فصل: مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفعل على إضمار قلنا وجئن بضمير أنت لصحة العطف إذ لا يجوز العطف على المستتر {فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما} مما فيها.
جاء هنا فعل كلا مقرونا بالفاء لإفادتها الجمع على سبيل التعقيب.
ولم يأت بالواو لإفادتها مطلق الجمع، والمفهوم في الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافات بين النوع والجنس المفهوم من الواو، فذكر في هذه السورة النوع وسيذكر في البقرة في ج 3 في الآية 35 الجنس تأمل {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} ولا تدنوا منها أي لا تأكلوا.
فقد نهاهما عن جنس الشجرة، ولم يعينها لهما، فليس لنا أن نعينها، إذ لا طائل تحتها، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه، لذلك حصل الاختلاف في نوعها، فمن قائل أنها الحنطة، ومن قائل أنها التين أو التفاح، واللّه أعلم بمراده فيها {فَتَكُونا} إذا أكلتما منها {مِنَ الظَّالِمِينَ 19} أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية 115 من طه الآتية {فَوَسْوَسَ لَهُمَا} له ولزوجته حواء {الشَّيْطانُ} بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من اللّه تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى اللّه عليه وسلم «إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون، فلا قيمة له.
كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما {لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما} ليكشف ما غطى وستر {مِنْ سَوْآتِهِما} سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.

.مطلب الحكم الشرعي في كشف العورة وزلة آدم:

الحكم الشرعي في كشف العورة حرام وهي جميع بدن الحرة عدا وجهها وكفيها وباطن قدميها، ومن الرجل والأمة، ما فوق الركبة وتحت السرة والظهر والبطن من الأمة وبدوّها من كل يبطل الصلاة، هذا، وانهما لم يصغيا اولا لوسوسته إلا أنه لما حلف لهما أن هذه الشجرة ليست التي نهيتما عنها {وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ} من الملائكة المقربين خاليين من كل عناء {أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ 20} الذين لا يموتون، أي أن علة النهي وسببه عدم جعلكما من الملائكة وعدم خلودكما في الجنة لأن في الأكل طلب الخلد قال في سورة طه {هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} الآية 112 الآتية، فلهذا ولعلم آدم أن للملائكة منزلة عظمى عند اللّه وقربا من عرشه وأن الخلد مما يطمع به أيضا فقد حمله الطمع الذي هو من طبيعة البشر على الاستشراف بذلك محبة للعيش مع الملائكة وطول العمر بالتخليد في الجنة.
{وَقاسَمَهُما} حلف لهما فوق ذلك فائلا:
{إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ 21} فيما ذكرته لكما، وأكد حلفه بأن واللام التأكيدتين ووقع القسم منه على صيغة المفاعلة، لأن إبليس يحلف وآدام وحواء يصدقان فصار كأنه قسم من اثنين فصدقاه لظنهما أن أحدا لا يحلف باللّه كاذبا.
قال قتادة حلف لهما حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن باللّه.
ونقل بعض العلماء عن ابن عمر: من خادعنا باللّه خدعنا له.
وقد استزلهما بذلك كله فمالا إلى قوله: {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ} على الشجرة المنهي عنها- من الدلالة أو من دلى الدلو في البئر- أي حطهما عن درجة الطاعة وازلهما إلى درك المعصية، وقيل من الدالة وعليه قوله:
أظن الحلم دل علي قومي ** وقد يستجهل الرجل الحليم

أي ما زال يدلي إليهما بالنصح المزعوم بما تقدم وبقوله أنا اعلم منكما لأنكما حديثا عهد بالحياة وأنا ممن جرب الأمور وغاص عواقبها ولم يزل حتى استمالهما بما زخرفه لهما من القول مظهرا النصح لهما ومبطنا الغش، وهذا هو معنى الغرور، فضلا عن أنه وثق أقاويله كلها بالأيمان وهو أول من حلف باللّه كاذبا لعنه اللّه، فانصاعا اليه وأكلا من الشجرة.
قال تعالى: {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ} أخذا منها يسيرا لمعرفة طعمها {بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} حالا فتهافت لباسهما القدسي عنهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا من بعض ما قال قتادة كان لباسهما من جنس الأظفار شبه اللؤلؤ بياضا وعلى غاية من اللطف واللين والنضارة، فتقلص عنهما حتى بقي عند الأظفار تذكيرا للنعمة وتجديدا للندم {وَطَفِقا يَخْصِفانِ} يرقعان ويخيطان {عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} من ورق تينها ومرزها وكرمها وما شاكل ذلك من كبار الورق فيلزقان الواحدة جنب الأخرى ليسترا عورتهما فيه، وفي هذا دليل على قبح كشف العورة في ذلك اليوم {وَناداهُما رَبُّهُما} وبين ما هية هذا النداء بقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} وأحذركما من قربها لئلا يصيبكما ما أصابكما من هتك ستركما والسّبب لإخراجكما من الجنة دار الراحة وأنزلكما إلى الأرض دار الشقاء والعناء {وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ 21} ظاهر العداوة، لأنه لم يسجد لأحدكما حسدا، وهذا عتاب من اللّه جل جلاله لآدم وزوجته ولم يتشرف بالنبوة بعد، ولو كان لما رغب بمقام الملائكة لأن مقام النبوة أشرف، فما قيل إنه كان نبيا مردود بما سيأتي الآية 31 من سورة البقرة في ج 3، إذ قال بعد الأكل {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ} إلخ وقوله جل قوله في طه الآتية بعد الأكل أيضا والتصريح له بالعصيان {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} الآية 122 كما تراه في تفسيرهما، فلما رأيا ما حلّ بهما من ذوقهما الشجرة وعتاب ربهما لهما {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} بمخالفة أمرك وقد غرّنا الملعون فأوقعنا بما نحن فيه {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 23} رضاك مع خسراننا الجنة الهالكين بمخالفتك.
وهذه الكلمات هي التي تلقاها من ربه المشار إليها في الآية من البقرة أعلاه على ما قاله ابن عباس.
وقال ابن مسعود إنها «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
والأول أولى لتكرارها فيما قصه القرآن وعدم ذكر ما قاله ابن مسعود.
وفي هذه الآية استدل من يقول بجواز صدور الذّنب من الأنبياء وليس بشيء لأن هذه الحادثة وقعت قبل النبوة كما تقدم وعليه جل المفسرين، ولا يوجد دليل يثبت وقوعها بعد النبوة، كيف وقد قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَباهُ} في الآية المذكورة آنفا من سورة طه أي اصطفاه نبيا بعد ما وقع منه ذلك، وفي الآية دليل على أن صغار الذنوب تحتاج إلى طلب المغفرة أو عمل ما يكفرها، خلافا للمعتزلة القائلين بأنها مغفورة عفوا.
قال قتادة: قال آدم يا رب، أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال إذن أدخلك الجنة، وأما إبليس فسأل الإنظار بما يدل على أن امتناعه من السجود كان تجبرا، فأعطى اللّه كلا ما سأل.
هذا، ولم يعتذر آدم بإغواء إبليس له، لأنه أقدم على تناول الشجرة مختارا وفيه إيذان بإبطال مذهب الجبرية، تأمل ترشد وراجع الآية 22 من سورة إبراهيم في ج 2، {قالَ اهْبِطُوا} خطابا لآدم وحواء وإبليس، وكرر له الأمر لعنه اللّه إشارة إلى عدم انفكاكه عنهما وملازمته لهما في الدنيا أما ما قاله الطبري والسدي من أن الخطاب لهم وللحية فلم أر ما يؤيده وقد سبق تضعيف القول بأن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى تمكن من إغواء آدم وزوجته، ولم يسبق في القرآن ذكر للحية.
وقيل إن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن إبليس أهبط إلى الأرض قبلهما، ومن شمل إبليس في هذا الخطاب قال إنه أهبط أولا من الجنة إلى السماء وفي هذا الأمر من السماء إلى الأرض معهما وهو وجيه، ومن لم يشمله قال بأن الجمع هو ما فوق الواحد، وعليه قاعدة المنطقيين استدلالا بقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} الآية 45 من سورة النمل الآتية وفيها ما يدلك على غيرها، على أن لغات الأجانب كلها لا تثنية فيها لأنهم يعبرون بالجمع على ما فوق الواحد {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} متعادين في الأرض كما تعاديتم في السماء {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} تمكثون فيها منها {وَمَتاعٌ} تتمتعون به فيها {إِلى حِينٍ 24} انقضاء آجالكم {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ} لمدة المقدرة لكم {وَفِيها تَمُوتُونَ} فتدفنون إلى أجل معلوم تبقون في برزخكم.
{وَمِنْها تُخْرَجُونَ 25} يوم القيامة عند النفخة الثانية {يا بَنِي آدَمَ} اعلموا أنا {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ} جار مجرى التعظيم.

.مطلب تواصي اللّه لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:

وكل ما أعطاه اللّه لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل كما تقول رفعت حاجتي إلى الأمير فليس فيه نقل من سفل إلى علو {لِباسًا} لما كان المطر سبب النبات وكان النبات سبب اللباس، لأنه يكون من النبات ومن الحيوان الذي يأكل النبات، جعله نازلا باعتبار ما يؤول إليه {يُوارِي} يستر ويغطي {سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} تتزينون به من الأثاث والمتاع، تقول العرب تريش الرجل إذا تمول، أي كل ما نحتاجونه في دينكم، إلا أن هناك شيئا هو أعظم نفعا لكم إذا تزينتم به {و} هو {لِباسُ التَّقْوى} الذي يتحلى به الإنسان بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه {ذلِكَ} لباس التقوى وقد أشار إليه بلفظ البعد تعظيما لشأنه لأن نفعه يؤول إلى الآخرة الباقية فهو حتما {خَيْرٌ} من اللباس والرياش المختصين بالدنيا لأن غايتهما دفع الحر والقر والتنعم في هذه الدنيا الفانية إلى حين، أما لباس التقوى فإنه يقي من عذاب اللّه ويورث الدار الآخرة الباقية والنعيم الدائم قال:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من النقي ** عريت وان وارى القميص قميص

ثم أشار إلى عظمته أيضا فقال: {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} الدالة على فضله ورحمته بعباده إذ أنزل عليهم ماء أنبت به ما يكون لباسا وغذاء للحيوان الذي يكون منه ما يؤكل ويلبس وغيره من الحيوانات الناطقة وغيرها من الوحوش والطيور والحوت {لعلكم تذكرون 26} هذه النعم الدنيوية والأخروية فتشكرونها إظهارا لمنة اللّه الذي وقاكم من العري وستر عوراتكم وكفاكم مؤنتكم.
وفي هذه الآية إشارة إلى أن الستر من التقوى وهو كذلك {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ} فيوقعنّكم في المحنة إذا أصغيتم لوساوسه ويحرمنكم من الجنة بإغوائه {كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} آدم وحواء لما انصاعا لخداعه {مِنَ الْجَنَّةِ} المعدة للطائعين فحرمهم من نعيمها في الدنيا فانتبهوا وتيقظوا لأن من قدر على تغريرهما يستطيع أن يستميلكم إلى أهوائه ويستذلكم عن منهج الحق إلى سبيله الباطلة من باب أولى، لأنكم مهما كنتم لا تبلغون درجة أبويكم.
تؤذن هذه الآية بالنهي عن الطواف بالبيت عراة إذ كانوا يفعلونه في الجاهلية {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما} الذي كانا يرتديانه في الجنة بسبب فتنته لهما، وقد أسند النزع إلى الشيطان لأنه السبب الظاهري فيه وإلا في الحقيقة هو الله: {لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما} انتقاما منهما لأن أحدهما آدم هو السبب بإخراجه من الجنة فيريد الانتقام منه ومن زوجته ومن ذريتهما أيضا {إِنَّهُ} إبليس وجيشه {يَراكُمْ} أيها الناس {هُوَ وَقَبِيلُهُ} ذريته لأن قبيل المرء ذريته وعترته، والقبيلة بنو أب واحد، وقبيلة معطوف على ضمير انه لا على الضمير البارز لأنه تأكيد لضمير يراكم {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} في دار الدنيا، وإذا كان كذلك فعلينا معشر المتقين أن نستعين عليهم بمن يراهم ولا يرونه ذلك الإله العظيم القادر الذي من لجأ اليه وقاه ومن استعاذ به حماه ومن توكل عليه كفاه لا إله إلا هو له الخلق والأمر.
أما ما جاء من أن حضرة الرسول رآه وأراد ربطه بسارية المسجد كما تقدم في الآية 35 من ص فهو من خصوصياته صلّى اللّه عليه وسلم، ورؤية ابن مسعود جن نصيبين الآتي بيانها أول سورة الجن في ج 2، فهي على غير صورهم الحقيقية، ولهذا قال الشافعي رحمه اللّه، من زعم أنه رآهم على صورهم التي خلقوا عليها فقد ردّت شهادته وعزّر لمخالفته القرآن.