فصل: تفسير الآية رقم (159):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (159):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه، وأشرفت السورة على الانقضاء.
وكان من المعلوم قطعًا أن الحق- من حيث هو حق- شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته؛ اشتد استشراف النبي صلى الله عليه وسلم إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عمومًا وعليهم خصوصًا، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم، فلما ختم سبحانه بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم، فإنه صلى الله عليه وسلم مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره، فثبته سبحانه وسلاه بقوله: {إن الذين فرقوا} أي بعد إبلاغك إياهم {دينهم} أي بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه، لأن الكفر بعضه كفر بكله، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه {وكانوا شيعًا} كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزابًا بالاستكثار من الأصنام، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعًا أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضًا وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان: النور والظلمة، وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنمًا يتوسل به في زعمهم إليه {لست منهم} أي من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم {في شيء} وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق.
ولما خفف عنه صلى الله عليه وسلم بتبرئته منهم، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته، فقال جوابًا لمن يقول: فإلى من يكون أمرهم؟: {إنما أمرهم} أي في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد {إلى الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه غيره، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة.
ولما كان الحشر متراخيًا عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان، لا تبلغ كنه عظمته العقول، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه بقوله: {ثم} بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال {ينبئهم} أي تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين {بما كانوا} أي جبلة وطبعًا {يفعلون} أي من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها، والآية- مع ما تقدم من مقتضياتها- تعليل لقوله: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قرأ حمزة والكسائي {فارقوا} بالألف والباقون {فَرَّقُواْ} ومعنى القراءتين عند التحقيق واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وأنكر بعضًا، فقد فارقه في الحقيقة، وفي الآية أقوال:
القول الأول: المراد سائر الملل.
قال ابن عباس: يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، أي فرقًا وأحزابًا في الضلالة.
وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى، وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقًا، وكفر بعضهم بعضًا، وكذلك اليهود، وهم أهل كتاب واحد، واليهود تكفر النصارى.
والقول الثاني: أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضًا، كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] وقال أيضًا: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150].
والقول الثالث: قال مجاهد: إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة، هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء} فيه قولان: الأول: أنت منهم بريء وهم منك براء وتأويله: إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم، والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم.
والثاني: لست من قتالهم في شيء.
قال السدي: يقولون لم يؤمر بقتالهم، فلما أمر بقتالهم نسخ، وهذا بعيد، لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء، فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ.
ثم قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} أي فيما يتصل بالإمهال والإنظار، والاستئصال والإهلاك {ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} والمراد الوعيد. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ}
قرأ حمزة والكسائي فارقوا دينهم بالألف يعني: تركوا دينهم الإسلام ودخلوا في اليهودية والنصرانية.
وقرأ الباقون {فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} يعني: آمنوا ببعض الرسل ولم يؤمنوا ببعض {وَكَانُواْ شِيَعًا} يعني: صاروا فرقًا مختلفة.
وروي عن أسباط عن السدي أنه قال: هؤلاء اليهود والنصارى تركوا دينهم وصاروا فرقًا {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء} أي: لم تؤمر بقتالهم ثم نسخ وأمر بقتالهم في سورة براءة.
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «{إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} إنَّهُمْ الخَوَارِجُ» وفي هذه الآية حثّ للمؤمنين على أن كلمة المؤمنين ينبغي أن تكون واحدة، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع ما استطاعوا.
ثم قال: {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء} يقول: إنما عليك الرسالة وليس عليك القتال.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} يعني: الحكم إلى الله: {ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي في الدنيا ويقال ليس بيدك توبتهم ولا عذابهم إنما أمرهم إلى الله تعالى، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمُ وَكَانُواْ شِيَعًا}
فيهم أربعة أقاويل:
أحدها: أنهم اليهود خاصة، قاله مجاهد.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله قتادة.
والثالث: أنهم جميع المشركين، قاله الحسن.
والرابع: أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.
وفي تفريقهم الذي فرقوه قولان:
أحدهما: أنه الدين الذي أمر الله به، فرقوه لاختلافهم فيه باتباع الشبهات.
والثاني: أنه الكفر الذي كانوا يعتقدونه دينًا لهم.
ومعنى قوله: {وَكَانُواْ شيَعًا} يعني فرقًا.
ويحتمل وجهًا آخر: أن يكون الشيع المتفقين على مشايعة بعضهم لبعض، وهو الأشبه، لأنهم يتمالأون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره.
وفي أصله وجهان:
أحدهما: أصله الظهور، من قولهم شاع الخبر إذا ظهر.
والثاني: أصله الاتباع، من قولهم شايعه على الأمر إذا اتبعه، قاله الزجاج.
ثم قال تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فيه قولان:
أحدهما: لست من قتالهم في شيء، ثم نسخها بسورة التوبة، قاله الكلبي.
والثاني: لست من مخالطتهم في شيء، نَهْيٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن مقاربتهم، وأمر له بمباعدتهم، قاله قتادة، كما قال النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورًا ** فإني لست منك ولست مني

. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}
قال ابن عباس والصحاب وقتادة: المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية، وأضيف الذين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم بالشيع إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سملة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد، أي فرقوا دين الإسلام، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي {فارقوا} ومعناه تركوا، ثم بيّن قوله: {وكانوا شيعًا} أنهم فرقوه أيضًا، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه، وقوله: {لست منهم في شيء} أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع، لأنهم لهم حظ من تفريق الدين، وقوله: {إنما أمرهم إلى الله} إلى آخر الآية وعيد محض، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد، كما أن القرينة في قوله: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275] تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح {فرَقوا} بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمرًا بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إن الذين فرَّقوا دينهم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {فرّقوا} مشددة.
وقرأ حمزة، والكسائي: {فارقوا} بألف.
وكذلك قرؤوا في [الروم: 32] فمن قرأ {فرّقوا} أراد: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
ومن قرأ: {فارقوا} أراد: باينوا.
وفي المشار إليهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي.
والثالث: اليهود، قاله مجاهد.
والرابع: جميع المشركين، قاله الحسن.
فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه دينًا، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم الله به.
والشِّيَع: الفرق والأحزاب.
قال الزجاج: ومعنى شيّعتُ في اللغة: اتبعت.
والعرب تقول: شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم.
قال الشاعر:
ألا يا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ** بَرُوْدِ الظِّلِّ شَاعَكُم السَّلاَمُ

وتقول: أتيتك غدًا، أو شِيَعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه.
فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضًا، وليس كلهم متفقين.
وفي قوله تعالى: {لست منهم في شيء} قولان:
أحدهما: لست من قتالهم في شيء، ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي.
والثاني: لست منهم، أي: أنت بريء منهم، وهم منك بُرَءاء، إنما أمرهم إلى الله في جزائهم، فتكون الآية محكمة. اهـ.