فصل: مطلب قصة أمية بن الصلت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي بلعام المذكور نزلت هذه الآية على حضرة الرسول ليقصها على قومه، وهي من الإخبار بالغيب معجزة له صلّى اللّه عليه وسلم.
وتروى هذه القصة بصورة أخرى.
وهي أن ملك البلقاء كلف بلعاما أن يدعو على بني إسرائيل وموسى وكان ما كان مما قصصناه أعلاه وفيها أن اللّه استجاب دعاءه ووقع موسى وقومه في التيه، وأن موسى قال رب كما استجبت دعاءه فاستجب دعائي عليه وانزع منه اسمك الأعظم والإيمان، فاستجاب اللّه دعاءه وسلخه من المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء، ولا يقال كيف يدعو موسى بسلبه الإيمان ويرضى له بالكفر مع علو منصبه وأمره بدعوة الناس إلى الإيمان ذلك لأنه لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده كفره وارتداده عن الإيمان بدعائه عليه وعلى قومه وإيثاره الدنيا على الآخرة إلا أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب بحق موسى، لأن التيه قدره عليهم بسبب مخالفتهم لأمره في حرب الجبارين وكان عليه روح وراحة، وهذا مما لا شك فيه في حقه، أما على قومه، فكان فيه بعض المشقة والكلفة جزاء مخالفتهم أمره وكان هذا بدعائه عليهم لا بدعاء بلعام كما سيأتي في الآية 25 من المائدة في ج 3، قال الألوسي في تفسيره روح المعاني أنا أعجب من هذا الشقي لم لم يدع على ملك البلقاء ليخلص من شره ويدعو على موسى، ما هي إلا جهالة سوداء.
هذا، وما جاء في كلام أبي المعتمر من أن بلعاما أوتي النبوة مردود لأن الأنبياء معصومون مما وقع من بلعام وان بلعاما كفر وهم معصومون من الكفر، ولعل هذا أراد ما أوتيه من الآيات والاسم الأعظم، على حد قوله صلّى اللّه عليه وسلم من حفظ القرآن فقد طوى النبوة في جنبيه.

.مطلب قصة أمية بن الصلت:

وقال عبد اللّه بن عمر وبن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم إن هذه الآية نزلت في أمية بن الصلت الثقفي، وكان قرأ الكتب القديمة وعلم أن اللّه مرسل رسولا ورجا أن يكون هو، فلما شرف محمدا بالرسالة حسده وكذبه وقال لو كان نبيا ما قتل أقرباءه، قاتله اللّه ألم يعلم أن النبي مرسل للقريب والبعيد، وأن الكافر عنده كافر سواء كان من أقربائه أو من أعدائه، لأن الجامع فيما بينه وبين الناس هو الإيمان، فلما مات أتت أخته ضارعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فسألها عن كيفية وفاته فقالت: نزل عليه اثنان من السقف فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه أوعى فقال وعى، قال أذكى قال أبى، فسألته عن هذا فقال خيرا أريد بي فصرف عني ثم قال:
كل عيش وإن تطاول دهرا ** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني قبل ما قد بدا لي ** في خلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم ** شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

فقال لها صلّى اللّه عليه وسلم بعد أن سمع هذا منها أنشديني ما سمعت من شعره، فقالت سمعته يقول ذات يوم:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ** ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السماء مهيمن ** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
وقف الناس للحساب جميعا ** فشقىّ معذب وسعيد

حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
عند ذي العرش يعرضون عليه ** يعلم الجهر والخفاء الخفيّا

يوم يأت الرحمن وهو رحيم ** إنه كان وعده مأتيا

رب إن تعف فالمعافاة ظني ** أو تعاقب فلم تعاقب بريّا

فقال صلّى اللّه عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.

.مطلب قصتي النعمان والبسوس:

وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول، فسأله عن دينه فقال صلّى اللّه عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام، فقال له أنا عليها، فقال صلّى اللّه عليه وسلم: لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها، فقال له: أمات اللّه الكاذب منا طريدا وحيدا، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا.
إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب اللّه نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية 107 من سورة التوبة في ج 3.
وقيل إنها نزلت في البسوس، وهي رواية عن ابن عباس، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل، فقالت أدع اللّه أن يجعلني أجمل امرأة، فدعا فصارت فرغبت عنه، فدعا عليها فصارت كلبة، فقال أولادها لأبيهم إن الناس تعيرنا بأمنا فادع اللّه أن يردّها إلى حالتها الأولى ففعل، فذهبت دعواته فيها.
وليست بشيء لأن البسوس امرأة لا رجل، ويضرب فيها المثل فيقال أشأم من البسوس وحرب البسوس وهي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرّة الذي قتل ابن عمه كليب بسبب قتله ناقتها التي دخلت في حماه، فشكته إلى جساس فاغتاظ منه واستحين الفرصة من كليب، ولا زال يترصده حتى رآه خرج إلى حماه أعزل فتبعه وطعنه من قفاه بحربته فوقع صريعا على الأرض، ولما رآه وعرفه أنه ابن عمه طلب منه ماء فأعطاه طعنة أخرى فقال كليب:
المستجير بعمرو عند كربته ** كالمستجير من الرمضاء بالنار

فذهبت مثلا ومات كليب فطلب ثأره أخوه المهلهل ودام الحرب بينهما أربعين سنة، وقصتها مشهورة بالتواتر ولم يذكر لنا التاريخ بسوسا غير هذه.
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أن الذي نزلت فيه هذه الآية رجل من علماء بني إسرائيل كان يقدمه موسى عليه السلام في الشدائد ويكرمه وينعم عليه، فبعثه إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان به، وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى وتبع دين ملك مدين، قال المرحوم السيد محمود الألوسي: هذه الرواية أولى عندي بالقبول ووجه اختياره لها، واللّه أعلم أن نظم التنزيل جاء مطلقا وتنطبق الآية على من هذا شأنه، لأن الرواية جاءت مطلقة في رجل من بني إسرائيل والآية مطلقة أيضا فلذلك اختارها.
وقال الحسن وابن كيسان إن المراد بهذه الآية منافقو أهل الكتاب، وهذا بعيد أيضا إذ لا منافقين فيمكة والآية مكية، وأبعد منه قول أبي مسلم إن المراد به فرعون وبالآيات الحجج والمعجزات التي ظهرت على يد موسى والأول أولى، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا} خلقنا وهذا قسم من اللّه أي وعزتنا لقد هيأنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الكافرين منهم ولا تنافي بين هذه الآية وقوله: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآية 57 من الذاريات، لأنه تعالى خلق للعبادة من علم أنه يعبده، وخلق لجهنم من علم أنه يجحده وكم من عام يراده به الخصوص، ومن قال أن هذه اللام التي في لجهنم لام العاقبة كاللام في قوله تعالى: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} الآية 88 من سورة يونس في ج 2، وكاللام في قول صاحب الزبد:
له ملك ينادي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب

بمعنى أنه لما كانت عاقبتهم جهنم جعلوا كأنهم خلقوا لها فرارا عن إرادة المعاصي.
لا عبرة به، لأنه عدول عن الظاهر، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما.
على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين: إن اللّه تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} الآية 97 من الصافات في ج 2، ولا زيادة على بيان اللّه، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها} لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها} طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات اللّه وأدلة توحيده في سمائه وأرضه {وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها} المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها ** وإني إذ أشاء لها سميع

ولهذا قال ابن الفارض رحمه اللّه:
إذا نظرت ليلى فكلي أعين ** وإن نطقت ليلى فكلي مسامع

{أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم {كَالْأَنْعامِ} البهائم العجم {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها لأنها تعرف ما ينفعها ويضرها ولهذا تراها تجتنب بعض الأعشاب ولا تلقي نفسها من الصعدات، وتخاف كل صيحة، وتنقي ما تراه من أسورة وغيرها فتتنبه وتقف وترجع إلى الوراء وتجتنب الحفر والمياه، وهؤلاء لا يعرفون عاقبة ما يضرهم ولا نفع ما يسرهم معرفته حقيقة، مع أنهم أعطوا ما لم تعطه الحيوانات من القوة العقلية {أُولئِكَ} المشبهون بالأنعام {هُمُ الْغافِلُونَ 178} عن فهم هذه الأمثال المضروبة لمن يعقل عله يتعظ بها.

.مطلب في أسماء اللّه الحسنى:

{وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} تأنيث الأحسن اسم تفضيل، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها.
قال مقاتل: إن رجلا من أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم دعا اللّه ودعا الرحمن، فقال أبو جهل قبحه ولعنه اللّه: يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين؟ جهلا منه بصفات اللّه، فنزلت هذه الآية.
أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فغير وجيه لأنها لم تنزل، بعد وسنأتي على معاني أسماء اللّه الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء اللّه.
روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن للّه تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، واللّه وتر يحب الوتر» وفي رواية، من أحصاها.
وفي رواية أخرى إن للّه تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه {فَادْعُوهُ بِها} أيها الناس لا بغيرها من الأسماء، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء اللّه تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ويؤكده عدم جواز قولك اللّه سخي بدل جواد، وعاقل بدل عالم، وطبيب بدل حكيم، وعارف بدل خبير، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ} لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة يا هدام الديار على الانفراد، بل إذا قلت هذا فقل: يا ضار يا نافع يا معطي يا مانع، يا خالق الخلق يا جبار القلوب، تأدبا معه جل جلاله، وإن كان في الحقيقة تلك من أسمائه لأنه هو المدمر والمخرّب والمحرّك، ولكنها ليست من الأسماء الحسنى، وكذلك لا يجوز أن نسميه باسم لا نعرف معناه كما جاء في الطلاسم والتعاويذ والرقى، فقد يكون مما لا يليق بجنابه العظيم فنعرض أنفسنا لما لا يرضاه مما يشير إليه قوله تعالت قدرته {سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 119} أولئك الملحدون في أسمائه، وفيها من الوعيد والتهديد ما لا يخفى على بصير.