فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدَّه} إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه لقلِّة مراعيه وضعف مالكه، أقوى.
وفي قوله: {إلا بالتي هي أحسن} أربعة أقوال:
أحدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد.
والثاني: التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي.
والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب.
والرابع: أنه حفظه عليه، وتثميره له، قاله الزجاج.
قال: وحتى محمولة على المعنى؛ فالمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده، فادفعوه إليه.
فأما الأشُدُّ: فهو استحكام قوة الشباب والسنِّ.
قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حدِّ الرجال.
يقال: بلغ أشده.
إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان.
وقال أبو عبيدة: الأَشُدُّ: لا واحد له منه؛ فإن أُكرهوا على ذلك، قالوا: شَدَّ، بمنزلة: ضَبَّ؛ والجمع: أَضُبُّ.
قال ابن الأنباري: وقال جماعة من البصريين: واحد الأشُدِّ شُدٌ بضم الشين.
وقال بعض البصريين: واحد الأشُدِّ: شِدّةٌ، كقولهم: نِعمة، وأنْعُم.
وقال بعض أهل اللغة: الأشُدُّ: اسم لا واحد له.
وللمفسرين في الأشُد ثمانية أقوال:
أحدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام.
والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.
والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة.
والسادس: أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري.
والسابع: ثلاثون سنة، قاله السدي.
وقال: ثم جاء بعد هذه الآية: {حتى إذا بلغوا النكاح} [النساء: 6] فكأنه يشير إلى النسخ.
والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو الصحيح.
ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذُكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى: {ولما بلغ أشده} [يوسف: 22والقصص: 14] إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشُدِّ، وهذا ابتداء تمامه؛ وليس هذا مثل ذاك.
قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حُذف، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده؛ فإذا بلغ اشده، فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله.
قال المصنف: إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية، فليس بصحيح؛ وإنما استفيد إيناس الرشد والإسلام من آية أخرى؛ وإنما أُطلق في هذه الآية ما قُيِّد في غيرها، فحُمل المطلق على المقيد.
قوله تعالى: {وأوفوا الكيل} أي: أتموه ولا تنقصوا منه.
و. أي: وَزْنَ الميزان.
والقسط: العدل.
{لا نكلِّف نفسًا إلا وسعها} أي: مايسعها، ولا تضيق عنه.
قال القاضي أبو يعلى: لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كُلّفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن.
قوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} أي: إذا تكلمتم أو شهدتم فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة.
وعَهْد الله يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره.
{ذلكم وصَّاكم به لعلكم تذكرون} أي: لتذَّكَّروه وتأخذوا به.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {تذّكّرون} [الأنعام: 153] و{يذّكّرون} [الأنعام: 126] و{يذّكّر الإنسان} [مريم: 67] و{أن يذّكّر} [الفرقان: 62] و{ليذّكّروا} [الإسراء: 41] مشدّدًا ذلك كلُّه.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر كل ذلك بالتشديد إلا قوله: {أوَلا يذَّكَّر الإنسانُ} [مريم: 67] فانهم خففوه.
روى أبان وحفص عن عاصم: {يذكرون} خفيفة الذال في جميع القرآن.
قرأ حمزة، والكسائي: {يذّكّرون} مشددًا إذا كان بالياء، ومخففًا إذا كان بالتاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه.
وهذا أحسن الأقوال في هذا؛ فإنه جامع.
قال مجاهد: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض.
الحادية عشرة قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يعني قوته، وقد تكون في البدن وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولابد من حصول الوجهين، فإن الأشُدّ وقعت هنا مطلقة.
وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة النساء مقيدة، فقال: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد؛ فلو مُكِّن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهواته وبَقَى صُعْلوكًا لا مال له.
وخصّ اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال بفقيد الأب أوْلى.
وليس بلوغ الأشُد يبيح قُرْب ماله بغير الأحسن؛ لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة.
وخصّ اليتيم بالذكر لأن خصمه الله.
والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده.
وفي الكلام حذف؛ فإذا بلغ أشدّه وأُونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله.
واختلف العلماء في أشُدّ اليتيم؛ فقال ابن زيد: بلوغه وقال أهل المدينة.
بلوغه وإيناس رشده.
وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة.
قال ابن العربيّ: وعجبًا من أبي حنيفة، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياسًا ولا نظرًا وإنما تثبت نقلًا، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة، ولكنه سكن دار الضَّرْب فكثر عنده المُدَلَّسْ، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدِّين.
وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مُجْتَمع الأشُدّ؛ كما قال سُحيم بن وَثيل:
أخُو خمسين مُجْتَمِعٌ أشُدِّي ** ونَجَّذَنِي مُدَاوَرَةُ الشُّؤونِ

يروي نجدني بالدال والذال.
والأشُدّ واحد لا جمع له؛ بمنزلة الآنُك وهو الرَّصاص.
وقد قيل: واحده شدّ؛ كفَلْس وأفْلُس.
وأصله من شدّ النهار أي ارتفع؛ يقال: أتيته شدّ النهار ومدَّ النهار.
وكان محمد بن محمد الضَّبيّ ينشدُ بيت عنترة:
عَهْدِي به شدّ النهار كأنما ** خُضِبَ اللبَّانُ ورأسُه بالعَظْلِمِ

وقال آخر:
تُطيف به شَدّ النهار ظَعينةٌ ** طويلةُ أنقاء اليدَيْن سَحُوق

وكان سيبويه يقول: واحده شِدّة.
قال الجوهري: وهو حَسَن في المعنى؛ لأنه يقال: بلغ الغلام شدّته.
ولكن لا تجمع فِعْلة على أفْعُل، وأما أنْعُم فإنما هو جمع نُعْم؛ من قولهم: يوم بُؤس ويوم نُعْم.
وأما قول من قال: واحده شَدّ؛ مثلُ كَلْب وأكلب، وشِدّ مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس.
كما يقولون في واحد الأبابيل: إبَّوْل، قياسًا على عِجَّوْل، وليس هو شيئًا سُمع من العرب.
قال أبو زيد: أصابتني شدى على فعلى؛ أي شِدّة.
وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة.
الثانية عشرة قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء.
والقسط: العدل.
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي طاقتها في ايفاء الكيل والوزن وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرّر.
وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الَكْيلين، ولا يدخل تحت قُدرة البشر فمعفوٌ عنه.
وقيل: الكيل بمعنى المِكْيَال.
يقال: هذا كذا وكذا كَيلًا؛ ولهذا عطف عليه بالميزان.
وقال بعض العلماء: لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيرا منهم تضيق نفسُه عن أن تَطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطي بإيفاء ربّ الحق حقّه الذي هو له، ولم يكلفه الزيادة؛ لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها.
وأمر صاحبَ الحقّ بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقلّ منه؛ لما في النقصان من ضيق نفسه.
وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغُلُول في قوم قطُّ إلا ألقى الله في قلوبهم الرّعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كَثُر فيهم الموت، ولا نقص قوم المِكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حَكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدّم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو.
وقال ابن عباس أيضًا: إنكم معشر الأعاجم قد ولُيتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان.
الثالثة عشرة قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} يتضمن الأحكام والشهادات.
{وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم؛ كما تقدم في النساء.
{وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} عامّ في جميع ما عهده الله إلى عباده.
ويحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين.
وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتّعظون. اهـ.

.قال الخازن:

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} يعني ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له.
قال مجاهد: هو التجارة فيه وقال الضحاك: هو أن يسعى له فيه.
ولا يأخذ من ربحه شيئًا هذا إذا كان القيم بالمال غنيًا غير محتاج فلو كان الوصي فقيرًا فله أن يأكل بالمعروف {حتى يبلغ أشده} يعني احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله.
فأما الأشد فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشاب إلى حد الرجال.
قال الشعبي ومالك: لأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات.
وقال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته.
وقال الكلبي: الأشد هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وقيل إلى أربعين إلى ستين سنة وقال الضحاك: الأشد عشرون سنة، وقال السدي: الأشد ثلاثون سنة وقال مجاهد: الأشد ثلاث وثلاثون سنة وهذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه.
والمراد بالأشد في هذه الآية.
هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية.
وقوله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} يعني بالعدل من غير زيادة ولا نقصان {لا نكلف نفسًا إلا وسعها} يعني طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه.
لم يكلف المعطي أن يعطي أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد بما يسعه مما لا حرج عليه فيه {وإذا قلتم فاعدلوا} يعني في الحكم والشهادة {ولو كان ذا قربى} يعني المحكوم عليه وكذا المشهود عليه، وقيل: إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم والشهادة، بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زيادة فيه ولا نقصان وأداء الأمانة وغير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل والصدق {وبعهد الله أوفوا} يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر ونحوه فيجب الوفاء به {ذلكم} يعني الذي ذكر فيه هذه الآية: {وصاكم به} يعني بالعمل به {لعلكم تذكرون} يعني لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به. اهـ.