فصل: مطلب ما قضى به صلّى اللّه عليه وسلم والمراد من قوم موسى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة، وغاية ما فيها قصر الميم، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها {وَاتَّبِعُوهُ} جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 158} بهديه إلى طريق الصواب.
تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم رسول من اللّه مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة، لعموم اللفظ المخاطب به، والأمر فيها للوجوب، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية 28 من سورة سبأ في ج 2 والآيتين 15 و69 من سورة المائدة في ج 3 تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب اللّه ولا حظ لهم في الآخرة، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره، ويخصصه بأنه محمد بن عبد اللّه لا غيره، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان باللّه، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر وينهى، رجاء الوصول إلى الرشد والصواب، وهذة المتابعة واجبة بالأقوال كلها أما بالأفعال فيفعل ما كان يفعله الرسول من واجبات لم يخص بها نفسه، أما ما خص به نفسه كصوم الوصال والتزوج بأكثر من أربعة وعدم الوجوب عليه في القسم وما شاكل ذلك فلا، راجع الآية 144 المارة، وأن يتابعه على طريق الندب بما يفعله أيضا مما لم يختص به ويتأدب بآدابه.
روى البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة.
وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود.
والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون.
وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ} جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة {يَهْدُونَ} الناس {بِالْحَقِّ وَبِهِ} أي الحق {يَعْدِلُونَ 159} بين الناس في أحكامهم.

.مطلب ما قضى به صلّى اللّه عليه وسلم والمراد من قوم موسى:

وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى اللّه عليه وسلم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد اللّه ولا غيره مسلما من اليهود، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين، واللّه أعلم، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة، وعبد اللّه وأصحابه فليلون، وما قيل بجواز إطلاق الكثرة عليهم بسبب إخلاصهم في الدين على حد قوله: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً} الآية 120 من سورة النحل في ج 2 فوجيه، أما ما قيل بأن أحد الأسباط الذين لم يشترك بقتل الأنبياء كان يتبرأ من بقية الأسباط الذين اشتركوا في قتلهم، وسأل اللّه أن يبعده عنهم، ففتح اللّه نفقا عبروا منه إلى ما وراء الصين أو هم قوم بأقصى الشرق على نهر يسمى الأردن، وأن رسول اللّه رآهم ليلة الإسراء وأبلغوه سلام موسى عليه السلام ووصفوهم بأوصاف كاملة وأن الرسول أقرأهم عشر سور من القرآن وأوصاهم بالصلاة والزكاة وبالجمعة وترك السبت، فلم يرد به نقل صحيح، وفيه ما ينفيه لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وكذلك الجمعة لم تقم إلا هناك، وغير معقول أن يأمرهم بشيء لم يؤمر به بعد وكان نزول أكثر من عشر سور فكيف يقتصر على تعليم عشر فقط وهو مأمور بأن لا يكتم من وحي اللّه شيئا على أحد، وهذا كاف لبطلان هذا القول والنقل، ومما يدل على عدم صحته أنه صلّى اللّه عليه وسلم لم يذكر شيئا عن هؤلاء الجماعة في جملة ما ذكره مما رآه ليلة الإسراء لأن هذا أيضا من جملة العجائب، فلو كان لذكره لقومه لهذا لا عبرة به، لأنه من نقل الأخباريين والقصّاص فهو أضعف من الضعيف لا يلتفت إليه البتة، وإنما نقلناه ليطلع عليه القارئ ويردّ على من تكلم به ويفنده له واللّه أعلم.
قال تعالى: {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا} قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية 9 من سورة يوسف في ج 2، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية 72 من سورة النحل في ج 2 ولم تتكرر في القرآن، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت {أمما} جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ} بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ}.
فضربه عليه السلام {فَانْبَجَسَتْ} ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا، وجاء في الآية 60 من البقرة في ج 3 {انفجرت} أي خرج منها ماء كثير، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج، وبالانفجار اعتبارا بنهايته {منه} أي الحجر المضروب {اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا} لكل سبط عين {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا واللّه أكرم من أن يجعل على عباده عذابين، عذاب التيه وعذاب الاختلاف، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا اللّه ربه فأجابه بقوله: {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ} بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم {و} هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها، كما سيأتي في الآية 61 من البقرة من ج 3 {ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160} بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم.
ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه، وهو الظالم لها، لأنه أوردها للشرّ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره.

.مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات:

ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} بواسطة نبيهم عليه السلام {اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} بيت المقدس المبارك {وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ} من ثمارها وفواكهها وحبوبها وبقلها {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا شكرا للنعم الموجودة فيها، مما لم يكن لكم مثله قبل {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا} تعظيما للبيت وإجلالا لربه الذي أنعم عليكم بدخولها ومنحكم من خيراتها وبركاتها {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ} المتراكمة عليكم وأحسنوا لأنفسكم وغيركم لأنا {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ 161} على المغفرة ثوابا من إفضالنا، وخيرا مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أو أمرنا هذه ولم يقدروا نعمنا عليهم وقالوا: {قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فبدل الحطة قالوا خطة، وبدل أن يدخلوا الباب ساجدين احتراما لنا خاضعين لأوامرنا دخلوه زحفا على أستاههم {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ} بسبب مخالفتهم هذه {رِجْزًا} عذابا شديدا نازلا عليهم {مِنَ السَّماءِ} وهو الموت والفرق بين أنزلنا وأرسلنا أن الإرسال يدل على الكثرة، والإنزال على القلة وذلك {بِما كانُوا يَظْلِمُونَ 162} أنفسهم لخروجهم عن الطاعة وسيأتي زيادة تفصيل لتفسير هذه الآية عند تفسير نظيرتها الآية 58 من سورة البقرة من ج 3.
وهذه أولى الآيات المدنيات في هذه السورة، وهي كما ذكرنا في مثلها مغرضة بين ما قبلها وما بعدها كالمستطردة قال تعالى: {وَسْئَلْهُمْ} يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة {عَنِ الْقَرْيَةِ} هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل {الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ} قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ {إِذْ يَعْدُونَ} يتعدون حدود اللّه ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم {فِي السَّبْتِ} الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} ظاهرة متتابعة على وجه الماء {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر وتتلهى على الساحل وتعلم أنها تصاد في غيره فتختفي {كَذلِكَ} مثل هذا الاختبار والابتلاء {نَبْلُوهُمْ} نمتحنهم {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ 163} يخرجون من طاعتنا ونحن أعلم بما يقع منهم قبل الاختبار، ولكنا نظهره لعبادنا ليعلموا حال المخالفين لهم، وإنا لا نعذب أحدا بغير ذنب وقد نثيب بغير عمل تفضلا منا.
وهذه الآية من الأخبار بالغيب معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم تجاه يهود زمانه إذ أخبرهم بما وقع في أسلافهم بمخالفة اللّه أدت لمسخهم قردة وخنازير كما في الآية 165 الآتية ونظريتها الآية 60 من سورة المائدة من ج 3 فقد أخبرهم صلّى اللّه عليه وسلم ما اقترفه آباؤهم زمن سيدنا داود عليه السلام، مع أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولم يخرج من مكة طيلة عمره حتى هاجر إلى المدينة وفي المدينة لم يطلع على كتب الأقدمين لعدم معرفته القراءة، وهم يعلمون ذلك، وسبب مسخهم أنهم كانوا حفروا حياضا وسقوا لها ساقية متصلة بالبحر فصارت الأسماك تدخلها يوم السبت على حسب عادتها لعدم المعارضة لها ولم تعرف ماحيك لها من الحيل، فسدّوا عليها طرف الساقية من جهة البحر يوم السبت وتركوها حتى إذا دخل يوم الأحد اصطادوها، فعاقبهم اللّه بالمسخ، ولهذا قال بعض العلماء من أكل الربا بالحيلة حشر يوم القيامة على صورة القردة والخنازير، كما سيأتي في الآية 274 من البقرة من ج 3، قال تعالى: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ} جماعة {مِنْهُمْ} أي يهود ذلك الزمن لأنهم بعد اقترافهم هذا الذنب بالحيلة والمكر افترقوا ثلاث فرق: فرقة تطاولت فتعدت حدود اللّه باقترافهم صيد السمك على تلك الصورة، وفرّقة سكتت ولم تشاركهم في خداعهم هذا ولم تنههم عنه، وفرقة نهت وامتنعت من المشاركة وحذّرت الفاعلين غضب اللّه.
كما كانت حالتهم في عبادة العجل إذ افترقوا ثلاث فرق أيضا كما مر في الآية 148.

.مطلب الرضى بالمعصية معصية:

فقال الساكتون للناجين {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا} في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم {قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ} غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد فرطنا في واجبنا المطلوب منها وهو النهي، لئلا نعد راضين بفعلهم، لأن الساكت عن فعل منهى عنه كالراضي به، والراضي كالفاعل.