فصل: المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المذهب الأول: مذهب الخوارج والمعتزلة:

يرى الخوارج والمعتزلة أن أي كبيرة يرتكبها المسلم ولم يتب منها، تكون مخلدة له في النار.
إلا أن الخوارج يطلقون عليه- مع تخليدهم له في النار- الكفر في الدنيا.
والمعتزلة لا يطلقون عليه الكفر ولا الإيمان، بل اسم الفسق في الدنيا، واستدلت كلتا الطائفتين بنصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة، ولهذا سماهم العلماء بالوعيدية، لتغليبهم نصوص الوعيد على نصوص الوعد.
وقد ساق شارح الطحاوية رحمه الله- وغيره من أهل العلم- كثيرا من النصوص التي استدلوا بها، من القرآن والسنة:
فمن القرآن قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون}. المائدة (44).
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء (93).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} الفرقان.
ومن الستة حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». البخاري، برقم (48) ومسلم، برقم (64).
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». البخاري، برقم (4141) ومسلم، برقم (66).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وإذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». البخاري، برقم (5752).
ومنها في حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». البخاري، برقم (34) ومسلم، برقم (58).
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد». البخاري، برقم (2343) ومسلم، برقم (57).
ومنها حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين المسلم وبين الكفر والشرك ترك الصلاة». مسلم، برقم (82).
ومنها حديث أبي شريح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن». قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جارُه بوائقه». صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة، برقم (46).
ومنها حديث أبي هريرة قال: «من أتى كاهنا فصدقه أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد». أحمد (9532).
ومنها حديث قال: «من حلف بغير الله فقد كفر». رواه الحاكم بهذا اللفظ.
ومنها حديث قال: «ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت».
أوجه استدلال الخوارج والمعتزلة بهذه النصوص على مهبهم.
الوجه الأول: إطلاق الشارع الكفر على من أتى معصية.
مثل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وغيره من النصوص.
الوجه الثاني: نفي الإيمان عمن ارتكب معصية.
مثل: «والله لا يؤمن...». وقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..».
الوجه الثالث: الحكم على من ارتكب معصية أنه من أهل النار.
مثل قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}.
ففي هذه النصوص وما شابهها دلالة عندهم على أن أهل المعاصي كفار في الدنيا عند الخوارج، ومخلدون في النار عندهم وعند المعتزلة.

.المذهب الثاني: مذهب المرجئة:

المراد بالمرجئة الفرق التي تنفي دخول الأعمال في معنى الإيمان، وسموا بذلك لإرجائهم الأعمال أي تأخيرها عن الإيمان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
والمرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بلا همز، نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، فقالوا الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول.
وقيل: سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأٌ لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
يعني أن جميع المرتكبين لكبائر الذنوب هم من أهل الجنة قطعا، ولا يقال: فيهم: نرجئ أمرهم إلى الله تعالى، إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم.
وهم متفاوتون في الإرجاء، أشدهم غلوا فيه الجهمية، ومن تبعهم، سيأتي ذكر ما اعتمدوا عليه في مذهبهم.
وأساس النزاع بين أهل السنة وغيرهم من الفرق، اختلافهم في معنى الإيمان.
ومذهب المرجئة مبني على ثلاثة أسس:

.الأساس الأول: تعريف الإيمان وما يترتب عليه عندهم من أحكام في الدنيا والآخرة:

للمرجئة في تعريف الإيمان اختلا طويل.
وبسبب ذلك تعددت فرقهم التي بلغت اثنتي عشر فرقة كما بين ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله، فقال:
فالفرقة الأولى منهم، يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط.
وأن ما سوى المعرفة، من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب، والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما، والخوف منهما ينبغي تقييد الخوف من الله وحده والعمل بالجوارح، فليس بإيمان.
وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به، وهذا قول يحكى عن جهم بن صفوان، وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة، ثم جحد بلسانه، أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل، أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب، دون غيره من الجوارح.
هذا مع العلم أن بعضهم يضمون التصديق بالرب إلى المعرفة المذكورة، فإذا جحد التصديق بالله تعالى، فهو كافر عندهم.
وبعضهم لا يجزمون بأن أحدا من عصاة المؤمنين يدخل النار، إهمالا لما ورد في القرآن من وعيد الله تعالى لمن عصاه، وما فصل في السنة الصحيحة من دخول بعض أهل المعاصي النار وإخراجهم منها، كما سبق ذكر كثير منها في الرد على الخوارج، ومنها أحاديث الشفاعة.
ولنكتف بمذهب هذه الفرقة من فرق المرجئة، التي تخص الإيمان بمعرفة الله ومعرفة رسله ومعرفة ما جاء من عنده.
وصاحب هذه المعرفة مؤمن كامل الإيمان عندهم، ولو أنكر قلبه وجحد لسانه الإيمان بالله وبرسله وكل ما جاء من عنده، لأن الإيمان هو المعرفة ليس إلا، وبناء على ذلك يكون إبليس مؤمنا، والمشركون واليهود والنصارى والمرتدون عن الإسلام مؤمنين، ما داموا يعرفون تلك المعرفة.
وكل من عرف تلك المعرفة عندهم فهو من أهل الجنة مطلقا، ولا يستحق العقاب ودخول النار، مهما أتى من الأعمال، كالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك، أي إنهم على الضد من مذهب الخوارج والمعتزلة.

.الأساس الثاني: التمسك بنصوص الوعد:

ومما احتج به المرجئة على مذهبهم الآيات والأحاديث التي وعد الله فيها عباده الموحدين بدخول الجنة والنجاة من النار، مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الروم (53).
ويدخل في ذلك كل النصوص التي وردت في القرآن أو السنة، مما وعد الله تعالى فيها عباده بالمغفرة والرحمة والعفو.
ومنها حديث أبي ذر رضي الله عنه، قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة».

.الأساس الثالث: تأويل نصوص الوعيد:

ومن غرائب تأويلهم ما سبق من أن كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ، فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لعدم معرفته بالله، أو لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ومن ذلك تأويلهم نصوص الوعيد التي وردت في القرآن والسنة أو غيرهما من الكتب السماوية السابقة، إنما قصد به تخويف الناس لينزجروا عما نهوا عنه، وليس له حقيقة في الواقع، قال ابن تيمية:
وَقَدْ يَقُولُ حُذَّاقُ هَؤُلاءِ مِنْ الإسماعيلية وَالْقَرَامِطَةِ وَقَوْمٍ يَتَصَوَّفُونَ أَوْ يَتَكَلَّمُونَ وَهُمْ غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ: إنَّ الْوَعِيدَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْكُتُبُ الإلَهِيَّةُ، إنَّمَا هُوَ تَخْوِيفٌ لِلنَّاسِ لِتَنْزَجِرَ عَمَّا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُخَوِّفُ الْعُقَلاءُ الصِّبْيَانَ وَالْبُلْهَ بِمَا لا حَقِيقَةَ لَهُ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَبِمَنْزِلَةِ مُخَادَعَةِ الْمُحَارِبِ لِعَدُوِّهِ إذَا أَوْهَمَهُ أَمْرًا يَخَافُهُ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ أَوْ لِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ عَدُوِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وتأولوا قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فقالوا: لمن يشاء معناه لمن يشاء أن يؤمن يعني أن من شاء الله تعالى إيمانه على مذهبهم، لابد أن يغفر له، ولا يستحق العقاب.
وبهذا يعلم أنه لا يوجد عند غلاة المرجئة كافر على وجه الأرض، ممن عرف ربه بقلبه، فلا يعتبر كافرا ولا مرتدا من عرف ربه وجحد وحيه ورسالة رسله، أو أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام.
وهو عكس مذهب الخوارج الذين يعتبر كل من عصا الله كافرا خارجا من ملة الإسلام... وهو مخلد عندهم وعند المعتزلة في النار، لا يخرج منها ولا يدخل الجنة مطلقا.
وبهذا يظهر كذلك ما بين الطائفتين: الخوارج والمعتزلة وغلاة المرجئة من التناقض الشديد، وضرب بعض النصوص ببعض.

.مذهب جماهير أهل السنة:

هذا المذهب يخالف المذهبين السابقين ويعتبر وسطا بينهما، حيث جمع أهل السنة بين نصوص الوعد ونصوص الوعيد، وأنزلوا كلا منها منزلته، بدون تعارض ولا تناقض.
فإذا كان المذهب الأول قد أفرط، ناظرًا إلى نصوص الوعيد وحدها، وفتح بناء على ذلك أبواب جهنم لعصاة المسلمين، وأغلق عنهم أبواب الجنة.
والمذهب الثاني قد فرط، ناظرًا إلى نصوص الوعد وحدها، وفتح أبواب الجنة لجميع العصاة حتى من وقع في الشرك الأكبر إذا كان قد عرف الله مجرد معرفة، أو صدق بقلبه فقط، وأغلق عنهم أبواب النار التي قامت الأدلة على دخول بعض عصاة المؤمنين فيها ثم خروجهم منها:
فإن مذهب أهل السنة قد اعتدل، لجمعه بين نصوص الوعيد ونصوص الوعد معًا، فنزل كلا منهما منزلته.
فالذنب الذي يخلد صاحبه في النار ويجعله مرتدًا عن الإسلام، هو الكفر والشرك الأكبران اللذان يموت صاحبهما عليهما.
وما عداهما من الكبائر لا يخرج فاعله من الملة ولا يخلده في النار، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة، وإن شاء غفر له ابتداء.
وعلى هذا المذهب الحق دلت نصوص الكتاب والسنة.
كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}. [النساء:48].
وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. [الحجرات:9- 10]. فجعل الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين، وجعلهما إخوة لمن أصلح بينهما من المؤمنين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.
وأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وفي هذه النصوص وأشباهها رد على الخوارج والمعتزلة، كما سبق وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
والنصوص في هذا الباب كثيرة، فأهل الحق عملوا بالنصوص كلها، وأهل الباطل اقترفوا فأخذت كل طائفة منها.
إفراط، وتفريط، ووسطية:
قال ابن تيمية: فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه، أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء.
ولكن الأقوال المنحرفة، قول من يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار، بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام.