فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعًا، وبرئ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم من الله تعالى.. أمرهم بعد ذلك إلى الله؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون: {إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون}..
وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده. فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن- فليس مع الكفر من حسنة!- فله عشر أمثالها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها؛ لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه:
{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}..
وفي ختام السورة- وختام الحديث الطويل عن قضية التشريع والحاكمية- تجيء التسبيحة الندية الرخية، في إيقاع حبيب إلى النفس قريب؛ وفي تقرير كذلك حاسم فاصل.. ويتكرر الإيقاع الموحي في كل آية: قل.. قل.. قل.. ويلمس في كل آية أعماق القلب البشري لمسات دقيقة عميقة في مكان التوحيد.. توحيد الصراط والملة. توحيد المتجه والحركة. توحيد الإله والرب. توحيد العبودية والعبادة.. مع نظرة شاملة إلى الوجود كله وسنته ومقوماته.
{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}..
هذا التعقيب كله، الذي يؤلف مع مطلع السورة لحنًا رائعًا باهرًا متناسقًا، هو تعقيب ينتهي به الحديث عن قضية الذبائح والنذور والثمار، وما تزعمه الجاهلية بشأنها من شرائع، تزعم أنها من شرع الله افتراء على الله.
فأية دلالة يعطيها هذا التعقيب؟ إنها دلالة لا تحتاج بعد ما سبق من البيان إلى مزيد..
{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين}..
إنه الإعلان الذي يوحي بالشكر، ويشي بالثقة، ويفيض باليقين.. اليقين في بناء العبادة اللفظي ودلالتها المعنوية، والثقة بالصلة الهادية.. صلة الربوبية الموجهة المهيمنة الراعية.. والشكر على الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي لا التواء فيه ولا عوج: {دينًا قيمًا}.. وهو دين الله القديم منذ إبراهيم. أبي هذه الأمة المسلمة المبارك المخلص المنيب: {ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}.
{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}..
إنه التجرد الكامل لله، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة. وبالصلاة والاعتكاف. وبالمحيا والممات. بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه.
إنها تسبيحة التوحيد المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده. لله {رب العالمين}.. القوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين.. في إسلام كامل لا يستبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبدها لله، ولا يحتجز دونه شيئًا في الضمير ولا في الواقع.. {وبذلك أمرت}.. فسمعت وأطعت: {وأنا أول المسلمين}.
{قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}..
كلمة تتقصى السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن؛ وتشتمل كل مخلوق مما يعلم الإنسان ومما يجهل؛ وتجمع كل حادث وكل كائن في السر والعلانية.. ثم تظللها كلها بربوبية الله الشاملة لكل كائن في هذا الكون الهائل؛ وتعبدها كلها لحاكمية الله المطلقة عقيدة وعبادة وشريعة.
ثم تعجب في استنكار:
{أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء}؟
أغير الله أبغي ربا يحكمني ويصرف أمري ويهيمن عليَّ ويقومني ويوجهني؟ وأنا مأخوذ بنيتي وعملي، محاسب على ما أكسبه من طاعة ومعصية؟
أغير الله أبغي ربا. وهذا الكون كله في قبضته؛ وأنا وأنتم في ربوبيته؟
أغير الله أبغي ربا وكل فرد مجزي بذنبه لا يحمله عنه غيره؟ {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}..
أغير الله أبغي ربا وإليه مرجعكم جميعًا فيحاسبكم على ما كنتم تختلفون فيه؟
أغير الله أبغي ربا، وهو الذي استخلف الناس في الأرض، ورفع بعضهم فوق بعض درجات في العقل والجسم والرزق؛ ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون؟
أغير الله أبغي ربا، وهو سريع العقاب، غفور رحيم لمن تاب؟
أغير الله أبغي ربا، فأجعل شرعه شرعًا، وأمره أمرًا، وحكمه حكمًا. وهذه الدلائل والموحيات كلها حاضرة؛ وكلها شاهدة؛ وكلها هادية إلى أن الله وحده هو الرب الواحد المتفرد؟؟؟
إنها تسبيحة التوحيد الرخية الندية؛ يتجلى من خلالها ذلك المشهد الباهر الرائع.
مشهد الحقيقة الإيمانية، كما هي في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشهد لا يعبر عن روعته وبهائه إلا التعبير القرآني الفريد..
إنه الإيقاع الأخير في السياق الذي استهدف قضية الحاكمية والشريعة؛ يجيء متناسقًا مع الإيقاعات الأولى في السورة، تلك التي استهدفت قضية العقيدة والإيمان؛ من ذلك قوله تعالى: {قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين} وغيرها في السورة كثير..
ولا نحتاج أن نكرر ما قلناه مرارًا من دلالة هذه المثاني التي تردد في المطالع والختام. فهي صور متنوعة للحقيقة الواحدة.. الحقيقة التي تبدو مرة في صورة عقيدة في الضمير. وتبدو مرة في صورة منهج للحياة.. وكلتا الصورتين تعنيان حقيقة واحدة في مفهوم هذا الدين..
ولكننا نتلفت الآن- وقد انتهى سياق السورة- على المدى المتطاول، والمساحة الشاسعة، والأغوار البعيدة.. تلك التي تتراءى فيها أبعاد السورة- ما سبق منها في الجزء السابع وما نواجهه منها في هذا الجزء- فإذا هو شيء هائل هائل.. وننظر إلى حجم السورة، فإذا هي كذا صفحة، وكذا آية، وكذا عبارة.. ولو كان هذا في كلام البشر ما اتسعت هذه الرقعة لعشر معشار هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والمؤثرات والموحيات؛ في مثل هذه المساحة المحدودة!.. وذلك فضلًا على المستوى المعجز الذي تبلغه هذه الحقائق بذاتها، والذي يبلغه التعبير عنها كذلك..
ألا إنها رحلة شاسعة الآماد، عميقة الأغوار، هائلة الأبعاد هذه التي قطعناها مع السورة.. رحلة مع حقائق الوجود الكبيرة.. رحلة تكفي وحدها لتحصيل مقومات التصور الإسلامي!
حقيقة الألوهية بروعتها وبهائها وجلالها وجمالها..
وحقيقة الكون والحياة وما وراء الكون والحياة من غيب مكنون، ومن قدر مجهول، ومن مشيئة تمحو وتثبت، وتنشئ وتعدم، وتحيي وتميت، وتحرك الكون والأحياء والناس كما تشاء.
وحقيقة النفس الإنسانية، بأغوارها وأعماقها، ودروبها ومنحنياتها، وظاهرها وخافيها، وأهوائها وشهواتها، وهداها وضلالها، وما يوسوس لها من شياطين الإنس والجن.. وما يقود خطواتها من هدى أو ضلال..
ومشاهد قيامة، ومواقف حشر، ولحظات كربة وضيق، ولحظات أمل واستبشار. ولقطات من تاريخ الإنسان في الأرض؛ ولقطات من تاريخ الكون والحياة.
وحشود وحشود من هذه المجالي التي لا نملك تلخيصها في هذه العجالة. والتي لا تعبر عنها إلا السورة نفسها، في سياقها الفريد، وفي أدائها العجيب.
إنه الكتاب المبارك. وهذه- بلا شك- واحدة من بركاته الكثيرة.. والحمد لله رب العالمين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} وفى سورة فاطر: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} بإضافة لفظ خلائف في الأولى ولم يضف في الثانية بل جئ بحرف الوعاء فيسأل عن وجه ذلك؟
والجواب عنه والله أعلم: أنه لما تقدم قبل آية الأعراف قوله سبحانه لنبيه عليه السلام {قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم} واستمر الخطاب له معرفا عن حاله وواضح طريقه إلى قوله: {قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شيء}، فعم ما سواه سبحانه بالدخول تحت ملكه وقهره، فناسب هذا ما ذكر من إنعامه على عباده بجعلهم خلائف الأرض، ولو كان بحرف الوعاء لم يكن ليفهم التوسعة في الاستيلاء والإطلاق إلا بضميم يحرز ذلك أن قوله في الأرض إنما يفهم أنه موضع استخلافهم وهل كلها أو بعضها ذلك محتمل، أما بغير حرف الوعاء فأظهر في التعميم وإن كان لم يكن نصا إلا أنه أظهر من المتقيد بحرف الوعاء فناسب الإطلاق الإطلاق.
وأما قوله في سورة الملائكة فاطر: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} فقد تقدم قبله: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} إلى قوله: {أولم نعمركم...} الآية ثم أعقب قوله: {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} بقوله: {فمن كفر فعليه كفره...} الآيات، فلما اكتنف الآية ما ذكرته مما هو نقيض الوارد في آية الأنعام ناسب ذلك التقييد بحرف الوعاء إذ لا يلائم البسط القبض فجاء كل على ما يجب ولا يناسب العكس والله سبحانه أعلم بما أراد.
قوله تعالى: {إن ربك سريع الحقاب وإنه لغفور رحيم}، وفى الأعراف: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} للسائل أن يسأل عن اختصاص آية الأعراف بزيادة اللام المؤكدة في الخبر وسقوطها من آية الأنعام؟
والجواب والله أعلم أن آية الأنعام لما تقدمها قوله تعالى: {قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم} ثم استمر ما بعد على خطابه صلى الله عليه وسلم لما منحه الله تعالى إلى قوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض...} الآية، فهذا له صلى الله عليه وسلم ولأمته فجاء الخبر من قوله: {إن ربك سريع العقاب} بغير لام التأكيد مناسبا للحال إذ هؤلاء المذكورون ليسوا بجملتهم ممن استحق عقابا، ومن عوقب من أهل القبلة فعقابه منقطع بفضل الله فلا حامل على التأكيد لأن ذكر العقاب هنا تخويف يحمل المؤمن على استحاب الرغب والرهب وما ينبغى للمؤمن أن يكون عليه.
وأما آية الأعراف فقد ورد قبلها قوله تعالى: {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} وقد تقدم ذكر المقصودين بهذا الوعيد وذكر مرتكباتهم السيئات فتخلصت الآية للمستحقين العقاب بمجترحاتهم المفصحة بكفرهم فناسب تأكيد الخبر المنبئ بعقابهم وسوء مآلهم وجاء كل على كما يجب ويناسب. اهـ. بتصرف يسير.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
صير التوبة إليكم، وقَصَرَ حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافًا، وخلقكم أخْيافًا فمنْ مُسَخَّرٍ له، مُرَفَّهٍ، مُرَوَّحٍ، يتعب لأَجْله كثيرٌ. ومن مُعَنَّيّ، وذي مشقةٍ أُدِير عليه رأسهُ. وجاء البلاءُ ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنَّ حسابه لكم لاحِقٌ، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيتين:

{قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}
وَلَمَّا بَيَّنَ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ، انْتَقَلَ إِلَى بُرْهَانِهِ الْأَعْلَى وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، بِمَا أَمَرَهُ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَغَيْرَ اللهِ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدِهِمْ وَمُرَبِّيهِمْ بِالْحَقِّ، أَطْلُبُ رَبًّا آخَرَ أُشْرِكُهُ فِي عِبَادَتِي لَهُ بِدُعَائِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، أَوْ ذَبْحِ النِّسَائِكِ أَوْ نَذْرِهَا لَهُ، لِيَنْفَعَنِي أَوْ يَمْنَعَ الضُّرَّ عَنِّي، أَوْ لِيُقَرِّبَنِي إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَشْفَعَ لِي عِنْدَهُ كَمَا تَفْعَلُونَ بِآلِهَتِكُمْ! وَالْحَالُ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عُبِدَ وَمِمَّا لَمْ يُعْبَدْ، فَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَخَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْمَسِيحِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ الْمُذَكِّرَةِ بِبَعْضِ الصَّالِحِينَ وَصَانِعِيهَا {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [37: 96]، فَإِذَا كَانَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقَ الْمُقَدِّرَ، وَهُوَ السَّيِّدَ الْمَالِكَ الْمُدَبِّرَ، وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَفَضَّلَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، فَكَيْفَ أُسَفِّهُ نَفْسِي وَأَكْفُرُ رَبِّي بِجَعْلِ الْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ مِثْلِي رِبًّا لِي؟! وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ بِخَلْقِ نَاسُوتِ الْمَسِيحِ دُونَ هُوتِهِ إِذِ اللَّاهُوتُ عِنْدَهُمْ هُوَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْحُلُولِ فِي الْأَجْسَادِ، وَالتَّحَوُّلِ فِي صُوَرِ الْعِبَادِ.
{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا مُعَلِّلَةٌ لِلْإِنْكَارِ وَمُقَرِّرَةٌ لِلتَّوْحِيدِ مِثْلُهَا، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [53: 36- 39] وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِصْلَاحِ لِلْبَشَرِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، لِأَنَّهَا هَادِمَةٌ لِأَسَاسِ الْوَثَنِيَّةِ، وَهَادِيَةٌ لِلْبَشَرِ إِلَى مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ سَعَادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ (وَهُوَ عَمَلُهُمْ) وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ أَسَاسَ الْوَثَنِيَّةِ طَلَبُ رَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ بِقُوَّةٍ مِنْ وَرَاءِ الْغَيْبِ، هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ وَسَاطَةِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ- الْمُمْتَازَةِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ وَالْمَزَايَا- بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ لِيُعْطِيَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ بِدُونِ كَسْبٍ وَلَا سَعْيٍ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَلِيَحْمِلُوا عَنْهُمْ أَوْزَارَهُمْ حَتَّى لَا يُعَاقِبَهُمْ تَعَالَى بِهَا، أَوْ يَحْمِلُوا الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى رَفْعِهَا عَنْهُمْ وَتَرْكِ عِقَابِهِمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى إِعْطَائِهِمْ نَعِيمَ الْآخِرَةِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنْ عَذَابِهَا، أَيْ عَلَى إِبْطَالِ سُنَّتِهِ وَتَبْدِيلِهَا فِي أَمْثَالِهِمْ، أَوْ تَحْوِيلِهَا عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا} [35: 43].