فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{هَلْ يَنظُرُونَ} استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإندار وإزاحة العلل والأعذار، و{هَلُ} للاستفهام الإنكاري، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال: إنها للتقرير في الإثبات، والجمهور على الأول، والضمير لكفار أهل مكة.
وزعم الجبائي أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظورن.
{إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد.
وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود وقتادة ومقاتل، وقيل: إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم.
وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب.
وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل، وقيل: المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه: {أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايات رَبّكَ} وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر.
ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد، وأين التراب من رب الأرباب.
وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل.
والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة، وصح من طرق حذيفة بن أسيد قال: «أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من علية ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان والدجال وعيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج والدابة وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا» وببعضها على ما قيل: الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضًا في قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ} وروى مسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعًا ما هو صريح في ذلك.
واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليهم اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلا الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر.
والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عند طلوع الشمس من مغربها.
فقد روى الشيخان: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس ءامنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها ثم قرأ الآية» بل قد روي هذا التعيين عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين.
وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لايخفى على المتأمل، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدًا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه.
وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه.
وقول العراقي: إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها: ارجعي من مطلعك، والمشهور أنها تطلع يومًا واحدًا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعاتها قبل.
وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير.
وروى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها.
وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون: إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار.
وقال الكرماني: إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع ذلك أيضًا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا انتهى.
وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول:
قال في التذكرة وشرحها للسيد السند: الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئًا واحدًا بل كان ما وجده القدماء أكثر مما وجده المحدثون، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانًا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانًا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءًا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءًا ونصف جزء.
ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانًا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقًا يجب أن يثبت فلكًا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك إما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قيل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها، وعلى التقديرات الخمس الأول: يتبادل نصفا سطح فلك البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيًا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليًا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيًا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئًا واحدًا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة، وعلى التقدير الثاني: لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لأجزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصًا.
ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشيء عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك، وليس صيرورة المشرق مغربًا والمغرب مشرقًا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلًا، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر.
والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لابد لهم من الإيمان عند مشاهدتها ألبتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعض الآخر إلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه، وقيل: المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وبقولهم: {أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسرار: 92] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسرار: 92] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم.
وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ} على ما يعم مقترحاتهم وغيرهما من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إذا صح الحديث فهو مذهبي، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف.
وتنكير {نَفْسًا} للتعميم.
وجملة {لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ} في موضع النصب صفة لنفسًا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل.
وجوز كونها استئنافية و{يَوْمٍ} منصوب بلا ينفع.
وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنماهو عند وقوعها جواب القسم.
وقرأ حمزة والكسائي {يَأْتِيهِمُ} بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي.
وقرئ {يَوْمٍ} بالرفع على الابتداء.
والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه.
وقرأ أبو العالية وابن سيرين {لاَّ تَنفَعُ} بالتاء الفوقانية.
وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه كونه شبيهًا بما يستغني عنه، وقال أبو حيان: إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة.
وقوله سبحانه: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْرًا} عطف على {ءامَنتُ} والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معًا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي.
والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة.
والمعتزلة يقولون: إن الترديد بين النفيين، والمراد نفي العموم لا عموم النفي.
والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرًا.
وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه.
ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغى ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعًا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلًا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلو لغلوًا من الكلام أيضًا.
وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال: لا ينفع نفسًا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء (بيان) عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما في ضمن التحذير من تركهما؛ ولا سبيل إلى أن يقال: كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوًا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل.