذهب أبي إسْحَاق ايضًا.
السابع: أن يكون أنْ وما في حيِّزها في مَوْضع رَفْع على أنها خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: المُحَرَمُ ألاَّ تُشْرِكُوا، أو المَتْلُوُّ ألا تشركوا، إلا أن التَّقْدِير بنحو المَتْلُو أحْسَن؛ لأنه لا يُحْوِج إلى زِيَادة لا، والتقدير بالمحَرَّم ألاَّ تشركوا، يُحْوِج إلى زِيَادتِها لئلا يَفْسُد المَعْنَى.
الثامن: أنها في مَحَلِّ رفْع أيضًا على الابْتِدَاء، والخبر الجَارُّ قبله، والتقدير: علَيْكُم عَدَمُ الإشراكِ، ويكون الوَقْفُ على قوله: {رَبُّكم} كما تقدَّم في وجْه الإغْراءِ، هذا مذهب لأبي بَكْر بن الأنْبَاري؛ فإنه قال: ويجُوز ان يكُون في مَوْضِع رفع بعلى كما تقول: كُتِبَ عليكم الصيَام والحَجُّ.
التاسع: أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم، والتقدير: استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك.
وقد تحصَّلت في محلِّ {ألاَّ تُشْرِكُوا} على ثلاثة أوْجُه: الرَّفْع، والنَّصْب، والجرِّ: فالجَرُّ من وجْه واحدٍ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهِب الخَلِيل والكسَائيّ، والرفع من ثلاثة أوْجُه، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه، فمجموع عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها.
و{شيئًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَفْعُول به.
والثاني: أنه مصدر، أي: إشْرَاكًا، أي: شَيْئًا من الإشْرَاكِ.
وقوله: {وبالوالدين إِحْسَانًا} تقدم تَحْرِيره في البقرة [الآية 83].
قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَانًا} الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن: بِرُّهُما وحِفْظُهما، وإمْتِثَال أمرهما، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما، و{إحْسَانَا} نصْب على المصْدر، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَانًا.
قوله: {مِنْ إمْلاقٍ} {مِنْ} سَبَيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه، أي: لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ.
والإملاق: الفَقْر في قول ابن عبَّاس.
وقيل: الجوع بلغة لخم، نقله مؤرج.
وقيل: الإسْرَاف، أمْلق أي: أسْرف نَفَقَتِه، قال محمد بن نعيم اليزيدي.
وقيل: الإنْفَاق، أملق ماله أي: أنفقه، قال المُنْذِر بن سَعِيد، والإملاق: الإفْسَاد أيضًا، قاله شمر قال: وأمْلَقَ يكون قَاصِرًا ومتعدِّيًا، أملق الرَّجُل: إذا افْتَقَر هذها قَاصِرن وأمْلَق ماعِنْدَه الدَّهْر، أي: أفْسَدَه وأنشد النَّضْر بن شيمل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر: [الطويل]
ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي ** وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ

أي: تَذْهَب بالمَالِ، تَنَبَّلَتْ بما عِنْدي: أي ذهبت به، معنى الآية الكريمة: لا تَقْتُلوا أولادكم خَشْيَة العَيْلَة.
وفي هذه الآية الكريمة قال: طنحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم فقدَّم المُخَاطبين، وفي الإسراء: قدّم ضَمِير الأولاد عليهم: فقال: {نحن نَرْزُقُهُم وإيَّاكُم} فقيل: للتَّفَنُّنِ في البلاغة.
وأحسن منه أن يقال: الظَّاهِر من قوله: {مِنْ إمْلاقٍ} حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه، فبُدِئ أوَّلًا بالعَدَةِ برزق الآبَاء؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق.
وأمّا في آية: {سبحان} [الإسراء: 1] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر؛ ولذلك قال: خَشْيَةَ إمْلاق، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة، فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقَهم، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي للآباء عن قَتْل الأولاد، وإن كانوا مُتَلَّبِّسِين بالفَقْر، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يَخًافُون وُقُوع الفَقْر، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ معنى واحدٍ للتَّأكِيد.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} الآية.
فقوله: {إلاَّ بالحقِّ} في محلِّ نَصْب على الحالِ من فاعل {تَفْتُلُوا} أي: لا تَقْتُلُوا إلاَّ مُتَلَبِّسِين بالحق، ويَجُوز أن يكون وَصْفًا لمصدر مَحْذُوف، أي: إلاَّ قَتْلًا متلَبسًا بالحقِّ، وهو أن يكون القَتْل للقِصَاصِ، أو للرِّدَّة أو للزنا بشرطة، كما جاء مبنيًا في السُّنَّة.
قال القرطبي: وتَارك الصَّلاة، ومَانِع الزَّكَاة، وقد قتل الصَّدِّيق مانع الزَّكَاة، وقال تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
قوله: {ولا تَقْتُلُوا} هذه شبيه بذكر الخاصِّ بعد العامِّ اعتناءً بِشَأنهِ؛ لأن الفَواحِش يَنْدَرج فيها قَتْل النَّفْس، فجرَّد منها هذا اسْتِفظَاعًا له وتَهْويلًا؛ ولأنَّه قد استَثْنَى منه في قوله: {إلاَّ بالحقِّ} ولو لم يَذْكر هذا الخَاصَّ، لم يَصِحَّ الاستِثْنَاء من عُمُوم الفَوَاحش، لو قيل في غَيْر القُرآن العظيم: {لا تَقْرَبُوا الفواحش إلا بالحقِّ} لم يكن شيئًا.
قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به} في الجُمْلَة الفِعْليَّة بعده.
والثاني: أنه في محلِّ نصب بفعل مُقدَّر من مَعْنَى الفِعْل المتأخر عنه، وتكون المَسْألة من باب الاشْتِغَال، والتقدير: ألزَمَكُم أو كَلَّفَكُم ذلك، ويكون {وصَّاكُمْ بِهِ} مفسِّرًا لهذا العَامِل المقدَّر؛ كقوله تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] ونَاسَب قوله هنا: {لَعَلَّكُم تَعْقِلُون} لأن العقل مَنَاط التَّكْليف والوَصيَّة بهذه الأشْيَاء المَذْكُورة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (152):

قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المال عديل الروح من حيث إنه لا قوام لها إلا به، ابتدأ الآية التي تليها بالأموال، ولما كان أعظمها خطرًا وحرمة مال اليتيم لضعفه وقلة ناصره، ابتدأ به فنهي عن قربه فضلًا عن أكله أو شربه فقال: {ولا تقربوا مال اليتيم} أي بنوع من أنواع القربان عمل فيه أو غيره {إلا بالتي هي أحسن} من الخصال من السعي في تنميته وتثميره وليستمر ذلك {حتى يبلغ أشده} وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وعقل يظهر به رشده؛ ثم ثنى بالمقادير على وجه يعم فقال: {وأوفوا} أي أتموا {الكيل والميزان} لأنهما الحكم في أموال الأيتام وغيرهم؛ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما قاربه نحو {قد قامت الصلاة} أي قرب قيامها، وهذا وقت كذا- وإذا قرب جدًا، أزيل هذا الاحتمال بقوله: {بالقسط} أي إيفاء كائنًا به من غير إفراط ولا تفريط.
ولما كانت المقادير لا تكاد تتساوى لاسيما الميزان فإنه أبعدها من ذلك، وأقربها الذرع وهو داخل في الكيل، فإنه يقال: كال الشيء بالشيء: قاسه، أشار إلى أنه ليس على المكلف المبني أمره على العجز للضعف إلا الجهد فقال: {لا نكلف} أي على ما لنا من العظمة {نفسًا إلا وسعها} وما وراء الوسع معفو عنه؛ ثم ثلث بالعدل في القول لأنه الحكم على الأموال وغيرها، وقدم عليه الفعل لأنه دال عليه، فصار الفعل موصى به مرتين فقال: {وإذا قلتم} أي في شهادة أو في حكم أو توفيق بين اثنين أو غير ذلك {فاعدلوا} أي توفيقًا بين القول والفعل.
ولما كانت النفوس مجبولة على الشفقة على القريب قال: {ولو كان} أي المقول في حقه له أو عليه بشهادة أو غيرها {ذا قربى} ولا تحابوه طمعًا في مناصرته أو خوفًا من مضارته؛ ثم ختم بالعهد لجمعه الكل في القول والفعل فقال: {وبعهد الله} أي الملك الأعظم خاصة {أوفوا} وهذا يشمل كل ما على الإنسان وله، فإن الله لم يهمل شيئًا بغير تقدم فيه؛ ثم أكد تعظيم ذلك بقوله: {ذلكم} أي الأمر المعتنى به {وصّاكم به} أي ربكم المحسن إليكم.
ولما كانت هذه الأفعال والأقوال شديدًا على النفس العدلُ فيها لكونها شهوات، تقدم بالترغيب فيها والترهيب منها بأن كل من يفعل شيئًا منها مع غيره يوشك أن يفعل معه مثله، فلذلك حض على التذكر في الوصية بها ولأنها خفية تحتاج إلى مزيد تدبر فقال: {لعلكم تذكرون} أي لتكونوا بحيث يحصل لكم التذكر- ولو على وجه خفي بما أشار إليه الإدغام- فيما جبلت عليه نفوسكم من محبة مثل ذلك لكم، فتحكموا لغيركم بما تحكمون به لأنفسكم. اهـ.