فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قاتلوا العرب والعرب معطلون لحدود الله، مستبيحون لحرماته، تاركون للواء محمد لا يمشي تحته أحد، وسائرون تحت ألوية الغدر والعصيان.. فلا عجب أن ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم مصداق قوله بعد ذلك في اليهود وكل مارق {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل...}. بعد الحديث عن الأمم التي هلكت لسوء سلوكها نقرأ آيتين جديرتين بالتأمل: الأولى قوله تعالى: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}. وقوله بعد ذلك {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}. ونؤكد أنه ليس في هاتين الآيتين ولا في غيرهما مما يشبهما أية أثارة من جبر! إن حرية الإرادة البشرية فوق الجدل وإلا سقط التكليف كله واعتبر الوجود مهزلة!! ونلفت النظر إلى أن هناك ضلالا، وأن هناك إضلالا، ولا يضل الله سبحانه إلا من ضل.!هناك زيغ وهناك إزاغة ولا يزيغ الله سبحانه إلا من زاغ. كما قال في سورة أخرى {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا...}. ويغلب تذييل الآيات بما يثبت الاختيار البشرى ونجد هنا قوله تعالى: {... ويذرهم في طغيانهم يعمهون} بعد قوله: {من يضلل الله فلا هادي له} إشارة إلى أن هلاكهم وليد طغيانهم. وفى الآية التي سبقتها {.. ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون} إشارة إلى أن مسلكهم هو سبب خسارهم.. وعلى سنة القرآن في التعبير البلاغى يجئ نظم الآيات فنحن نقول: تأخذ الأفران وقودها من الأخشاب الجافة والأعواد اليابسة. ونقول: يأخذ السقوط أهله من الكسالى والقاعدين. وهذه كلها عبارات مجازية فلا الأفران تأخذ ولا السقوط يأخذ.. وعلى هذا النحو جاء التعبير القرآنى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها...} والخ.
والمراد أن القلوب المحجوبة والعيون المغلقة تقود أصحابها إلى جهنم وعلى كل امرئ يريد النجاة أن يفتح قلبه وعينه وذلك في مقدوره بيقين.! ولذلك قال جل شأنه {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة...}! {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء...}. وفاقد الفكر والنظر لا يلومن إلا نفسه. وقد نصح الله المسلمين كيما يتجنبوا مصاير الأولين أن يحسنوا علاقاتهم بالله، وأن يدعوه سبحانه بأسمائه الحسنى ويبتعدوا عن الشرك القبيح والظن السيئ {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها...}.. ولا شك أن الكمال والمجد والغنى لله وحده، ونحن عند الحيرة ندعو الهادى، وعند الظلمة ندعو النور وعند الحاجة ندعو الغنى، أما المقطوعون عن الله فهم يدعون غيره، أو يجهلون قدره فهم ملحدون في أسمائه محجوبون عن ذاته!. والخاصة الأولى للأمة الإسلامية صدق توحيدها وعبوديتها {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون * والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} إن لله مكرا بالمجرمين قد تذهلهم عنه لذات عاجلة أو انتصارات خادعة أو تقلب في البلاد مقرون بالسطوة والكبر.. وهذه الأحوال من إملاء الله للمبطلين، ثم يجزهم حبل المنية إلى مصارعهم من حيث لا يعلمون قال تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين}. والمطلوب من أهل الحق إذا لحقتهم البأساء والضراء ألا يضطرب يقينهم ويفتر حماسهم، بل يجب أن يصابروا الليالى الكالحة حتى يدركوا النصر الإلهى وهو آت حتما وإن طالت السنون. ولما كان الإيمان باليوم الآخر امتدادا للإيمان بالله وأسمائه فإن النفس البشرية تتطلع إلى معرفة ميقاته، وتتطلع إلى الساعة المؤذنة به. وقد يسعى البعض إلى رسول الله- بصلة خاصة- يحاول عن طريقه اكتشاف ذلك المجهول الغائب!
وقد نزل الوحى رافضا هذه المحاولات وكاشفا أن علم الساعة لله وحده: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو...}. والواقع أن استشرافنا لهذه المعرفة قليل الغناء، إنه قد يعنى المعاصرين لقيام الساعة، أما نحن فساعتنا تبدأ من حين الوفاة. عندئذ ننتقل إلى العالم الآخر، ونعرف أن الحياة الدنيا كانت وهما كبيرا..! ومن خصائص الإسلام التوكيد على نبوة محمد وعبوديته إنه ليس إلها ولا شبه إله ولا جزء إله، إنه عبد لله الواحد لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا.. وكذلك سائر الملائكة والبشر، ومن زعم غير هذا فهو كذوب.. وعادت سورة الأعراف- كما بدأت- تتحدث عن آدم، لقد ذكر هنا والمراد ذريته كما ذكرت الذرية أول السورة والمراد آدم نفسه. والسياق هنا عاتب غاضب! إن الله غمر أبناء آدم بأنعمه، فبدل أن يشكروا له أشركوا به! {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون}. ثم اتجه الخطاب إلى الدعاة وإمامهم منددا بجمود هؤلاء المشركين وعدم استفادتهم من الوحى النازل لهدايتهم {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}. وهذا جمود مستغرب، وعلى سيد الدعاة أن يصمد أمامه مستمسكا بالكتاب الذي نزل عليه قائلا بلسانه وجنانه {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}. وهذا الكتاب أجدى من الخوارق الحسية التي ينتظرونها ويطالبون بها {... قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. ومهما طال التعنت وزادت المكابرة فعلى الرسول الكريم أن يصبر {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}...
إن هذه السورة قصّت في أوائلها كيف نجح الشيطان في إخراج آدم من الجنة، وبينت أن محاولاته لتضليل بنيه لن تنتهى! لكن الشيطان لا يملك أكثر من الوسوسة. وما دام الإنسان مؤمنا فستنهزم الوساوس وترتد مدحورة {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. لكن الذين حرموا هذا القلب الصاحى يتبعون الشيطان فيقودهم إلى مهالكهم! وخير ما يعصم المرء تشبثه بذكر الله، فإن هذا الذكر يعصمه من الزلل ويستبقيه في مستوى رفيع. وخير الذكر هو الكتاب الكريم {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}. وليس هذا الذكر حركة لسان مع غفلة قلب وشرود ذهن. إن الذكر وعى مكتمل وهو من وظائف العقل قبل كل شئ. ويجب أن يكون موصولا لا متقطعا، ومسيطرا على السر والجهر، وباعثا على الرغبة والرهبة: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}. وبهذا الذكر ينتظم المؤمن العابد مع الكون كله، وهو يسبح بحمد ربه. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الأعراف:
أقول: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه: أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق، وقال فيها: {هوَ الذي خلَقَكُم من طين} وقال في بيان القرون: {كَم أَهلكنا من قبلهم من قرن} وأشير فيها إلى ذكر المرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة وتفصيلها فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط، بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها وذلك تفصيل إجمال قوله: {خلَقَكُم مِن طين} ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية إهلاكهم، تفصيلًا تامًا شافيًا مستوعبًا، لم يقع نظيره في سورة غيرها، وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم، فكانت هذه السورة شرحًا لتلك الآيات الثلاثة وأيضًا، فذلك تفصيل قوله: {وهوَ الذي جعلَكُم خلائفَ الأَرض} ولهذا صدر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض خليفة وقال في قصة عاد: {جعلَكُم خُلفاء مِن بعدِ قوم نوح} وفي قصة ثمود: {جعلَكُم خُلفاء من بعد عاد} وأيضًا فقد قال في الأنعام: {كتَبَ ربَكُم على نفسهِ الرحمة} وهو موجز، وبسطه هنا بقوله: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} إلى آخره فبين من كتبها لهم وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأنعام فهو: أَنه قد تقدم هناك: {وأَن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه} وقوله: {وهذا كتابٌ أَنزلناهُ مباركٌ فاتبعوه} وقوله: {وهذا كتابٌ أَنزلناهُ مباركٌ فاتبعوه} فافتتح هذه السورة أيضًا باتباع الكتاب في قوله: {كتاب أُنزِلَ إِليك} إِلى {اتبعوا ما أُنزِلَ إِليكُم مِن رَبِكُم} وأيضًا لما تقدم في الأنعام: {ثم يُنبئهم بِما كانوا يَفعَلون} {ثُمَ إِلى ربِكُم مرجِعكم فيُنَبِئكُم بما كنتم فيه تختَلفون} قال في مفتتح هذه السورة: {فلنسأَلن الذينَ أُرسِلَ إِليهم ولنسألن المُرسَلين} {فلنقصن عليهم بعلم} وذلك شرح التنبئة المذكورة وأيضًا فلما قال في الأنعام: {من جاء بالحسنة فله عشر أَمثالِها} وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذه السورة بذكر الوزن، فقال: {والوزن يومئذٍ الحق} ثم ذكر من ثقلت موازينه، وهو من زادت سيئاته على حسناته، ثم ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف، وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (1):

قوله تعالى: {المص (1)}

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{يتذكرون} بياء الغيبة ثم تاء التفعل: ابن عامر. والباقون كما مر في آخر الأنعام.

.الوقوف:

{المص} o كوفي {للمؤمنين} o {أولياء} ط {تذكرون} o {قائلون} o {ظالمين} o {المرسلين} o لا للعطف {غائبين} o {الحق} ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب {المفلحون} o {يظلمون} o {معايش} ط {تشكرون}. اهـ.

.اللغَة:

{حَرَجٌ} ضيق يقال: حَرج المكانُ أو الصدرُ إِذا ضاق {بَيَاتًا} قال الراغب: البَيَاتُ والتبيتُ: قصدُ العدو ليلًا {قَائِلُونَ} من القيلولة وهي النوم وسط النهار، والقائلة: الظهيرة {مَذْءُومًا} مذمومًا يقال ذأمه أي ذمه وحقَّره {مَّدْحُورًا} مطرودًا يقال دحره أي طرده وأبعده {سَوْءَاتِهِمَا} السوأة: العورة سميت بذلك لأن الإِنسان يسوءه ظهورها {طَفِقَا} شرعًا وأخذا يقال: طفِق يطفق إِذا ابتدأ وأخذ {يَخْصِفَانِ} يرقعان ويلزقان {رِيشًا} لباسًا تتجملون به وأصل الريش: المالُ والجمال ومنه ريش الطير لأنه زينةٌ له وجمال {قَبِيلُهُ} جنوده وأصل القبيل: الجماعةُ سواءً كانوا من أصلٍ أو أصول شتى {فَاحِشَةً} الفاحشة هي الشيء الذي تناهى قبحه والمراد بها هنا الطوافُ حول البيت عراةً وكل أمرٍ قبيح يسمى فاحشة، والفحشاء ما اشتد قبحه من الذنوب كالفاحشة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال ابن عباس: {المص} أنا الله أفصل. وعنه أيضًا: أنا الله أعلم وأفصل. قال الواحديّ: وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل، والجمل إذا كانت ابتداء وخبرًا فقط لا موضع لها من الإعراب، فقوله: أنا الله أعلم، لا موضع لها من الأعراب، فقوله: {أنا} مبتدأ وخبره قوله: {الله} وقوله: {أعلم} خبر بعد خبر، وإذا كان المعنى {المص} أنا الله أعلم كان إعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها، وقال السُّدّيّ: {المص} على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور.
قال القاضي: ليس هذا اللفظ على قولنا: أنا الله أفصل، أولى من حمله على قوله: أنا الله أصلح، أنا الله أمتحن، أنا الله الملك، لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو موجود في قولنا أنا الله أصلح، وإن كانت العبرة بحرف الميم، فكما أنه موجود في العلم فهو أيضًا موجود في الملك والامتحان، فكان حمل قولنا: {المص} على ذلك المعنى بعينه محض التحكم، وأيضًا فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف، من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى، انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق.
وأما قول بعضهم: إنه من أسماء الله تعالى فأبعد، لأنه ليس جعله إسمًا لله تعالى، أولى من جعله اسمًا لبعض رسله من الملائكة، أو الأنبياء، لأن الاسم إنما يصير اسمًا للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح، وذلك مفقود هاهنا، بل الحق أن قوله: {المص} اسم لقب لهذه السورة، وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في المسميات، بل هي قائمة مقام الإشارات، ولله تعالى أن يُسَميّ هذه السورة بقوله: {المص} كما أن الواحد منا إذا حَدَثَ له ولد فإنه يسميه بمحمد.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {المص} مبتدأ، وقوله: {كِتَابٌ} خبره، وقوله: {أَنزِلَ إِلَيْكَ} صفة لذلك الخبر.
أي السورة المسماة بقولنا: {المص كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ}.
فإن قيل: الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هوأن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه، فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نعرف نبوته، لا يمكننا أن نحتج بقوله، فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله: لزم الدور.
قلنا: نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله.
والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ، ولا تعلم من معلم، ولا طالع كتابًا ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار، وانقضى من عمره أربعون سنة، ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال، ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين، وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى.
فثبت بهذا الدليل العقلي أن {المص} كتاب أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه وإلهه. اهـ.