فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
المُمَكَّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال مكّنتك من كذا. أي أعطيتك المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحراراتها. ما في الدنيا يؤدي مهمته، ولم نُمكَّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا يغيب ذلك عن أنظارنا أبدًا. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها؛ فأنت مُمَكَّن، وكل شيء مستجيب لك. بتسخير الله له. {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]
و{معايش} جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة، ولذلك سموا الخبز في القرى عيشًا لأن عندهم دقة بالغة؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.
وقول الحق: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من يشكر نعم الله شكرًا عامًا على مجموع النعم، أو يشكره شكرًا خاصًّا عند كل نعمة، ومنهم من يشكر شكرًا خاصًّا لا عند كل نعمة، ولكن عند جزئيات النعمة الواحدة، فعندما يبدأ في الأكل يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقول بعد الأكل: الحمد لله؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة: بسم الله وعندما يمضغها ويبلعها يقول: الحمد لله لأنها لم تقف في حلقه، وأيضًا حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات: أول دفعة نقول: بسم الله. وننتهي منها فنقول: الحمد لله وكذلك في الدفعة الثانية والدفعة الثالثة. ومن يفعل ذلك فلا تتأتَّى منه معصية، مادامت آثار شربة الماء هذه في جسمه؛ لأنها كلها بسم الله. فتحرسه من الخطيئة؛ لأن النعمة الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله؛ لأنكم لو شكرتموه على النعم لزادت النعم عليكم، {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} ومن الحمق ألا نشكر. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
التفسير: قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم. وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل. وقال السدي: معناه أنا المصوّر. وقيل: معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل {فلا يكن في صدرك حرج منه} كما زاد في الرعد راء لقوله بعده {رفع السموات} [الآية: 2] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من الإعراب، وإن كانت اسمًا للسورة جاز أن يكون {المص} مبتدأ و{كتاب} يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له، وجاز أن يكون {المص} خبر مبتدأ محذوف وكذا {كتاب} أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك. والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتابًا ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي. القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات. وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة. فإن قيل: الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمدًا صلى الله عليه وآله. ثم قال: {فلا يكن في صدرك حرج} أي شك. وسمي الشك حرجًا لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح، ومعنى {منه} أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك هاهنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة: 123] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين. وفي متعلق قوله: {لتنذر} أقوال. قال الفراء: إنه متعلق ب {أنزل} وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج. وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر.
وقال ابن الأنباري: إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير: فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته. وقال صاحب النظم: اللام بمعنى أن كقوله: {يريدون أن يطفئوا} [التوبة: 32] وفي موضع آخر {ليطفؤا} [الصف: 8] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به. وقيل: إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظًا وناصرًا لم يخف أحدًا، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال. ثم قال: {وذكرى للمؤمنين} قال ابن عباس: يريد مواعظ للمصدقين. وقال الزجاج: هو اسم في موضع المصدر. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال صاحب الكشاف: محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيرًا، والرفع عطفًا على كتاب، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل {أن تنذر} أي للإنذار وللذكرى. وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحدًا ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر. وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارًا في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة. ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} ومعنى كونه منزلًا إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول، قالت العلماء: المنزل متناول للقرآن والسنة جميعًا. عن الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله. وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض.
فإن قيل: العمل بالقياس لكونه مستفادًا من القرآن وهو قوله: {فاعتبروا} [الحشر: 2] عمل بالقرآن أيضًا. قلنا: بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة، ثم أكد الأمر المذكور بقوله: {ولا تتبعوا من دونه} أي لا تتخذوا من دون الله: {أولياء} من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ويجوز أن يكون الضمير في {من دونه} لما أنزل أي لا تتبعوا من دون الله أولياء. احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس. متابعة غير ما أنزل فلا يجوز. لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله: {فاعتبروا} [الحشر: 2] لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرًا لقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [الكافرون: 44] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره. أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع. وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110] وبعموم قوله صلى الله عليه وآله «لا تجتمع أمتي على الضلالة» والفرع لا يكون أقوى من الأصل. أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح. ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكًا بالآية. وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر. ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال: {قليلًا ما تذكرون} أي تذكرون تذكرًا قليلا. وما مزيدة لتوكيد القلة. ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال: {وكم من قرية} فموضع {كم} رفع بالابتداء و{من} مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى {أهلكناها} مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضًا عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير: وكم من أهل قرية لقوله: {فجاءها بأسنا} والبأس بالأهل أنسب ولقوله: {أوهم قائلون} ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم. وإنما قال: {فجاءها} ردًا بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت. وهنا سؤال وهو أن قوله: {فجاءها بأسنا} يقتضي أن يكون الهلاك مقدمًا على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس. والعلماء أجابوا بوجوه منها: أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا أهلاكها فجاءها كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح.
فإن قيل: كيف يصح والعطف يوجب المغايرة؟ فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير كقوله صلى الله عليه وآله «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه» فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا هاهنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معًا كما يقال: أعطيتني فأحسنت. وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معًا. ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير: أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس. ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقوله: عرضت الناقة على الحوض. وقوله: {بياتًا} قال الجوهري: بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلًا والاسم البيات. وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتًا حسنًا. وعلى القولين فإنه وقع موضع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين. ثم قال: {أوهم قائلون} والجملة حال معطوفة على {بياتًا} كأنه قيل: فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين. وإنما حسن ترك الواو هاهنا من الجملة الاسمية الواقعة حالًا لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل. فقولك: جائني زيد راجلًا أو هو فارس. كلام فصيح، ولو قلت: جاءني زيد هو فارس كان ضعيفًا. وقال بعض النحويين: الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا. أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة. وقال الأزهري: هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة.