فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان. ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية- ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة- رذيلة أخلاقية! إن المفهوم الأخلاقي ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية- أحيانا في حدود مصلحة الدولة!- والكتّاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية!
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة- من وجهة النظر الإنسانية. وبمقياس خط التقدم الإنساني.. وهي كذلك غير إسلامية.. لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية..
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة، وإغراقها في الجاهلية.. من العقيدة إلى الخلق. ومن التصور إلى أوضاع الحياة.. ونحسب أن هذه الإشارة المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة. ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله.. إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقًا ونظامًا.. إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة. وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه؛ وربه سبحانه يخاطبه: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..
وفي الوقت الذي وجه الله سبحانه هذا التكليف إلى رسوله، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة- وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية- الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب، والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله.
ذلك أن القضية في صميمها هي قضية الاتباع.. من يتبع البشر في حياتهم؟ يتبعون أمر الله فهم مسلمون. أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون؟ إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون}.
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية.. إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله، والاعتراف له بالربوبية، وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع، ويتبع أمرها ونهيها دون سواه.. وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك، وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة.. وكيف والحاكمية ليست خالصة له سبحانه؟!
وفي الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كان الكتاب منزلًا إليه بشخصه: {كتاب أنزل إليك}.. وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلًا إليهم من ربهم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}. فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فالكتاب منزل إليه ليؤمن به ولينذر ويذكر. وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه، ولا يتبعوا أمر أحد غيره.. والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم والتحضيض والاستجاشة. فالذي ينزل له ربه كتابًا، ويختاره لهذا الأمر، ويتفضل عليه بهذا الخير، جدير بأن يتذكر وأن يشكر؛ وأن يأخذ الأمر بقوة ولا يستحسر.
ولأن المحاولة ضخمة.. وهي تعني التغيير الأساسي الكامل الشامل للجاهلية: تصوراتها وأفكارها، وقيمها وأخلاقها، وعاداتها وتقاليدها، ونظمها، وأوضاعها، واجتماعها واقتصادها، وروابطها بالله، وبالكون، وبالناس..
لأن المحاولة ضخمة على هذا النحو؛ يمضي السياق فيهز الضمائر هزًا عنيفًا؛ ويوقظ الأعصاب إيقاظًا شديدًا؛ ويرج الجبلات السادرة في الجاهلية، المستغرقة في تصوراتها وأوضاعها رجًا ويدفعها دفعًا.. وذلك بأن يعرض عليها مصارع الغابرين من المكذبين في الدنيا، ومصائرهم كذلك في الآخرة:
{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن مصارع الغابرين خير مذكر، وخير منذر.. والقرآن يستصحب هذه الحقائق، فيجعلها مؤثرات موحية، ومطارق موقظة، للقلوب البشرية الغافلة.
إنها كثيرة تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها. أهلكت وهي غارة غافلة. في الليل وفي ساعة القيلولة، حيث يسترخي الناس للنوم، ويستسلمون للأمن: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون}.
وكلتاهما البيات والقيلولة.. ساعة غرّة واسترخاء وأمان! والأخذ فيهما أشد ترويعا وأعنف وقعا. وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر والتوقي والاحتياط!
ثم ما الذي حدث؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار!
{فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}..
والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! {إنا كنا ظالمين}.. فيا له من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك!
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!
وبينما المشهد معروض في الدنيا، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة. فإن الندم قد فات موعده، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب..
بينما المشهد هكذا معروضًا في الدنيا إذا السياق ينتقل، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة. بلا توقف ولا فاصل. فالشريط المعروض موصول المشاهد، والنقلة تتخطى الزمان والمكان، وتصل الدنيا بالآخرة، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي، خاصية من خواص القرآن.. إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة. وفي سطر من كتاب. لتلتحم الدنيا بالآخرة؛ ويتصل البدء بالختام!
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون: {إنا كنا ظالمين}..
ولكنه السؤال الجديد، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود:
{فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين}.
فهو السؤال الدقيق الوافي، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين.. وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق!.. يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون. ويسأل الرسل فيجيبون. ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه! يقصه عليهم سبحانه بعلم فقد كان حاضرًا كل شيء. وما كان سبحانه غائبًا عن شيء.. وهي لمسة عميقة التأثير والتذكير والتحذير!
{والوزن يومئذ الحق}..
إنه لا مجال هنا للمغالطة في الوزن؛ ولا التلبيس في الحكم؛ ولا الجدل الذي يذهب بصحة الأحكام والموازين.
{فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون}..
فقد ثقلت في ميزان الله الذي يزن بالحق. وجزاؤها إذن هو الفلاح.. وأي فلاح بعد النجاة من النار، والعودة إلى الجنة، في نهاية الرحلة المديدة، وفي ختام المطاف الطويل؟
{ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}..
فقد خفت في ميزان الله الذي لا يظلم ولا يخطئ. وقد خسروا أنفسهم. فماذا يكسبون بعد؟ إن المرء ليحاول أن يجمع لنفسه. فإذا خسر ذات نفسه فما الذي يبقى له؟
لقد خسروا أنفسهم بكفرهم بآيات الله: {بما كانوا بآياتنا يظلمون} والظلم- كما أسلفنا- يطلق في التعبير القرآني ويراد به الشرك أو الكفر: {إن الشرك لظلم عظيم} ولا ندخل هنا في طبيعة الوزن وحقيقة الميزان- كما دخل فيه المتجادلون بعقلية غير إسلامية في تاريخ الفكر الإسلامي!.. فكيفيات أفعال الله كلها خارجة عن الشبيه والمثيل. مذ كان الله سبحانه ليس كمثله شيء.. وحسبنا تقرير الحقيقة التي يقصد إليها السياق.. من أن الحساب يومئذ بالحق، وأنه لا يظلم أحد مثقال ذرة، وأن عملًا لا يبخس ولا يغفل ولا يضيع. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}
أخرج اللالكائي في السنة والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب قال «بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم في أناس إذ جاء رجل ليس عليه سحناء سفر، وليس من أهل البلد، يتخطى حتى ورك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ما الإِسلام؟ قال: الإِسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان، قال: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال نعم. قال: صدقت يا محمد قال: ما الإِيمان؟ قال: الإِيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالجنة والنار والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {والوزن يومئذ الحق} قال: العدل {فمن ثقلت موازينه} قال: حسناته {ومن خفت موازينه} قال: حسناته.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن عبد الله بن العيزار قال: إن الإِقدام يوم القيامة لمثل النبل في القرن، والسعيد من وجد لقدميه موضعًا، وعند الميزان ملك ينادي: ألا إن فلان بن فلان ثقلت موازينه وسعد سعادة لن يشقي بعدها أبدًا، ألا إن فلان خَفَّتْ موازنيه وشقى شقاء لن يسعد بعده أبدًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {والوزن يومئذ الحق} قال: توزن الأعمال.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن وهب بن منبه قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها، فمن أراد الله به خيرًا ختم له بخير عمله، ومن أراد به شرًا ختم له بشر عمله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحارث الأعور قال: إن الحق ليثقل على أهل الحق كثقله في الميزان، وأن الحق ليخف على أهل الباطل كخفته في الميزان.
وأخرج ابن المنذر واللالكائي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: ذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان.
وأخرج أبو الشيخ عن كعب قال: يوضع الميزان بين شجرتين عند بيت المقدس.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير واللالكائي عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، يرد بعضهم على بعض فيؤخذ من حسنات الظالم فترد على المظلوم، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم.