فصل: حكم إسناد الولايات العامة للمنافقين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.حكم إسناد الولايات العامة للمنافقين:

سبق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاشر المنافقين كما عاشر عامة المسلمين في أحكام الدنيا، ولكنه لم يأتمن أحدا منهم- فيما أعلم- على مصالح الأمة في وظائفهم العامة، فلم يسند إليهم جباية الأموال، ولا الإمارة في الحرب، ولا القضاء بين الناس، ولا إمامتهم في الصلاة، ولا غيرها من الولايات التي يتمكنون بها من تدبير شئون المسلمين.
والسبب في ذلك أنهم يكفرون بالله ورسوله، ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يضاف إلى ذلك فقدهم الأمانة التي هي أحد أسس الولايات على المسلمين.
والأمانة مطلب أساسي عند المسلم وغير المسلم، فقد أغرت فتاة مدين أباها الصالح باستئجار موسى عليه السلام، بصفتين عظيمتين يقل في كثير من الناس اجتماعهما:
الصفة الأول: الأمانة.
والصفة الثانية: القوة.
كما قال تعالى عنها: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} القصص (26).
وكانت الأمانة من أعظم الصفات التي جعلت ملك مصر، وهو غير مسلم، يمكين يوسف عليه السلام من الولاية على أهم الوظائف في عهده، وهي خزائن الأرض كما قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}.
لقد أكَّد الله سبحانه وتعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} النساء:(58).
قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع.
ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم فقال:
والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم. إلى أن قال: فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة».
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكا له وإنما هو خازن فقط، فلما كان واليًا لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين».
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: «لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها.
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: «لأبعثن عليكم أمينًا حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه».
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكه وإنما هو خازن فقط، فلما كان واليًا لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين».
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: «لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح».
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها.
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: «لأبعثن عليكم أمينًا حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه».
والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفًا بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤًا لولاية أمور المسلمين.
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعامل المنافقين معاملة سائر المسلمين بحسب ظواهره، ولكنه لم يكن يسند إليهم ولاية شئون أمته، لأنه قد وصفهم بالخيانة على ما يؤتمنون عليه.
روى أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «آية المنافق ثلاث..»، وفيها: «وإذا اؤتمن خان».
وقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قَال رسول الله «المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها.
وأقسم صلى الله عليه وسلم على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46).
ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، ومن أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم، فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه.
والمنافقون يفقدون الصدق كما يفقدون الأمانة، كما قال الله تعالى عنهم: {أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} الحشر (11).
وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)}.
والخائن الكاذب المخادع، لا يجوز أن يأمنه الناس على تدبير مصالحهم ولا أسرارهم، لأنه كما سبق لا يضمر للمسلمين إلا الشر والكيد، وهم أولياء لإخوانهم الكفار ينصرونهم على المسلمين، يتجسسون لهم عليهم، فلا يحل لوال مسلم أن يسند إلى المنافقين أي ولاية يحصل منهم بها ضرر المسلمين.

.الإنكار على ما يقترفه المنافقون في ولاياتهم:

فالأصل عدم تولية المنافقين على شئون المسلمين، لأنهم غير مؤتمنين على تدبير شئونهم، ولكن إذا ما ابتلي المسلمون بولاية المنافقين عليهم مكرهين، بأن قويت شوكتهم فاغتصبوا الأمر بدون رضاهم، أو تحالفوا مع الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين، فمكنوهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية.
فالواجب على المسلمين أن ينكروا عليهم ما يخالفون فيه كتاب الله وسنة رسوله، بحسب مراتب المخالفة ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر والنهي.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة من أهم قواعد الإسلام التي لا يجوز التقصير فيها، وهي من فروض الكفاية التي إذا تركت أثم كل قادر على القيام بها من الأمة الإسلامية، حتى يوجد من يقوم بها قياما كافيا.
وكون مرتكب الكفر المعين لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة، لا يبيح للمسلمين السكوت عنه وإشعاره بأنه مسلم، بل إن ذلك يوجب عليهم، أن يبينوا له أن الكفر يخرج صاحبه بعد إقامة الحجة عليه من الملة، وأن صاحبه مخلد في النار إذا مات عليه.
ومن أمثلة ذلك إنكار ما علم من الدين بالضرورة وجوبه، كاعتقاد تحكيم شرع الله والحكم به، وهو كثير في أبواب الفقه الإسلامي، ومنه أركان الإسلام، وإقامة الحدود، وتقسيم الميراث بين الورثة كما نزل بها القرآن.
وكذلك استحلال ما علم من الدين بالضرورى تحريمه، كشرب المسكر وأكل الميتة والزنا.
فكل ذلك يجب على المسلمين وبخاصة العلماء إنكاره وبيانه لمن اتصف به، فإذا أنكروه وبينوه وقامت الحجة على صاحبه ولم يؤب إلى الله ويستسلم لحكمه أصبح بعينه مستحق للتكفير.
ويجب أن يعلم أنه كلما كانت المخالفة أشد كان وجوب الإنكار أعظم، وكلما كانت القدرة على إنكار المنكر أقوى كان وجوبه أشد، وكلما كانت مصالح الأمر والنهي أكثر من مفاسدهما، كانا أوجب.
ومعرفة تحقق هذه الأمور والموازنة بينهما تعود إلى أهل الحل والعقد، من علماء الأمة وعقلائها وأعيانها وذوي التخصصات المتنوعة فيها.
وليس ذلك إلى غوغاء الناس وجهالها وسفهائها وذوي العواطف غير المنضبطة الذين يضرون الأمة أكثر مما ينفعونها.
قال ابن تيمية رحمه الله: وَجِمَاعُ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ: فِيمَا إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ أَوْ تَزَاحَمَتْ ; فَإِنَّهُ يَجِبُ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ مِنْهَا فِيمَا إذَا ازْدَحَمَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ، وَتَعَارَضَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ.
فَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ وَدَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَيُنْظَرُ فِي الْمُعَارِضِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفُوتُ مِنْ الْمَصَالِحِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرَ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ; بَلْ يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ.
وذكر ابن القيم رحمه الله: أن لإنكار المنكر أربع درجات، فقال:
فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان.
والثالثة موضع اجتهاد.
والرابعة محرمة.

.أسباب الإطالة في معنى الكفر والنفاق:

لقد أطلت الكلام في معنى الكفر والتكفير والنفاق وبيان خطرهما.
وترجع هذه الإطالة إلى اٍلأسباب الآتية:
السبب الأول: بروز جماعات وأفراد من شباب المسلمين المتحمسين لهذا الدين، الذين هيَّجت عواطفَهم وألهبت مشاعرَهم، محاربةُ غالب حكومات الشعوب الإسلامية لتطبيق شريعتهم في حياة أمتهم، متواطئين في ذلك مع أعداء الإسلام من غير المسلمين.
فرأوا تطبيق القوانين الوضعية التي يخالف غالبها كتاب الله وسنة رسوله، ورأوا انتشار الظلم وانزوراء العدل، كما رأوا اختفاء كثير من الأخلاق الإسلامية، وسيطرة كثير من الأخلاق الفاسدة، ورأوا ارتكاب الكبائر واستباحة المحرمات، ورأوا إهانة دعاة الإسلام وعلماء الأمة والزج بهم في السجون والمعتقلات والمنافي.
بل رأوا قتل كثير منهم بغير جرم ارتكبوه إلا أن يدعوا الناس إلى تطبيق معنى لا إله إلا الله ورأوا الأعداء يحتلون أرضهم وينتهكون أعراضهم، ورأوا فريضة الجهاد معطلة في وقت اشتدت حاجة الأمة إليه... ورأوا سكوت كثير من علماء الأمة عن مناصحة من بيدهم زمام أمور الشعوب الإسلامية ومقاليدها.
ورأوا الواقع العملي في الجهاد الأفغاني يؤيد ما جاء به وحي الله من الكتاب والسنة، من وجوب إعداد العدة لجهاد أعداء الله الكافرين المعتدين، وأنه لا مخرج من عدوان المعتدين إلا بذلك.
فلم تطق هذه الجماعات وهؤلاء الأفراد الصبر على بقاء هذه المآسي في هذه الأمة، فلجئوا إلى التسلح بسلاحين خطيرين:
السلاح الأول: سلاح العقيدة والفكر.
السلاح الثاني: سلاح القوة والتنفيذ:
أما سلاح العقيدة والفكر، فقد تمثل في اعتقاد كفر حكومات الشعوب الإسلامية إجمالا وتفصيلا كفرا مخرجا من ملة الإسلام، وأعني بالإجمال أن حكومةَ دولةٍ مّا من تلك الحكومات كافرة، وأعني بالتفصيل أن كل فرد بعينه وباسمه كافر.
بل إن بعض تلك الجماعات حكمت بالكفر على كل موظفي الدولة ومنهم العلماء الذين سموهم بعلماء السلطة بحجة أنهم يوالون الحكام ويعينونهم على كفرهم، بل إن بعضهم كفروا الشعوب بحجة أنهم ساكتون عن كفر الحكومات راضون به.
ولهذا وجدت جماعات كثيرة تعتقد هذا الاعتقاد في غالب البلدان الإسلامية، مع الاحتلاف في قلة تلك الجماعات وكثرتها في كل بلد منها، وقد بدأت بعض هذه الجماعات في مراجعة مواقفها والرجوع عن اعتقادها الذي ترتبت عليه آثار خطيرة مشروعة.
وأما سلاح القوة والتنفيذ، فهو حمل السلاح واستحلال قتل من اعتقدوا كفره، من الحكام والموظفين والشعوب.
وترتب على ذلك ما ترتب من إزهاق لأرواح المسلمين في بلدانهم وهدم لمنشآتهم وإهدار لأموالهم، بل إن بعضهم اجترؤوا على سبي لفتيات مسلمات في بعض البلدان.
السبب الثاني: أن هؤلاء الشباب وتلك الجماعات رتبوا على تكفير من خالفهم في رأيهم وعدم اعتبار رأيه ومواقفه، ورأوا خلو البلدان الإسلامية من جهة تطاع أو تستشار.
ورأوا أن الجهاد في سبيل الله الذي فرضه الله على عباده، قد عطل ونكست رايته، حتى احتل الكفار بعض بلدان المسلمين أو سيطروا على حكامها الذين أصبحوا ينفذون في الشعوب الإسلامية ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
فرتبوا على ذلك أنه يجب عليهم القيام بهذه الفريضة فاتجهوا إلى التدريب القتالي وحيازة السلاح والقيام بغزو بلاد الكفار، وهو ما يسمى بجهاد الطلب الذي يباح فيه قتل الكفار وإفساد أموالهم وتخريب ديارهم إذا تعينت المصلحة في ذلك، وقتل غير المقاتلين إذا تترس بهم المقاتلون.
واعتبروا أن القدرة المشروعة هي تلك القدرة التي توفرت لهم، من مال وتدريب وحمل سلاح واستعماله، ولم يفكروا فيما يترتب على تدبيرهم من عواقب وخيمة على الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، حيث إنهم يفقدون القدرة على حماية تلك الأمة من عواقب تدبيرهم.
وقد سبق الكلام على وجوب الموازنة بين المصالح والمفاسد وتقديم أعلى المصلحتين إن لم يمكن الجمع بينهما، وترك أعظم المفسدتين إن لم يمكن تركهما جميعا.
السبب الثالث: مرور صاحب هذا البحث بتجربة خطيرة، يرى شباب المسلمين اليوم يمرون بها، ورأى أن الواجب عليه نقل تجربته إليهم ليتعظوا بها.
نعم لقد بدأت هذه التجربة سنة 1374هـ- 1954م ولم يتضح له خطرها اتضاحا كاملا، إلا سنة 1383هـ- 1964م يعني أن التجربة استمرت عشرة أعوام تقريبا.
فما هي تلك التجربة وكيف تبين لصاحبها خطرها والخطأ فيها؟
أولا: التجربة:
معلوم ما كان عليه غالب أهل اليمن في تلك الفترة من جهل عام شامل: عام في أصول الدين وفروعه، وشامل لغالب الشعب... ولست بصدد التفصيل في ذينكم الأمرين، وإنما أذكر ما يتعلق بالتجربة.
كان الناس يتبركون بالقبور، وبخاصة قبور آبائي وأجدادي، وكانوا يستغيثون بالموتى ويدعونهم من دون الله ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله، كطلب المرأة العاقر من الميت أن يرزقها الولد، وكانوا يذبحون للموتى الذبائح يطلبون منهم نزول الغيث عند الجدب.
وعندما بدأت طلب العلم في قرية صامطة في جنوب غرب المملكة العربية السعودية، عرفت أن كثيرا من تلك الأمور من الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولم أعلم أنه لا يجوز تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه.
فاعتقدت كفر المسلمين هناك، وأول من شمله تكفيري أسرتي، اعتقدت كفر أبي الذي مات وأنا حمل، واعتقدت كفر أمي التي توفيت وأنا صغير، واعتقدت كفر إخواني الذين كاد أحدهم يقتلني، وحرمت أكل ذبائح كل الناس الذين لم يعلنوا إسلامهم من جديد ويكفروا بما كانوا يعتقدون.
ثم ألفت منظومة، وكتبت عليها تعليقات من بعض كتب التوحيد، وسميتها بهجة القلوب في توحيد علام الغيوب ذكرت فيها تلك الأعمال الشركية وكفرت أشخاصا بأعيانهم ذكرتهم في المنظومة بأسمائهم، وقد طبعت ووزعت في غالب قرى اليمن، وبخاصة بلدان تهامة.
كيف تبين لي خطر التجربة وخطؤها؟
كنت قبل مجيئي إلى الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، قد تمكنت من قراءة ما نشر من كتب علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، ومنها كتابه تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان وكان كثيرا ما يذكر في كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه وينقل كلامه، وتأثرت بأسلوب الرجل لسهولته واعتداله... ولكني لا أذكر شيئا علق بذهني من تلك القراءة في التكفير.
وعندما جئت درست في الجامعة الإسلامية وجدت في شرح كتاب الطحاوية ما يخالف ما كنت أراه، فسألت أستاذنا الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله، فقال: إن الكافر المعين الذي لم يدخل في الإسلام ويعلن إسلامه، نطبق عليه أحكام الكفر كلها في الدنيا، ولكنا لا نحكم عليه بجنة ولا نار في الآخرة وندع أمره إلى ربه، لأنا لسنا مكلفين بالحكم على الناس في الآخرة.
وطال الحوار بيني وبينه رحمه الله، وكان يمتاز عن كثير من الأساتذة باللطف والصبر والحوار، قوي الحجة في الإقناع... فأقنعني بأنه لا يجوز تكفير المعين قبل إقامة الحجة عليه ولو أتى ما هو كفر، ولا يجوز الحكم على معين بأنه مخلد في النار، كما لا يحكم لأحد بأنه من أهل الجنة إلا إذا قام الدليل على ذلك.
ونصحني بالإكثار من قراءة كتب ابن تيمية رحمه الله، فنفذت نصيحته... وقرأت بعد أن انتهيت من دراسة الجامعة سنة 1385هـ عشرين مجلدا من مجموع الفتاوى، فوجدت فيها بغيتي، ومنها تبين لي خطأي في تلك التجربة، وسبق ذكر بعض النصوص التي أثبتها هنا في هذا الكتاب من كلامه رحمه الله... كما أثبتها في كتابي: الإيمان هو الأساس وحمدت الله تعالى أن تبين لي الحق الذي كنت أجهله، وبسبب ذلك الجهل كفرت أقرب المقربين إلي وهما الأبوان، ولم أكن أستغفر لهما.
هذه تجربتي أنقلها لأبنائنا الشباب المتحمسين الذين يجب أن يراجعوا أنفسهم ولا ينساقوا وراء المكفرين ممن لم يصقل عقولهم فقهاء الإسلام، ولم تتوفر لهم معرفة دراسة قواعد العلوم وأصولها على أيدي مشايخ العلم المتمكنين منه، كما قال الإمام الشاطبي فيما سبق:
من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به، أخذُه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام، وقلما وجدتُ فرقةً زائغة ولا أحدا مخالفا للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف.