فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{على قلوبهم} متعلّقة ب {ختم} و{على سمعهم} يحتمل عطفه على {قلوبهم} وهو الظاهر، للتصريح بذلك، أعني: نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] ويحتمل أن يكون خبرًا مقدمًا، وما بعده عطف عليه.
و{غشاوة} مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبَرُها ظرفًا، أو حرف جر تامًا، وقدم عليها جاز الابتداء بها، ويكون تقديم الخبر حينئذٍ واجبًا؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة، والآية من هذا القبيل، وهذا بخلاف قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2]؛ ويبتدأ بما بعده، وهو {وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ} ف {على أبصارهم} خبر مقدم، و{غِشَاوة} مبتدأ مؤخر.
وعلى الاحتمال الثاني يوقف على {قلوبهم} وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين، وهو: أن ختم القلوب غير ختم الأسماع.
وقد فرق النحويون بين مررت بزيد وعمرو وبين مررت بزيد وبعمرو فقالوا في الأول هو ممرور واحد، وفي الثاني هما ممروران، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين، أعني: جعل {وعلى سمعهم} معطوفًا على قوله: {على قلوبهم} وجعله خبرًا مقدمًا.
وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ، كما تقدم ذلك في الختمين.
وقرئ: {غِشَاوة} بالكسر والنصب، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع، وبالكسر والرفع- و{غشوة} بالفتح والرفع والنصب- و{غشاوة} بالعين المهملة، والرفع من العَشَا.
فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه:
الأول: على إضمار فعل لائق، أي: وجعل على أبصارهم غِشَاوة، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23].
والثاني: الانتصاب على إسقاط حرف الجر، ويكون {على أَبْصَارهم} معطوفًا على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حذف الجر، فانتصب ما بعده؛ كقوله: الوافر:
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا ** كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ

أي: تمرون بالدِّيَار، ولكنه غير مقيس.
والثالث: أن يكون {غشاوة} اسمًا وضع موضع المصدر الملاقي ل {خَتَمَ} في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر، فكأنه قيل: وختم التغشية على سبيل التأكيد، فهو من باب قعدت جلوسًا، وتكون: قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختومًا عليها مغشاة.
وقال الفَارِسِيّ: قراءة الرفع الأولى، لأن النَّصب إما أن تحمله على فعل يدلّ عليه {ختم} تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، فهذا الكلام من باب: الكامل:
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

وقوله: الرجز:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ** حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا

ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حالة سَعَةٍ، ولا اختيار.
واستشكل بعضهم هذه العبارة، وقال: لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على {خَتَم} الزاهر، وكيف تحمل {غشاوة} المنصوب على {ختم} الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟
قال: اللّهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} دعاء عليهم لا خَبَر، ويكون {غشاوة} في معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل، فكأنه قيل:
وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفًا على {ختم} عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء، نحو: رحم الله زيدًا وسُقيًا له فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين {غشاوة} المعطوف وبين {خَتَمَ} المعطوف عليه بالجار والمجرور.
وهو تأويل حسن، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي بالحرف، فتحرير التأويل أن يقال: فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور.
والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبدًا على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة.
والغِشَاوة فِعَالة: الغطاء من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء، ومنه غشي عليه، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع.
والقلب أصله المصدر، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه، ولهذا قال: البسيط:
مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ ** فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ

ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقًا بينه وبين أصله، وكثيرًا ما يراد به العقل ويطلق أيضًا على لُبِّ كل شيء وخالصه.
والسمع والسماع مصدران لسمع، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال: البسيط:
وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزًا مُقْفِرٌ نَدُسٌ ** بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ

أي: ما في استماعه.
والسِّمْع- بالكسر- الذِّكْر بالجميل، وهو- أيضًا- ولد الذئب من الضَّبُع، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة، يقال: رَجُلان صَوْم، ورجال صوم، ولأنه على حذف مضاف، أي: مواضع سمعهم، أو حواس سمعهم، أو يكون كني به عن الأُذُن، وإنما لفهم المعنى؛ كقوله الوافر:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ** فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

أي: بطونكم.
ومثله قال سيبويه: إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع.
ومنه أيضًا قال تَعَالى: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257]، {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} [ق: 17]؛ قال الراعي.
بِهَا جِيَفُ الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا ** فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

أي: جلودها.
وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: أسماعهم.
قال الزمخشري: واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم، وفي حكم التَّغْشِيَةِ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23].
والأبصار: جمع بصر، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات.
قالوا: وليس بمصدر لجمعه، ولقائل أن يقول: جمعه لا يمنع كونه مصدرًا في الأصل، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب.
وقد قلتم: إنه في الأصل مصدر ثم سمي به، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن، كما كي بالسمع عن الأذن، وإن كان السَّمع في الأصل مصدرًا كما تقدم.
وقرأ أبو عمرو والكِسَائي: {أبصارهم} بالإِمَالَةِ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها.
ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء كالقرار ونحوه، وزاد الكسائي إمالة {جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]، و{الجوار} [الشورى: 32]، و{بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54]، و{مَنْ أنصاريا} [آل عمران: 32]، و{نُسَارِعُ} [المؤمنون: 56] وبابه، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل، أو كانت علمًا للتأنيث مثل: {الكبرى} [طه: 23]، و{الأخرى} [الزمر: 42]، ولام الفعل مثل: {يَرَى} [البقرة: 165]، و{افترى} [آل عمران: 94] يكسرون الراء منها.
والغشاوة: الغطاء.
قال: الطويل:
تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ** فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا

وقال: البسيط:
هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي ** إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا

وجمعها غشاءٌ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة.
وقيل: غشاوي مثل أداوي.
قال الفارسي: لم أسمع من الغشاوة فعلًا متصرفًا بالواو، وإذا لم يوجد ذلك، وكان معناها معنى ما اللام منه الياء، وهو غشي بدليل قولهم: الغِشْيَان، والغشاوة من غشي كالجِبَاوة من جبيت في أن الواو كأنها بدل من الياء، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة.
وظاهر عبارته أن الواو بدل من الياء، والياء أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة الواو.
والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين غ ش و، وغ ش ي، ثم تصرفوا في إحدى المادتين، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب الواو ياء من غير سبب، وأيضًا الياء أخف من الواو، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و{لهم} خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف، و{عذاب} مبتدأ مؤخر و{عظيم} صفة.
والخبر- هنا- جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغًا وهو صفة ونظيره: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] من حيث الجواز.
والعذاب في الأَصْل: الاستمرار، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ.
وقيل: أصله: المَنْع، وهذا هو الظَّاهر، ومنه قيل للماء: عَذَب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب يمنع من الجريمة.
{عظيم} اسم فاعل من عَظُمَ، نحو: كريم من كَرُم غير مذهوب به مذهب الزمان، وأصله أن توصف به الأجرام، ثم قد توصف به المعاني.
وهل هو والكبير بمعنى واحد أو هو فوق الكبير؛ لأن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير، والحقير دون الصغير؟ قولان.
وفعيل له معانٍ كثيرة، يكون اسمًا وصفة، والاسم مفرد وجمع، والمفرد اسم معنى، واسم عين، نحو: قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب.
والصفة مفرد فُعْلَة كغَزِب يجمع على غُزَاة ومفرد فَعَلَة كسَرِي يجمع على سَرَاة.
ويكون اسم فاعل من فَعُلَ نحو: عظيم من عَظُم كما تقدم.
ومبالغةً في فَاعِل، نحو عليم من عالم.
وبمعنى أَفْعَل كشميط بمعنى: أشمط ومَفْعُول كجريح بمعنى: مجروح، ومُفْعِل كسَمِيع بمعنى مُسْمِع، ومُفْعَل، كولِيد بمعنى: مُولَد، ومُفَاعِل، كجَلِيس بمعنى: مُجَالِس، ومُفْعَل، كبَدِيع بمعنى: مُبْتَدِع، ومُفْتَعِّل كسَعِير بمعنى: مُتَسَعِّر، ومُسْتَفْعِل كمَكِين بمعنى: مُسْتَمْكن.
وفَعْل كرطيب بمعنى: رَطْبْ، وفَعَل كعجيب بمعنى: عجب وفِعَال كصحيح بمعنى: صِحَاح، وبمعنى: الفاعل والمفعول كصريخ بمعنى: صاروخ ومصروخ.
وبمعنى الواحد والجمع نحو: خليط، وجمع فاعل كريب جمع غارب. اهـ.

.أبحاث تتعلق بالآية:

.بحث بعنوان: السبيل إلى ضبط التكفير:

للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
لا تزال العواطف وردود الأفعال الجامحة تستحوذ على آراء فئام من الإسلاميين ومواقفهم تجاه القضايا المستجدات عمومًا، ومسألة التكفير خصوصًا.
فما إن نادى بعضهم بتكفير أعيان وأشخاص دون تحرير أو تحقيق لقيام الحجة من اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، إذا بالطرف الآخر يقابل ذلك الإفراط بالتفريط والتمييع.
فيصيح قائلًا: إن الشخص المعين لا يكفر حتى يقصد الكفر وينشرح صدره بالكفر، واحتجوا بقوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم} النحل (106).
وكلا الفريقين قد فاته من الصواب ما فاته، فالأولون لم يلتفتوا إلى عوارض الأهلية التي اعتبرها الشارع كالجهل أو التأويل أو الخطأ أو الإكراه، والآخرون أفرطوا وتوسعوا في تلك الأعذار، حتى أفضى ببعضهم إلى إغلاق باب الردة.
وأما احتجاجهم بالآية الكريمة فإنهم لم ينظروا إلى سياق الآية ومعناها؟ فإن من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرًا، وإلا تناقض أول الآية وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعًا، فقد شرح بها صدرًا، وهي كفر، وقد دل على ذلك قوله- تعالى-: {ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب.
والمقصود أن الشخص إن لم يكن مكرهًا فقد انشرح صدره بالكفر.
من المهم في هذا الموضوع أن تضبط الأوصاف وتحرر المصطلحات، فمن الظواهر المَرَضِية المعاصرة التنابز بالألقاب والتراشق بالتبديع كاتهام البعض بأنهم خوارج ووصف آخرين بالإرجاء والعبرة بالحقائق والدلائل، فلقد رمي الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- بأنه من الخوارج، ومع ذلك فهو إمام أهل السنة، ومنهج أحمد أحمد منهج، واتهم عبد الله بن المبارك- رحمه الله- بالإرجاء انظر عقيدة السلف للصابوني وليس الأمر كذلك.
وقد تحدث الشاطبي- رحمه الله- عما يعانيه أهل العلم والاتباع من رميهم بالألقاب الشنيعة ثم قال: «فقلما تجد عالمًا مشهورًا أو فاضلًا مذكورًا، إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها، لأن الهوى قد يدخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف».
ولذا يحتاج إلى ضبط هذه الأوصاف من جهة تحديد معناها وبيان مرادها، ومن جهة تنزيل هذه الأسماء أو الأوصاف على مستحقيها، فما أكثر الذين يرددون وصف الخوارج أو المرجئة وهم لا يفقهون معناها، وأكثر من هؤلاء من يُطلق تلك الأوصاف على أشخاص دون مراعاة لتحقيق المناط وضوابط التبديع.
من الأخطاء التي ترتكب في معالجة هذه القضية أن يعمد البعض إلى تهويل طرف أو جانب في مسألة التكفير أو الإرجاء وفي مقابل ذلك يهون من الانحراف المقابل، ومسلك العدل والعلم يقتضي أن يعالج كل انحراف بحسبه دون تهويل أو تهوين، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ومن تلك الأخطاء أن يكون الغالب في علاج ظاهرة الغلو والتكفير استعمال الأسلوب الخطابي والاقتصار على التسفيه والتطفيف، واتهام أربابه بالسطحية والسذاجة، والتركيز على ما يكون ظاهر الفساد والبطلان كالقول بتكفير مرتكب الكبيرة- وقد لا تجد ظاهرًا في أولئك الغلاة.
وفي مقابل علاج ظاهرة الإرجاء يُعمد إلى رمي من تلبس بأدنى إرجاء بأنه يقول أنه لا يضر مع الإيمان معصية وأن الإرجاء دين الملوك، وليس الأمر بهذا التعميم والإطلاق، فالإمام أبو حنيفة- رحمه الله- مثلًا تلبس بشيء من الإرجاء لكنه لا يقول: «إن المؤمن لا تضره الذنوب وأيضًا موقفه من الملوك صارم».
إن المتعين تجاه شبهات الفريقين واعتراضاتهم أن تذكر من مظانها ومصادرها ثم تنقض أصول هذا البدع ويُرد عليها بالدليل والبرهان.
من الأمور الملحة في مسائل الإيمان والكفر أن نميز بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة وبين ما هو من مسائل الاجتهاد التي يسوغ الخلاف فيها.
فمثلا الإعذار بالجهل من جهة اعتباره من عوارض الأهلية وثبوت أدلته أمر ظاهر معلوم، قد ورد عليه نصوص كثيرة منها حديث الذي أمر أهله بأن يحرقوه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، فقال لأهله إذا مات فأحرقوه، ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل فعلوه به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له». أخرجه البخاري (3478) ومسلم (2756).
وهذا حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية: «وكنت دائمًا أذكر هذا الحديث فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته، إذا ذُري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك».
لكن قد يقع الاختلاف بين أهل السنة في المسائل التي يعذر بجهلها، وكذا الأشخاص والأزمنة والأحوال، فأفهام أهل العلم متفاوتة في مراعاة عوارض الأهلية، وتنزيلها على الواقع، فقد يعذر أحدهم بالجهل في مسألة بينما لا يعذر العالم الآخر، كما يعذر الآخر أحدهم بالجهل تجاه شخص ما لا يعذر الآخر، فمسألة العذر بالجهل مسألة اجتهادية.
وكذا قد يكون الحكم قاطعًا في تقرير وتنظير جملة من نواقض الإيمان قد يعمد عالم من العلماء- عن أهلية واجتهاد وديانة إلى تكفير من ليس كذلك، فيكون ذلك العالم معذورًا ومغفورًا، يقول ابن القيم- رحمه الله-: «إن الرجل إذا نسب المسلم إلى النفاق والكفر متأولًا وغضبًا لله ولرسوله ودينه لا لهواه وحظه فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يُثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء والبدع فإنهم يُكفرون ويبدعون لمخالف أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه».
إن استصحاب عوارض الأهلية في تقرير مسائل الإيمان والكفر يزيل الاشتباه ويفصل المجمل ويقيد المطلق، فإن من الجهل ما يعذر به المكلف، كما أن من التأويل ما يدرأ عن صاحبه الوعيد أو التكفير، كما أن المتعرض للإكراه الملجئ معفو عنه.
إن التفقه في دين الله- تعالى- والتزود من العلم الشرعي يورث رحمة للخلق وإشفاقًا عليهم، فأهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، ولما غلب على الخوارج الجهل بدين الله- تعالى- أورثهم ذلك غلظة وقسوة، فكانوا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقول ابن القيم ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانًا أعظم رحمة كما قال- تعالى-: في أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: {محَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وكان الصديق من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر». رواة الترمذي، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلمًا، فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علمًا فظهور العلم الشرعي ونشره عبر الوسائل المتعددة من جامعات وحلقات مساجد ومراكز علمية ومنابر إعلامية، كل ذلك كفيل بجلب الرحمة والرفق والإشفاق على الخلق ورجوعهم إلى الحق، فلقد ظهر ابن عباس رضي الله عنهما على الخوارج بالحجة فرجع شطرهم وصاروا مع علي رضي الله عنه، وشغف يزيد الفقير برأي الخوارج فحدثه جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- بحديث الجهنميين، فترك مذهب الخوارج، وقد دوخ الخوارج بني أمية بأنواع من الحروب والقلائل، فلما ولي عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- الخلافة كاتب الخوارج ورد شبهاتهم فأقر بعضهم، ولما بلغت الخوارج سيرة عمر بن عبد العزيز وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.
وأما القمع والاضطهاد فلا يعقبه إلا غلو وإفراط، كما هو الواقع في القديم والحديث، وما خبر جماعة التكفير والهجرة عنا ببعيد. اهـ.