فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كمًا وكيفًا.
ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلًا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضًا إرشادًا إلى تحري الأعلى وتنبيهًا على كفاية الأدنى وإقناطًا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة من أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة.
ثم قال: ولك أن تقول: المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطًا بالآخر كما في قوله سبحانه: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى} [القيامة: 31، 32] تسجيلًا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانًا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع (1) في حق المؤاخذة كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصّلت: 6، 7] انتهى.
وقيل في دفع اللغوية غير ذلك، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل: لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرًا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرًا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببًا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام، وقال مولانا ابن الكمال: إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة {لا تنفع} بالتاء وبكسب الخير الإذعان؛ ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الايمان على المعنى الإصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر، ولو سلم فنقول: الإيمان النافع لابد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه: {ءامَنتُ} وعن الثاني بقوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ} فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى.
ولا يخفى عليك أن الألفاط المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرية، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقًا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي أن هذا الحكم أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أنه لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل، ولا يلزم من عدم نفع ماحدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردًا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه.
ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في ذلك اليوم به أيضًا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالإتفاق.
ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصًا في الحكم والمحكوم به فتأمل، وبأن له أيضًا صرف قوله سبحانه: {كَسَبَتْ} عن أن يكون معطوفًا على {ءامَنتُ} إلى عطفه إلى {لَمْ تَكُنْ} لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى، وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أن (أو) بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة: فوالله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] و{أن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 32] في رأي.
وقول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسًا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرًا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعًا، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيا والتي، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدًا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم.
{قُلْ} لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد {انتظروا} ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون، قيل: في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر. اهـ.

.قال القاسمي:

{هَلْ يَنْظُرُونَ} يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة. فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدّهم عن آيات الله؟.
قال البيضاوي: يعني أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، شبهوا بالمنتظرين {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة.
قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة 210] بما فيه كفاية.
ومذهب السلف: إمرار ذلك بلا كيفٍ، كما مرّ مراراَ.
قيل: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: ملائكة الموت لقبض أرواحهم: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وذلك قبل يوم القيامة، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئًا من ذلك. كما روى البخاريّ في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل. ورواه مسلم أيضًا، ولمسلم والترمذيّ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} صفة {نفسًا}: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} عطف على {ءَامَنَتْ} والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء، وهي آية ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرًا لفسقها. فتوبتها حينئذ لا تجدي.
قال الطبري: معنى الآية لا ينفع كافرًا لم يكن آمن قبل الطلوع، إيمانٌ بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنًا لم يكن عمل صالحًا قبل الطلوع، عملٌ صالح بعد الطلوع. لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. وذلك لا يفيد شيئًا. كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر 85]. وكما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر». انتهى.
وبالجملة: فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركًا إيمانُه. ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وذلك لذهاب زمن التكليف.
قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات، وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شركٍ أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية، فلا يقبل منه. لأنه حالة اضطرار. كما لو أرسل الله عذابًا على أمة فآمنوا وصدقوا. فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك، لمعاينتهم الأهوال والشدائد، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.
وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيمانًا يومئذ لم يقبل منه. فأما من كان مؤمنًا قبل ذلك، فإن كان مصلحًا في عمله، فهو بخير عظيم. وإن لم يكن مصلحًا، فأحدث توبة حينئذ، لم تقبل منه توبته. كما دلت عليه الأحاديث. وعليه يحمل قوله تعالى: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح، إذا لم يكن عاملًا به قبل. انتهى.
والأحاديث المشار إليها، منها ما رواه (مسلم) عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه». وروى الترمذيّ وصححه عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بابٌ من قِبَل المغرب مسيره عرضه- أو قال يسير الراكب في عرضه- أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض. مفتوحًا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه». ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: «لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
قال ابن حجر: سنده جيد. وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضًا بلفظ: لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى اللإمام أحمد عن ابن السعديّ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة مادام العدوّ يقاتل». فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عَمْرو بن العاص: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طُبِعَ على كل قلب بما فيه، وكُفِيَ الناسُ العملَ».
قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وهاهُنا مسائل:
الأولى: ذهب الجمهور إلى أن المراد بـ (البعض) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها. كما في حديث الصحيحين السابق. ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها.. الحديث. وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظرًا. لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده. وفي زمنه خير كثير دنيويّ وأخرويّ. فالإيمان مقبول وقتئذ. لأنا نقول: لا منافاة. وذلك لأن (البعض) في الآية، إن كان عدة آيات، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإن كان إحدى آيات، فهو محمول على المعيّن في الحديث، لأنه أعظمها. كذا في العناية.
قال ابن عطية: إذا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخصيصِ مانع القبول بالطلوع، في الحديث الصحيح، لم يجز العدول عنه، وتعيّن أنه معنى الآية. انتهى.
وقال القاضي عياض: المعنى لا تنفع توبة بعد ذلك. بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها. والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلويّ. فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة. وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع. فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. الثانية: قال السيوطي في الإكليل: استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى: لا ينفع نفسًا لم تكن آمنت من قبلُ، إيمانُهَا حينئذ، ولا ينفع نفسًا لم تكسب خيرًا قبلُ، توبتُها حينئذ.
وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسًا كافرة، إيمانُها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفسًا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرًا. فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهوم الصفة قويّ فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلًا عليهم.
وأجاب ابن المنير في الانتصاف فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب (اللف) وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا، لم تكن مؤمنة قبلُ، إيمانُها بعدُ. ولا نفسًا لم تكسسب خيرًا قبلُ، ما تكتسبه من الخير بعدُ، فَلَفَّ الكلامين فجعلهما كلامًا واحدًا إيجازًا. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق. فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.
وقال ابن الحاجب في أماليه: الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غير، ومعنى الآية: لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.
ونقل الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: أن الله تعالى، لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام 155] الآية، علل الإنزال بقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} [الأنعام 156] الخ، إزالة للعذر وإلزامًا للحجة. وعقبه بقوله: {فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ} الخ، تبكيتًا لهم وتقريرًا لما سبق ممن طلب الاتباع. ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ} الآية. أي: أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفًا لكل ريب وهاديًا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زادًا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها. ثم قال: {هَلْ يَنظُرُونَ} الآية. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبين إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم. أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلان ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبلُ، من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يؤم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ، إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا من قبل. ففي الآية لف. لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر، ونظيره قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء 172].