فصل: الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



شُبَهَاتُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ هَذَا الْغُلُوُّ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يُقَابِلُهُ غُلُوُّ آخَرِينَ مِنْهُمْ فِي إِنْكَارِ رِسَالَتِهِمْ وَاخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ الْغُلَاةُ أَفْرَطُوا فِي تَصْوِيرِ خُصُوصِيَّتِهِمْ، وَزَادُوا فِيهَا بِأَوْهَامِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ فَرَّطُوا فِيهَا، فَلَمْ يَرَوْا لَهُمْ مَزِيَّةً يَمْتَازُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِهَا، أُولَئِكَ زَادُوا فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِمْ فَضْلًا فَصَلَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا بَشَرِيَّتَهُمْ مَانِعَةً مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ النَّاسِ، إِذْ رَأَوْهُمْ بَشَرًا وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيَجْعَلُهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ كَمَا يَزْعُمُ الْغُلَاةُ- قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [91] أَيْ إِنَّهُمْ مَا عَرَفُوا اللهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ بِإِنْكَارِهِمْ قُدْرَتَهُ عَلَى إِنْزَالِ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِ الْبَشَرِ، لِاقْتِضَاءِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَائِرِ الْبَشَرِ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ، كَمَا أَنَّ الْغُلَاةَ فِيهِمْ مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ زَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُرَكَاءَ لَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْوَحْيِ وَوَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَيْهِ، وَاقْتِضَاءَ حِكْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ الْإِنْعَامَ عَلَيْهِمْ بِهِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص 509 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةُ كَوْنِهِمْ بَشَرًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى رِسَالَةِ الرُّسُلِ كَالْأَعْرَافِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّحْلِ وَالْكَهْفِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَيس وَالتَّغَابُنِ، وَذُكِرَتْ فِي بَعْضِ السُّورِ بِلَفْظِ رَجُلٍ بَدَلَ بِشَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [10: 1، 2] إِلَخْ. وَهَذَا فِي نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَوَّلِ مَنْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ. قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} [7: 63] وَيَلِيهِ حِكَايَةُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ هُودٍ مَعَ قَوْمِهِ (آيَةُ 67).
وَلَمَّا اسْتَبْعَدَ هَؤُلَاءِ الْوَحْيَ لِرَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [23: 33، 34] زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ مِنَ اللهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ أَنْ يُؤَيَّدَ بِمَ‍لَكٍ يَكُونُ مَعَهُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [25: 7] وَقَدْ رُدَّتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْآيَتَيْنِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِبَيَانِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِ جُمْهُورِ الْبَشَرِ لِرُؤْيَتِهِمْ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُعِدُّ اللهُ بَعْضَ الْأَفْرَادِ مِنْ كَمَلَتِهِمْ لِذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ إِذَا أُنْزِلَ الْمَلَكُ عَنْ جَعْلِهِ رَجُلًا، أَيْ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ رَجُلٍ، وَحِينَئِذٍ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ وَتَبْقَى شُبْهَتُهُمْ فِي مَوْضِعِهَا.
هَذِهِ الشُّبْهَةُ عَلَى الرِّسَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الرَّسُولِ بَشَرًا مِثْلَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لَمْ تُدَعَّمْ بِحُجَّةٍ وَلَمْ تُؤَيَّدْ بِبُرْهَانٍ، بَلْ هِيَ بَاطِلَةٌ بِالْبَدَاهَةِ لِأَنَّهَا تَقْيِيدٌ لِمَشِيئَةِ الْمُرْسِلِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} وَقَدْ كَانَ أُولَئِكَ الْمُشْتَبِهُونَ مُؤْمِنِينَ بِقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ. بَلْ كَوْنُ الرَّسُولِ إِلَى الْبَشَرِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ يَفْهَمُونَ أَقْوَالَهُ وَيَتَأَسَّوْنَ بِأَفْعَالِهِ هُوَ الْمَعْقُولُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ وَطَبِيعَةُ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنَّ الْأَوْهَامَ الْجَهْلِيَّةَ تَقْلِبُ الْحَقَائِقَ وَتَعْكِسُ الْقَضَايَا حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْقَرَوِيِّينَ فِي زَمَانِنَا جَاءَ إِحْدَى الْمُدُنِ مَرَّةً فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ لِلِاحْتِفَالِ بِوَالٍ جَدِيدٍ جَاءَ مِنْ دَارِ السَّلْطَنَةِ، فَرَغِبَ أَنْ يَرَى بِعَيْنَيْهِ الْوَالِيَ الَّذِي أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ أَمَامَهُ وَقِيلَ لَهُ هَذَا هُوَ اسْتَغْرَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا، وَقَالَ كَلِمَةً صَارَتْ مَثَلًا وَهِيَ: حَسِبْنَا الْوَالِيَ وَالِيًا فَإِذَا هُوَ إِنْسَانٌ أَوْ رَجُلٌ مِثْلُنَا.
وَأَخْبَرَنِي مَحْمُودٌ بَاشَا الدَّامَادُ أَنَّ بَعْضَ فَلَّاحِي الْأَنَاضُولِ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ خَلْقَ السُّلْطَانِ مُخَالِفٌ لِخَلْقِ سَائِرِ النَّاسِ وَأَنَّ لِحْيَتَهُ خَضْرَاءُ اللَّوْنِ، وَلِهَذَا الضَّعْفِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ يَلْبَسُ بَعْضُ رِجَالِ الْأَدْيَانِ أَزْيَاءَ خَاصَّةً مُؤَثِّرَةً، وَيُوَفِّرُونَ شُعُورَهُمْ لِأَجْلِ اسْتِجْلَابِ الْمَهَابَةِ- فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [6: 9] كَاشِفٌ لِهَذِهِ الْغُمَّةِ مِنَ الْوَهْمِ، وَهَادٍ إِلَى مَا يُوَافِقُ سُنَنَ الْفِطْرَةِ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَاطِعٌ عَلَى الدَّجَّالِينَ طَرِيقَ الْجِبْتِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَخْدَعُونَ بِهَا أُولِي الْأَوْهَامِ وَالْخَيَالَاتِ، فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ وَالْقِدِّيسِينَ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْبَشَرِ، وَيَقْدِرُونَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ، وَأَنَّهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَالْوُزَرَاءِ وَرُؤَسَاءِ الْحُجَّابِ وَالْأَعْوَانِ عِنْدَ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ، يُقَرِّبُونَ مِنْهُ وَيُبْعِدُونَ عَنْهُ مَنْ شَاءُوا وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ كَمَا يَشَاءُونَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَبْطَلَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي الْآيَاتِ 7 و8 و9 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَرَدَّهَا أَكْمَلَ رَدٍّ، فَرَاجِعْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهِنَّ (ص 258 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ) ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ (111) أَنَّهُ لَوْ نَزَّلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَآتَاهُمْ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ مُقَابِلًا لَهُمْ، أَوْ حَشَرَهُ وَجَمَعَهُ لَهُمْ قَبِيلًا بَعْدَ قَبِيلٍ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ؛ لِأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ لَا مُرِيدُو حَقٍّ وَطُلَّابُ دَلِيلٍ يَعْرِفُونَهُ بِهِ. فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.
تَعْجِيزُهُمُ الرَّسُولَ بِطَلَبِ الْآيَاتِ كَانَ الْجَاهِلُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كَفَّارِ مَكَّةَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَكَانَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى يَحْتَجُّ وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِشَهَادَةِ اللهِ لَهُ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، وَبِالْقُرْآنِ الْجَامِعِ لِأَقْوَى طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَآيَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِهِ وَظَهَرَ عَلَى لِسَانِهِ كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا مَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 19 فِي ص282 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 25 ص 289 ج 7 ط. الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَالْآيَةِ 37 ص 323 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ، وَفِيهِ بَيَانُ كَوْنِ الْقُرْآنِ أَدَلَّ عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَةِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أُوتِيهَا مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى رِسَالَتِهِمْ، وَالْآيَةِ 50 (ص 351- 356 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ. وَكَذَا الْآيَةِ 5 مِنَ السُّورَةِ ص 252 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ).
نَعَمْ إِنَّ آيَةَ الْقُرْآنِ أَقْوَى الْحُجَجِ وَأَظْهَرُ الدَّلَالَاتِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ وَمُرْشِدَةٌ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَانُوا يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِ لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ فِي الْآيَاتِ وَلَا يَحْفِلُونَ بِأَمْرِ الِاسْتِدْلَالِ، بَلْ كَانُوا يُعْرِضُونَ عَنْ كُلِّ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقُ الرُّؤَسَاءِ وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ شَغَلَهُمُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ لِلرَّسُولِ وَالْعَدَاوَةُ لَهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هُدًى وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ، وَفَرِيقُ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ أَلْفَوْا مَا وَرِثُوا عَنْ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ فَأَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُهُ، وَلاسيما إِذَا كَانَ مُزَيِّفًا لَهُ وَمُضَلِّلًا لِأَهْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ افْتِتَاحِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَمْدِهِ وَوَصْفِهِ بِمَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ، وَمُقَارَنَةِ ذَلِكَ بِمَا اتَّخَذَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ مِنْ نِدٍّ وَعِدْلٍ: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [4] وَأَنَّى يَفْقَهُ الشَّيْءَ مَنْ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يَنْظُرُ فِيهِ؟.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْزَنُ لِإِعْرَاضِهِمْ وَيَوَدُّ لَوْ يُؤْتِيهِ اللهُ تَعَالَى آيَةً مِمَّا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَإِنْزَالِ الْمَلَكِ أَوْ إِنْزَالِ كِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ- أَوِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ كَتَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ أَوْ إِعْطَائِهِ جَنَّةً فِيهَا يُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، فَهَوَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِكُلِّ آيَةٍ يُؤْتَوْنَهَا كَمَا كَذَّبَ أَمْثَالُهُمُ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِ، وَبَيَّنَ لَهُ سُنَّتَهُ فِي عَذَابِ الْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ إِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةَ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَفِي خِذْلَانِهِمْ وَنَصْرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا صَبَرُوا عَلَى أَقْوَامِهِمْ وَيَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا تَحَمَّلُوا مِنْ أَذَاهُمْ. وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الْآيَاتِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لَا عِنْدَهُ. رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 7- 9 ص 258 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ لح و25 و26 (ص 289 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لح و23- 37 فِي ص 309- 320 مِنْهُ) وَآيَةِ 50 (ص 351 مِنْهُ) و57 و58 (فِي ص 377 مِنْهُ) و65- 67 (ص 408- 419 مِنْهُ و109 و110 ص 553) إِلَى آخِرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ و111 فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ و124- 126 (ص32 وَمَا بَعْدَهَا مِنْهُ).
طَعْنُهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي الْقُرْآنِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَمَا فِي الْآيَةِ 25 (ص289 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) وَقَوْلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {دَرَسْتَ} كَمَا فِي الْآيَةِ 105 (ص 548 مِنْهُ) فَهُوَ مِمَّا قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ تَعْلِيلًا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَمْلَاهُ الْخَاطِرُ، وَتَبَادَرَ إِلَى فِكْرِ الْمُكَابِرِ، لَا عَنْ مَعْرِفَةٍ وَاطِّلَاعٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ- فَمَثَلُهُمْ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَسْتَكْبِرُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَايَةِ مِنْ كَاتِبٍ أَوْ شَاعِرٍ مَا يَكْتُبُ أَوْ يَنْظِمُ فَيَنْسِبُهُ إِلَى أَحَدِ الْمَشْهُورِينَ، وَلاسيما إِذَا كَانَ لِذَلِكَ الْكَاتِبِ أَوِ الشَّاعِرِ صِلَةٌ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ. كَمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يُحَرِّرُ الْمَنَارَ كُلَّهُ أَوِ التَّفْسِيرَ وَالْفَتَاوَى وَالْمَقَالَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةَ مِنْهُ. وَلَمْ يَجِدِ الْجَاحِدُونَ شُبْهَةً عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ وَقَدْ عَاشَ طُولَ عُمُرِهِ مَعَهُمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا عِنْدَهُمْ أَحَدٌ يَعْلَمُ أَخْبَارَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، وَقَدِ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى حَتَّى أَلْجَأَتِ الْمُكَابَرَةُ بَعْضَهُمْ إِلَى عَزْوِ هَذَا التَّعْلِيمِ إِلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ) رُومِيٍّ جَاءَ مَكَّةَ يَشْتَغِلُ فِيهَا بِصُنْعِ السُّيُوفِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَيْهِ لِيُشَاهِدَ صِنَاعَتَهُ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [16: 103] فَإِنَّ ذَلِكَ الرُّومِيَّ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَهَذَا الْقُرْآنُ قَدْ بَلَغَ بِبَيَانِهِ فِيهَا حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَتَتِمَّةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا تَرَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ افْتَتَحْنَا بِهِمَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
فَعُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ لَيْسُوا أَرْبَابًا وَلَا شُرَكَاءَ لِرَبِّ الْعِبَادِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَلَا فِي تَصَرُّفِهِ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الْخَلْقِ. فَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا إِيمَانًا وَلَا رَشَدًا، بَلْ هُمْ عَبِيدٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَسَائِرِ عِبَادِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَاخْتَصَّهُمْ بِعِلْمٍ أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِأَقْوَامِهِمْ لِيَهْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَعِدُّ مِنْهُمْ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقَّ الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ وَالْمُعَانِدِينَ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [8: 42]. وَقَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَا يُؤَيِّدُهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ وَلَا مِنْ مَقْدُورِهِمْ لِأَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِمْ كَسُنَّتِهِ فِي سَائِرِ الْبَشَرِ، كَمَا أَنَّ سُنَّتَهُ فِي عِلْمِهِمْ كَذَلِكَ. فَلَا الْوَحْيُ الَّذِي اخْتَصَّهُمْ بِهِ مِنْ كَسْبِهِمْ وَاسْتِنْتَاجِ عُقُولِهِمْ، وَلَا الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ. تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ الرُّسُلِ: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [35] وَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص 318 ج 7 ط الْهَيْئَةِ تَفْسِيرٌ).
وَتَأَمَّلْ أَمْرَهُ إِيَّاهُ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ خَزَائِنُ اللهِ وَلَا عِلْمُ الْغَيْبِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَلَكًا، وَحَصَرَ خُصُوصِيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ وَحْيِ رَبِّهِ فِي الْآيَةِ (50) الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَأَمْرَهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِالْإِنْذَارِ، ثُمَّ تَدَبَّرْ بَعْدَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَمَا أَمَرَهُ فِي شَأْنِ مُعَامَلَةِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَاتِ (51- 55) وَقَارِنْ فِيهَا بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ 35: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَقَوْلِهِ فِي آيَةِ 52: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} تَعْلَمِ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمَقَامِ عُبُودِيَّةِ النُّبُوَّةِ، وَيُقَابِلُ هَذَا النَّهْيَ عَنْ طَرْدِ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِجَابَةً لِاقْتِرَاحِ الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُعَامَلَةِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [70] إِلَخْ. وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ عِنْدَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِي السُّورَةِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ.

.الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ:

ذُكِرَتْ آيَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَارَةً خَبَرًا مُجَرَّدًا مُؤَكَّدًا كَقَوْلِهِ: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [129] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [134] أَوْ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّوْكِيدِ فِي السِّيَاقِ كَقَوْلِهِ: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [36] وَكَفَى بِالِاسْتِنَادِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّوْكِيدِ. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} [164]. وَالْأُسْلُوبُ الْغَالِبُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ إِيرَادُهَا فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْبِشَارَةِ وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَبْلَغُ الْآيَاتِ فِيهِ التَّذْكِيرُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [22] إِلَى آخِرِ آيَةِ [24] وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [27] إِلَى آخِرِ آيَةِ [32] وَقَدْ جَاءَ هَذَا بَعْدَ حِكَايَةِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ عَنْهُمْ وَحَصْرِهِمُ الْحَيَاةَ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ لَهُمْ سُوءَ مَصِيرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي يُنْكِرُونَهَا لِعَدَمِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَخَتَمَ السِّيَاقَ بِحَصْرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِاللَّعِبِ وَاللهْوِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ وَتَفْضِيلِ الْآخِرَةِ عَلَيْهَا. وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [70] الْآيَةَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا جَاءَ فِي أُسْلُوبِ حَشْرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَبَيَانِ مَا يَقُولُهُ يَوْمَئِذٍ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، وَسُؤَالِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَنْ مَجِيءِ الرُّسُلِ مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ يَقُصُّونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ) (128- 130) وَقَدْ جَمَعَ فِي الْآيَاتِ (133- 135) بَيْنَ الْوَعِيدِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا.
إِذَا اسْتَقْصَى الْقَارِئُ آيَاتِ الْبَعْثِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يَرَاهَا تُخْبِرُ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مُقَرَّرٍ، هُوَ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ كَأَنَّهُ مُسَلَّمٌ؛ لِإِنْذَارِ مَا يَقَعُ فِي يَوْمِهِ مِنَ الْعَذَابِ لِلْمُجْرِمِينَ عَسَى أَنْ يُتَّقَى، وَالْبِشَارَةِ بِمَا أُعِدَّ فِيهِ لِلْمُتَّقِينَ مِنَ الْفَوْزِ وَالنَّعِيمِ عَسَى أَنْ يُسْعَى لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى. وَيَظُنُّ الَّذِينَ اعْتَادُوا تَلَقِّيَ الْعَقَائِدِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِيَّاتِ الْجَدَلِيَّةِ، أَنَّ هَذِهِ دَعَاوَى غَيْرُ بُرْهَانِيَّةٍ. وَإِنَّمَا هِيَ أَسَالِيبُ خَطَابِيَّةٌ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَخْبَارٌ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ فِي صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ عَلَى رِسَالَتِهِ. وَلَمْ يَأْتِ مُنْكِرُوهَا بِدَلِيلٍ عَلَى إِنْكَارِهَا وَلَا شُبْهَةٍ. فَيُحْتَاجَ إِلَى إِبْطَالِهَا بِالْحُجَّةِ. وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الْإِنْكَارِ اسْتِغْرَابَ مَا لَمْ يُعْرَفْ وَلَمْ يُؤْلَفْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا جَهْلٌ وَغَفْلَةٌ مِنْ قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَدَأَ هَذَا الْخَلْقَ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي ثُبُوتِهَا كَالْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ مَعَ التَّذْكِيرِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِمَشِيئَةِ اللهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَحِكْمَتِهِ فِي التَّكْلِيفِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ كَالْآيَاتِ الثَّلَاثِ 133- 135، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الصِّفَاتِ هُنَا بِأُسْلُوبِ الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنِ الْمُنْكِرِينَ شَيْئًا مِنَ الِاحْتِجَاجِ، وَمَا ثَمَّ احْتِجَاجٌ، وَلَا مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِغْرَابِ، فَكَانَ الْغَرَضُ مِنْ سَرْدِ الْآيَاتِ بِالْأَسَالِيبِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا التَّأْثِيرَ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ مِنْ غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَمُقْتَضَى فِطْرَتِهِمْ أَنْ تَتَأَثَّرَ أَنْفُسُهُمْ وَعُقُولُهُمْ بِمَا يَتَكَرَّرُ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنْ كَلَامِ الصَّادِقِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلاسيما إِذَا كَانُوا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ تَعَجُّبِهِمْ مِنْ خَبَرِ الْبَعْثِ وَتَفْنِيدُ ذَلِكَ بِأُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ. وَدَحْضِ الشُّبْهَةِ. وَمِنْهَا سُورَةُ (يس) وَقَدْ تَكَرَّرَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَخُتِمَتْ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي مَفَاتِحِ الْغَيْبِ لِلرَّازِيِّ. وَذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فَوَاتِحِ السُّورَةِ الَّتِي تَلِيهَا (الصَّافَّاتِ) وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ (ق) وَمِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي أَثْنَائِهَا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [50: 15] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مَا يَنْبَغِي بَيَانُهُ، وَذَكَرْنَا فِيهِ بَعْضَ مَا وَرَدَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. فَلِلْقَارِئِ أَنْ يُرَاجِعَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ.