فصل: مطلب عظيم عفو اللّه وتكسير الألواح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولولد الضبع فرعل، والدب دسيم، والخنزير فنوص، والحية حويش، والنعام رأل، والدجاجة فروج، والفأر ردوص، والضب حسل، فرد اللّه على السامري بقوله: {أَلَمْ يَرَوْا} هؤلاء السفهة {أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} هذا العجل {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} لأنه لا يعقل ولا يفهم {اتَّخَذُوهُ} ليرشدهم إلى طريق الصواب أم ليدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا كآحاد البشر، وهذا تقريع وتشنيع على فرط ضلالهم وإضلالهم بالأمور النظرية {وَكانُوا ظالِمِينَ 148} باتخاذهم إياه وإعراضهم عن عبادة اللّه مع علمهم بأنه صورة مصنوعة لا تقدر على شيء ومن كان كذلك فهو ناقص والناقص لا يصلح للألوهية، وهذه الآية كالآية 89 من سورة طه الآتية من حيث المعنى، وقد أنّبهم هارون عليه السلام بما في معناها وأمرهم بالكف عنه والرجوع لعبادة اللّه فلم يفعلوا كما سيأتي في الآيتين 90 و91 من سورة طه أيضا، ولما ينغهم قدوم موسى أحسّوا بسوء صنيعهم وعرفوا أنهم على ضلال فأنزل اللّه قوله جل قوله: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} هذا مثل تقوله العرب لكل نادم على أمر لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده ويضرب بها على فخذه فتصير يده ساقطة والسقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، لذلك يقولون لمن هذا شأنه سقط في يده {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} تيقنوا وعلموا أن عبادتهم العجل خطأ صراح، وندموا على ما وقع منهم وعدم التفاتهم إلى نصح هارون عليه السلام في ترك عبادته، ولاموا بعضهم فانقسموا شطرين شطرا مع السامري عكفوا على عبادته، وشطرا مع هارون امتنعوا عنها ثم ندم بعض الذين أغواهم السامري حيث عرفوا الحق مع هارون بعد أن أكثر لهم من إسداء النصح وتفنيد الصورة المصنوغة وطلبوا من هارون العفو وسؤال المغفرة من الله: {قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا} ذلتنا هذه {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ 149} في الدنيا والآخرة اعترافا منهم بالذنب وإظهارهم الرغبة إلى اللّه رهبة منه وطلبا لإقالة عثرتهم، قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ} من طور سيناء حيث أخبره ربه بما فعل قومه كما سيأتي في الآية 84 من سورة طه أيضا، وكان عليه السلام {غَضْبانَ أَسِفًا} شديد الحزن على ما وقع من قومه أثناء مناجاة ربه بما أوجب تركها ورجوعه لإنقاذهم مما هم فيه {قال} مخاطبا لهم جميعا أو لكل من الفريقين على حدة، لأن منهم من لم يزل منكبا على عبادة العجل حتى شاهدهم بنفسه كما قال تعالى في الآية 99 من سورة طه حينما كلفهم هارون بالانكفاف عنه قالوا: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} وهذا صالح لخطاب الطرفين لعبدة العجل والسامري، لأنهم كفروا بعبادة العجل وتركهم عبادة اللّه وإلى هارون ومن معه إذ لم يمنعوهم ويحولوا دون عبادتهم للعجل فيحجبونهم عن الكفر فقال الظالمون تأخرت عن موعدك وظننا أن هذا هو الإله الذي ذهبت إليه فعبدناه، قال موسى {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} فتقدمتم به قبل وقته.
وهذا معنى العجلة، ولذلك صارت مذمومة بخلاف السرعة لأنها عمل الشيء أول وقته فلا تكون مذمومة وعليها قوله تعالى في الآية من سورة طه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} ولما سمع منهم جوابهم اشتد غضبه عليهم {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} المسطور عليها التوراة، وضرب المثل: ليس الخبر كالمعاينه ينطبق هنا لأن اللّه أخبره بأن قومه عبدوا العجل ولم يلق الألواح بل استمر على سماع المناجاة، وفي مجيئه لم ير زيادة على ما أخبره به ربه، ولكن الرؤية لها وقع شديد وتأثير بليغ لهذا اشتد غضبه عليه السلام فترك الألواح {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} لزيادة موجدته، ولأنه لم يرسل إليه خبرا بفعلهم هذا ليرجع ويتلافى الأمر، فاعتذر إليه هارون بقوله الذي قصه الله: {قالَ يَا بْنَ أُمَّ} لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ} بعد ذهابك يا ابن أمي قد {اسْتَضْعَفُونِي} فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي {وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي} حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ} بما توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه والشماتة الفرح ببلية العدو {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 250} أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم، ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه {قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما {وَلِأَخِي} اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري {وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ} الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 251} فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} وعبدوه من دوني {سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم {وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ 152} علينا، وهذا مما أخبر اللّه به موسى أثناء المناجاة بدليل صرف الاستقبال في سينالهم بالنسبة لوقت الإخبار.
وقد أخبرنا اللّه عن كيفية توبتهم في الآية 54 من سورة البقرة في ج 3، وهذه من الأمور الشاقة المبينة في الآية 156 الآتية المخصصة بشريعة سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم، لأن التوبة تقبل قولا وتتم بحسن النية، أما اليهود فلا تقبل توبتهم إلا باستئذان من اللّه ولا تكون إلّا فعلا، فيا حسرتهم لم يؤمنوا به ولم يتبعوه كي يستفيدوا من هذا التخفيف، وان أسلافهم الكرام، لما أخبرهم موسى بقبول توبتهم على أن يقتل بعضهم بعضا رضوا بحكم اللّه فقتل بعضهم بعضا حتى أن الأب صار يقتل ابنه والابن أباه والأخ أخاه، وهكذا حتى ماتوا شهداء تائبين رحمهم اللّه، ولا يتصور بعد هذا أن ينالهم غضب وذلة لأن الحد مزيل للعقوبة ومطهر منها ولا حد أكبر من القتل ولا أفظع منه بالصورة المذكورة، واللّه تعالى أكبر من أن يجعل على عباده عذابين، وخاصة بعد أن خضعوا لأمره وأنابوا لمراده وهذا أحسن وجه للتفسير، وما قاله ابن جريح من أن الغضب والذّلة لمن مات على عبادة العجل أو فر من القتل وجيه، ولكن المفسرين على خلافه، ولذلك جرينا على أن الغضب لمن لم يتب منهم ولم تقبل توبته، أي بأن كان حال يأس، ومن قال ان المراد بهم اليهود الذين في زمن المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم ومن قال ان المراد بهم أولاد الذين عبدوا العجل على عهده صلّى اللّه عليه وسلم، وفسر الغضب بعذاب الآخرة مطلقا والذلة بالجزية.
ومن قال أن الآية على حذف مضاف أي سينال أولادهم ذلك يأباه سياق التنزيل، ولا يوجد ما يؤيده من أمارة أو دليل، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق ولم يوجد في مكة بين الرسول واليهود أخذ، وردّ، وإنما هذا من جملة ما قصه اللّه على رسوله من أخبار الماضين، وهذه الأقوال ناشئه من عدم النظر إلى ترتيب نزول السور قال أبو قلاية هذه الآية جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة بان يذله اللّه في الدنيا ويغضب عليه في الآخرة، وقال سفيان بن عينية هي في كل مبتدع إلى يوم القيامة.
وقال مالك بن انس: مامن مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ هذه الآية، قال والمبتدع مفتر في دين اللّه.

.مطلب عظيم عفو اللّه وتكسير الألواح:

ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 153} لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو اللّه أعظم وما أحسن ما قيل:
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي ** هو غافر هو راحم هو عافي

قابلتهن ثلاثة بثلاثة ** وستغلبن أوصافه أوصافي

وقول أبي نواس:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ** فلقد علمت بان عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن ** فبمن يلوذ ويستجير المجرم

وقوله أيضا:
إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى ** فوعدك بالغفران ليس له خلف

لئن كنت ذا بطش شديد وقوة ** فمن جودك الإحسان والمن واللطف

ركبنا خطايانا وعفوك مسبل ** وهلا لشيء أنت ساتره كشف

إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما ** فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو

وقول الشافعي رحمه اللّه:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ** جعلت الرجا مني لعفوك سلّما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته ** بعفوك ربي كان عفوك أعظما

قال تعالى مبينا بقية ما وقع لموسى مع قومه: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي سكنت ثورته استعاد السكوت للسكوت لأنه بمعناه وقرأ معاوية ابن قرة سكن وهي تصحيف أيضا {أَخَذَ الْأَلْواحَ} التي القاها على الأرض حال شدة الغضب عند مشاهدة طائفة من قومه عاكفين على عبادة العجل {وَفِي نُسْخَتِها} المكتوب عليها التوراة {هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ 153} يخافون من شدة عذابه، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح، وبعد أن صام أربعين يوما، ننقله على علاته، إذ لم نقف على ما يؤيده، وكذلك القول، بأنها تكسرت ولم تعد، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول اللّه تعالى: {أَخَذَ الْأَلْواحَ} بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد 145 {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت، وإليه الإشارة في الآية 246 من سورة البقرة في ج 3، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها اللّه لسيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم واللّه أعلم.
ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر.

.مطلب الميقات الثاني الذي وقته اللّه لموسى:

أوحى اللّه إلى موسى ما ذكره بقوله: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا} فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال، وعليه قول الفرزدق:
منا الذي اختير الرجال سماحة ** وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع

والمراد بالميقات هنا الميقات الثاني الذي خصصه به ربه لمناجاته من توبة التابعين للسامري واعتذار المعتذرين المذكورين، وقد استصحب هذا العدد المختار من قومه معه وتوجه لمناجاة ربه بخلاف ذهابه للميقات الأول الذي ذهب به لأجل استلام التوراة التي وعده بها كما مر ذكره في الآية 141، وهؤلاء المختارون كلهم ممن كان مع هارون ولم يعبد العجل، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ثم دخل بهم في الوقت الذي وقته له ربه ما بين الغمام والجبل في طور سيناء وقال لهم أدنوا مني فدنوا حتى دخلوا كلهم فسجد وسجدوا معه وسمعوا كلام اللّه لموسى، فطمعوا وقالوا: {أرنا اللّه جهرة} حتى نؤمن لك فما أتموا كلامهم حتى أخذتهم الصاعقة ورجف بهم الجبل فماتوا جميعا، وهذا أصح ما قاله المفسرون في هذه الآية، كما سيأتي تفصيلهم في تفسير الآية 55 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} ورآهم موسى جثثا هامدة {قالَ} وقد أخذته الدهشة لموتهم {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} خروجهم معي إلى ميقاتك هذا حين فرطوا في النهى عن عبادة العجل ولم يفارقوا عبدته حين إصرارهم على عبادته {وَإِيَّايَ} أهلكت أيضا قبل أن أخرج بهم إليك.