فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلًا فباطل.
نعم جوز أن يكون من المجاز.
والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم.
والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة كما يفهمه كلام الكشاف كناية عن عدم المبالات بالأعداء.
وأيًا ما كان فالتنوين في {حَرَجٌ} للتحقير، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه.
والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أو لا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل: إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ.
وقال الفراء إنها اعتراضية، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعًا، ولترتيب ما ذكر على الإخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابًا منزلًا إليك.
وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في القيام بحقه فإن كلًا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعًا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول.
ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر.
{لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل.
والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم، وقد يقال: إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه.
واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير.
قيل: وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبًا.
ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك على ما قيل من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج.
أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب.
وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلًا عليه عليه الصلاة والسلام خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرًا في صدرك لأجل الإنذار، وقيل: إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناءً على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح، وقيل: يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون.
وقال العلامة الثاني: إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي كما قيل لفساد المعنى.
وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلى الله عليه وسلم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه؛ وأنت خبير بأن كون المنهى عنه محذورًا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلًا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه.
والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناءً على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصًا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبًا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرًا للتفسير الثاني، سلمنا أنها نص لكنا نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1، 2] الآية.
{وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} نصب بإضمار فعله عطفًا على {تنذر} أي وتذكر المؤمنين تذكيرًا.
ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل {لّتُنذِرَ} معللًا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحدًا حتى يجوز حذف اللام منه.
ويمكن كما في الكشف أن يقال: لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير.
نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير.
ويحتمل الرفع على أنه معطوف على {كِتَابٌ} أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى، والفرق بين الوجهين على ما في الكشف أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابًا كاملًا في شأنه بالغًا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد.
والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابًا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى، لفظًا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي، إبلاغًا في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفًا للعبء عن النّبي صلى الله عليه وسلم فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور.
فقوله: {كتب} مبتدأ ووقع الابتداء، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم: رجلٌ جاءني، أي لا امرأة، وتمرة خيرٌ من جرادة، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله، واستبعادهم ذلك، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد، ونظيره قوله تعالى: {قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض} [ص: 22] فالتّنكير للنّوعيّة.
وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم: شرّ أهَرّ ذَا نَاب أي شرٌ عظيم.
وقول عُوَيْف القوافي:
خَبَرٌ أتَانِي عن عُيَيْنَةَ موجِع ** كادَت عليه تَصَدعّ الأكْبَادُ

أي هو كتاب عظيم تنويهًا بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف.
وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد، وكونه نازلًا على رجل أمّيّ.
وقوله: {أنزل إليك} يجوز أن يكون صفة ل {كتاب} فيكون مسوغًا ثانيًا للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله، فلا يحتاجون إلى الإخبار به، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة، فيكون الخبر مستعملًا في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب.
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله: {أنزل إليك} مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين، والمقصود: تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين، وتأنيس المؤمنين، أي: هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا.
وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان.
ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفًا، وجعلوا {كتب} خبرًا عنه، أي هذا كتاب، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب، ومنهم من جعل {كتاب} خبرًا عن كلمة {آلمص} [الأعراف: 1] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى.
وصِيغ فعل: {أنزل} بصيغة النائب عن الفاعل اختصارًا، للعِلم بفاعل الإنزال، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية.
والفاء في قوله: {فلا يكن في صدرك} اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل {أنزل} ومتعلّقة وهو {لتنذر به}، فإنّ الاعتراض يكون مقترنًا بالفاء كما يكون مقترنًا بالواو كما في قوله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساف} [ص: 57] وقوله: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى} [النساء: 135].
وقول الشّاعر وهو من الشّواهد:
اعْلَمْ فعِلْمُ المرء يَنْفَعُه ** أنْ سَوف يأتي كُلّ ما قُدّرا

وقول بشّار بن برد:
كقائلة إنّ الحمار فَنَحِّه ** عن القتّ أهلُ السّمسم المُتهذّبِ

وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته، وأصل ترتيب الكلام هنا: كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه، وقد ذكَر في مغني اللّبيب دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة.
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشرح صدرك به.
ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبي صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين، بمعنى تكوين النّفي، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات.
مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب، عن الحصول في المكان.
وجَعَل صاحب الكشاف النّهي متوجّهًا في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن، والغمّ من صنيعهم، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهًا إلى الحرج للمبالغة في التّكليف، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب: لاَ أرَيَنَّكَ هاهنا أي لا تحضر فأراك، وقولهم: لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا أي لا تفعلْه فأعرّفَك به، نهيًا بطريق الكناية، وأيًّا ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله: {كتاب}، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.
و{مِنْ} ابتدائيّة، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور، أي من تكذيب المكذّبين به، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه، وهو سبب الحرج، صح أن يجعل الحرج مسبّبًا عن الكتاب بواسطة.
والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار، بحيث يعسر السلوك فيه، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقًا في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس، وفي معنى الآية قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير} [هود: 12].
و{لتنذر} متعلّق بـ {أنزل} على معنى المفعول لأجله، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار.
وجعل الإنذار به مقدّمًا في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم.
{ذكرى} يجوز أن يكون معطوفًا على {لتنذر به}، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة، ويكون {ذكرى} مصدرًا بدلًا من فعله، والتّقدير: وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضًا.
وحذف متعلّق {تنذر}، وصرح بمتعلّق {ذكرى} لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور، والتّقدير: لتنذر به الكافرين، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق {تنذر} تنويها بشأن المؤمنين وتعريضًا بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين. اهـ.