فصل: 4- التفريق بين مرتكب الكبائر والمرتدين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.4- التفريق بين مرتكب الكبائر والمرتدين:

فقد فرق شرع الله، من الكتاب والسنة بين مرتكبي الكبائر، وبين المرتدين، فجعل عقوبة بعض الكبائر التي يكفر بها الخوارج من تعاطاها، الحدود والقصاص، وجعل عقوبة المرتد القتل، ولو كان مرتكبو الكبائر من أهل القبلة كفارا، لكانوا مرتدين ولكانت عقوبتهم القتل ردة.
قال ابن تيمية رحمه الله:
ويقال للخوارج الذين نفوا عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان، هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع ولم يقتل أحدا، إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة.
فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان، فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر، فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر.

.المسألة الثالثة: وجوب الجمع بين ما ظاهره التعارض من الأدلة:

وإذ قد تبين لنا من نصوص القرآن والسنة في المسألة الثانية الدلالة الواضحة على غفران الله تعالى كبائر الذنوب- غير الشرك- لمن شاء عباده، وأنه يخرج من النار من دخلها منهم، وأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وجب الجزم بأنه لا تعارض بين هذه النصوص وبين النصوص التي استدل بها الخوارج والمعتزلة، لإمكان الجمع بينها.

.الأصل عدم تعارض أدلة الشريعة:

إن أدلة الشريعة الثابتة في القرآن والسنة، لا يحصل بينها تعارض عند الراسخين المحققين من علماء الأمة، لأنها وحي من الله، والوحي معصوم من التعارض والتناقض، وإنما يحصل التعارض بين ظواهرها عند غير الراسخين في العلم، أو عند أهل الأهواء والبدع.
وهذا ما عناه الشاطبي رحمه الله، بقوله: كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض، كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه، لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة، فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر، فيلزم أن لا يكون عنده تعارض.
ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما، بحيث وجب عليهم الوقوف، لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم.
وقال في موضع آخر: ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مر من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة.
وإذا ظهر تعارض للمجتهد بين دليلين، فلا يخلو الأمر من إمكان الجمع بينهما، أو عدم إمكانه، فإن أمكن الجمع وجب الأخذ به، بحمل كل منهما على معنى يخرجهما عن التعارض.
وإن لم يمكن الجمع بعد التحقيق الصادر من المجتهد في العلم، وجب الترجيح بينهما، وإن تعذر الترجيح وعلم تاريخ المتقدم منهما فهو منسوخ والمتأخر ناسخ.
ويجب أن يعلم أنه لا يحصل تعارض بين قطعيين، بل بين قطعي وظني، أو بين ظنيين، والقطعي مقدم على الظني.
قال الشاطبي رحمه الله: ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان، بحيث لا يصح اجتماعهما بحال، وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا، والفرض خلاف.
وقال رحمه الله، وهو يرد على المبتدعة ومنهم الخوارج والمعتزلة الذين يردون الأحاديث الصحيحة الثابتة، بحجة معارضتها للقرآن العظيم:
فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن، فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ولا يمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال.
فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني، وإن وقع بين ظنيين فهاهنا للعلماء فيه الترجيح والعمل بالأرجح متعين.
وإن أمكن الجمع، فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع وإن كان وجه الجمع ضعيفا، فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا إما جهلا به أو عنادا.
وقال النووي رحمه الله: وأما إذا تعارض حديثان في الظاهر، فلابد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما، وإنما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون المتمكنون في ذلك الغائصون على المعاني الدقيقة الرائضون أنفسهم في ذلك.
فمن كان بهذه الصفة لم يشكل عليه شيء من ذلك إلا النادر في بعض الأحيان.
ثم المختلف قسمان: أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة تعين المصير إليه، ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به.
وقال شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله، بعد أن ذَكَر اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة عمدا:
هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمدا مع الاعتراف بوجوبها، وأظهر الأقوال أدلةً عندي قول من قال: إنه كافر وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث، قول الجمهور: إنه كفر غير مخرج عن الملة، لوجوب الجمع بين الأدلة إذا أمكن.
وإذا حُمِلَ الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج عن الملة، حصل بذلك الجمع بين الأدلة.
والجمع واجب إذا أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث.
وقال النووي في شرح المهذب، بعد أن ساق أدلة من قالوا إنه غير كافر ما نصه: ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه، ولو كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث.
وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة ورواية ابن شقيق، فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو القتل، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها. انتهى محل الغرض منه.
وبهذا يعلم أن الواجب هو الجمع بين نصوص الوعيد الواردة في القرآن والسنة الصحيحة التي استدل بها الخوارج والمعتزلة على تكفير مرتكبي الكبائر من مسلمي هذه الأمة، وبين نصوص الوعد التي استدل بها أهل السنة والجماعة.
وقد سلك هذا المسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من سلف هذه الأمة.
ومنهم حَبْر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة.
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} كفر دون كفر.
قال شارح الطحاوية: وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة.
وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا إما مجازيا، وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم، الله فهذا كفر أكبر.
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر.
وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} من الحق المبين، وحَكَمَ بالباطل الذي يعلمه لغرض من أغراضه الفاسدة {فأولئك هم الكافرون} فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة وذلك إذا اعتقد حله وجوازه، وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.
وينطبق هذا الجمع على ماورد من النصوص ظاهره كفر من ارتكب كبيرة ولم يتب منها، وما ورد ظاهره معارضا لها.

.تَعَيُّنُ الجمع بين النصوص:

فيجب الجمع بين النصوص النافية للإيمان عن مرتكبي الكبائر، والنصوص المثبتة لإيمانهم.
مثل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقَه».
ومثله حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
فقد نفى صلى الله عليه وسلم، عمن آذى جاره فخدعه أو خانه دخول الجنة، ونفى ذلك عمن كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولو حمل الحديثان على ظاهرهما- وهو عدم دخوله الجنة- لما كان بينهما وبين من يعبد الأوثان فرق، لاشتراكهم في الخلود في النار، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وجهلة المغالين في التكفير ممن قد ينتسبون إلى أهل السنة، ولكان في ذلك إهدار لمعاني كل ما ورد من النصوص الدالة على غفران الله ذنوب من لقي الله لا يشرك به شيئا، والنصوص التي تضمنت خروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان بشفاعة وبغير شفاعة.
ومثل نفيِ دخول الجنة عمن ارتكب كبيرة، نفْيُ الإيمان عنه كحديث أبي هريرة- أيضا- الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن».
فهذان الحديثان وغيرهما من الأحاديث التي نُفِيَ فيها الإيمانُ أو دخولُ الجنة عن مرتكبي الكبائر، يدل ظاهرها على سلب الإيمان عنهم، وسلب الإيمان يقتضي ظاهره إثبات الكفر المخرج لهم من الملة وعدم مغفرة الله لهم وخلود هم في النار.
والأخذ بظاهر هذين الحديثين وما في معناهما يلزم منه إهدار نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وقد مضى ذكر بعضها في المسألة الثانية.
ومنها حديث أبي ذر الصريح في أنه «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة».
وفيه كرر أبو ذر سؤاله للرسول صلى الله عليه وسلم: «وإن زنى وإن سرق؟» ورسول الله يكرر له الجواب: «وإن زنى وإن سرق».
ولم ينته أبو ذر من ترديد سؤاله الذي أبدى فيه عجبه من نيل هذا العبد الذي يعصي ربه بالتعدي على حقوقه وحقوق عباده، هذه الرحمةَ العظيمة من خالقه، لم ينته أبو ذر من سؤاله، إلا بعد أكدت له هذه العبارة النبوية «على رغم أنف أبي ذر» أن تلك الهبة الربانية لمن مات على توحيد حقيقة، لا مرية فيها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الحديث: وفي الحديث أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، وأن الكبائر لا تسلب اسم الإيمان، وأن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.
والحكمة في الاقتصار على الزنا والسرقة الإشارة إلى حق الله تعالى وحق العباد.
وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...» لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الخبر.
لكن الجمع بينهما على قواعد أهل السنة، بحمل هذا على الإيمان الكامل، وبحمل حديث الباب على عدم التخليد في النار.
والإيمان الكامل المنفي هنا يجب حمله على الواجب منه، مثل نفيه صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لا يأمن جاره آذاه وخيانته، وليس الإيمان المندوب، مثل رد السلام الذي قام به غيره، ومثل الصلاة على الجنازة التي قام بالصلاة عليها سواه، فإن كلا منهما من الإيمان، فلإيمان غير الواجب إذا تركه المسلم لا ينفى عنه الإيمان، وإنما ينفى عمن ترك الإيمان الواجب.
قال ابن تيمية رحمه الله: وكل أهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب، فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد.
وفيما سلكه الراسخون في العلم الأمة نجاة.
وإن فيما ذكر عن ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، مخرج من ورطة الخوارج والمعتزلة الذين أخذوا بظواهر بعض الأدلة وأهملوا غيرها، حيث قال في كفر من حكم يغير ما أنزل الله: كفر دون كفر وجملوا الكفر المخرج من الملة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله.
ومعلوم أن في مسلك المجتهدين الراسخين في العلم من سلف هذه الأمة قدوة للمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم، لأن اجتهاد الأولين وعملهم بالدليل يزيده قوة، ولهذا لم يخرج عن اجتهادهم في الحكم بالكفر المخرج من الملة على العصاة، إلا من فقد الاجتهاد، أو اتبع هواه كالخوارج والمعتزلة.
قال الشاطبي رحمه الله: ولكن المخالف على ضربين:
أحدهما أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا.
فإن كان كذلك فلا حرج عليه وهو مأجور على كل حال، وإن لم يُعطِ الاجتهادَ حقَّه وقصر فيه، فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول.
والثاني أن لا يكون من أهل الاجتهاد، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا أو مغالطة، إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم، لأن المجتهدين وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها، لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أوفى مسألة موارد الظنون لا ذكر لهم فيها.
فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل، والثاني يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل.
نخلص من كل ما مضى في هذه المسألة إلى أمور أربعة:
الأمر الأول: تعين الجمع حيث أمكن بين الأدلة التي قد يظهر منها التعارض عند بعض المجتهدين.
الأمر الثاني: أنه لا يجوز لغير المجتهدين المحققين إدخال أنفسهم في ميادين الاجتهاد، لأنهم ليسوا من أهله.
الأمر الثالث: أنه لا يجوز لأحد إخراج أحد من ملة الإسلام تحقق دخوله فيها إلا بدليل قطعي فيه من الله برهان.
الأمر الرابع: أن عامة من حكموا على أهل المعاصي بالكفر أو الخلود في النار، هم من أهل الأهواء أو ممن ليسوا أهلا الاجتهاد.