فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْأَصْلُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِعَالَمِ الْغَيْبِ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَخْبَارِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ، نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُحَكِّمُ رَأْيَنَا فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ. فَنُؤْمِنُ إِذًا بِأَنَّ فِي الْآخِرَةِ وَزْنًا لِلْأَعْمَالِ قَطْعًا، وَنُرَجِّحُ أَنَّهُ بِمِيزَانٍ يَلِيقُ بِذَلِكَ الْعَالَمِ يُوزَنُ بِهِ الْإِيمَانُ وَالْأَخْلَاقُ وَالْأَعْمَالُ، لَا نَبْحَثُ عَنْ صُورَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَلَا عَنْ كِفَّتَيْهِ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِمَا كَمَا صَوَّرَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي مِيزَانِهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ تَزْكِيَةٍ أَوْ تَدْسِيَةٍ وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جُلُّ الْجَزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ. وَإِذَا كَانَ الْبَشَرُ قَدِ اخْتَرَعُوا مَوَازِينَ لِلْأَعْرَاضِ كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، أَفَيَعْجَزُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَنْ وَضْعِ مِيزَانٍ لِلْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِمَا أَحْدَثَتْهُ فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ؟! وَالنَّقْلُ وَالْعَقْلُ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ الثَّابِتَةِ لَا بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهَا مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْرَاضِ الزَّائِلَةِ: قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [6: 139] وَقَالَ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سِوَاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مِنْ دَسَّاهَا} (91: 7- 10) وَفِي سُورَةِ الْأَعْلَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (87: 14، 15) وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ آخِرُهَا تَفْسِيرُ خَاتِمَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ حِكْمَةَ وَزْنِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْحِسَابِ أَنَّهُ يَكُونُ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِعَدْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَيْ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، إِذْ يَرَى فِيهِ عِبَادُهُ أَفْرَادًا وَشُعُوبًا وَأُمَمًا ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَعْرِفُونَهُ مَعْرِفَةَ إِدْرَاكٍ وَوِجْدَانٍ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ فِيهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمْ وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ فِي خَارِجِهَا ثَانِيًا، فِيَا لَهُ مِنْ مَنْظَرٍ مَهِيبٍ، وَيَا لَهُ مِنْ مَظْهَرٍ رَهِيبٍ، وَمَا أَشَدَّ غَفْلَةَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعِلْمِ اللهِ عَنْهُ.
وَلَوْلَا تَحْكِيمُ النَّاسِ الرَّأْيَ وَالْخَيَالَ فِيمَا لَا مَجَالَ لَهُمَا فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِكُلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لَكُنَّا فِي غِنًى عَنْ إِطَالَةِ الْكَلَامِ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الِاخْتِلَافَاتِ، بِالِاخْتِصَارِ فِي بَيَانِ الْعَقَائِدِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُخَرَّجَةِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، دُونَ الشَّاذَّةِ وَالْغَرِيبَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْغَرِيبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ الَّذِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ «إِنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ- فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَصْحِيحُ الْحَاكِمِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ غَيْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ الَّذِي بَالَغَ الْجُوزَجَانِيُّ فَوَصَفَهُ بِالْكَذِبِ لَكَفَى. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْخُرَاسَانِيُّ قَالُوا: إِنَّ لَهُ مَنَاكِيرَ. وَطَرِيقُ الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ. وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمِيزَانِ ذَا كِفَّتَيْنِ وَلِسَانٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ لِإِمْكَانِ جَعْلِ الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَجَعْلِ الْكِفَّةِ تَرْشِيحًا لَهَا فَإِنَّ بَابَ الْمَجَازِ فِي رُجْحَانِ الْعُقُولِ وَالْآرَاءِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَاسِعٌ جِدًّا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْوَزْنِ وَالْمِيزَانِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَنْهَضُ بِسَنَدِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ حُجَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ قَطْعِيَّةٍ وَلَا رَاجِحَةٍ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ الْحَافِظَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ عَنِ الْقُرْطُبِيِّ تَرْجِيحَ وَزْنِ الصُّحُفِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ تَقْوِيَةً لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ- قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ وَزْنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ عَدَّهُ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْبِطَاقَةِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ دَرَجَتَهُ فِي الصِّحَّةِ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الْعُلَمَاءُ مَتْنَ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلِمَةً مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَرْجَحُ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الذُّنُوبِ وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِبَاحَتِهَا وَالْإِغْرَاءِ بِهَا، وَإِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَجْوِبَةٍ لَعَلَّ أَقْوَاهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ وَجْهَ تَخْلِيصِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فَآمَنُ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي نَجَاةِ مِثْلِهِ.
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}
تَقَدَّمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ هَذِهِ السُّورَةَ بِذِكْرِ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرَ بِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ، وَبَيَانِ أَسَاسِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ وَاضِعَ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى رَبُّ الْعِبَادِ، فَالْوَاجِبُ فِيهِ اتِّبَاعُ مَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَلَّا يَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ بِمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَأَنَّهُ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِبَيَانِ نَوْعَيِ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَ بِهِ مَنْ يَتَّبِعُونَ أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءَ أَيْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ فَهَذَا مَوْضُوعُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الدِّينُ الَّذِي أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ التَّنْزِيلِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ- إِلَّا مَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ- هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْمُبَيِّنُ لِكُلِّ مَا يُوَصِّلُهَا إِلَى كَمَالِهَا، وَالنَّاهِي لَهَا عَنْ كُلِّ مَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْكَمَالِ وَكَانَ افْتِتَانُ النَّاسِ بِأَمْرِ الْمَعِيشَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِفْسَادِ الْفِطْرَةِ بِالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ نِعَمُ اللهِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعِيشَةِ سَبَبًا لِإِصْلَاحِهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهِ الْمُوجِبِ لِلْمَزِيدِ مِنْهُ- لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَّرَ سُبْحَانَهُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَخَلْقِ أَنْوَاعِ الْمَعَايِشِ فِيهَا، وَهُوَ بَدْءُ سِيَاقٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَيَانُ خَلْقِ نَوْعِهِمُ الْإِنْسَانِيِّ مُسْتَعِدًّا لِلْكَمَالِ وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي تَصُدُّهُ عَنْهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِأَفْرَادِهِ مِنِ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ هَذِهِ الْوَسْوَسَةِ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ شَيَاطِينِهَا الْمُلْقِينَ لَهَا أَوْلِيَاءَ يَتْبَعُونَهُمْ دُونَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى كُفْرِ النِّعَمِ عِوَضًا عَنِ الشُّكْرِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ، وَيَتْلُوهُ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الزِّينَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ وَمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ فِيهِمَا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الِاسْتِطْرَادِيُّ أَوِ الْمُشْبِهُ لِلِاسْتِطْرَادِ يَبْتَدِئُ مِنَ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ إِلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّلَاثِينَ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ لِلْأُمَمِ وَجَزَاءِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَاتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَفَرَ بِهِمْ وَعَصَاهُمْ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبَلَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جَزَاءِ الْآخِرَةِ- فَتَأَمَّلْ دِقَّةَ بَلَاغَةِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا أَوْطَانًا تَتَبَوَّءُونَهَا وَتَتَمَكَّنُونَ مِنَ الرَّاحَةِ فِي الْإِقَامَةِ فِيهَا، وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِاللَّامِ و{قَدْ} لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِهِ وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} جَمْعُ مَعِيشَةٍ وَهِيَ مَا تَكُونُ بِهِ الْعِيشَةُ وَالْحَيَاةُ الْجُسْمَانِيَّةُ الْحَيَوَانِيَّةُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِهَا. أَيْ وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ فِيهَا ضُرُوبًا شَتَّى مِمَّا تَعِيشُونَ بِهِ عِيشَةً رَاضِيَةً وَالنُّكْتَةُ فِي تَقْدِيمِ {لَكُمْ فِيهَا} عَلَى {مَعَايِشَ} مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَفْعُولُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ هُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ الْمَعَايِشِ كَوْنُهَا نِعَمًا مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى النَّاسِ جَعَلَهُمْ مَالِكِينَ لَهَا، مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، لَا كَوْنُهَا مَجْعُولَةً وَمَخْلُوقَةً، وَالْقَاعِدَةُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضٍ هِيَ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ مِنْهُ كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْمَعَايِشِ لَهُمْ أَهَمَّ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ الَّتِي مَكَّنَهُمْ فِيهَا- فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْمَعَايِشُ وَكَوْنُهَا فِي الْوَطَنِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ الْمَرْءُ وَكَوْنُ الْمَرْءِ مَالِكًا لَهَا وَمُتَصَرِّفًا فِيهَا، وَلَا مَشَاحَةَ فِي أَنَّ الْأَهَمَّ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَا يَعِيشُ بِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَطَنِهِ وَيَتْلُوهُ أَنْوَاعُهُ وَأَنَّ تَكُونَ كَثِيرَةً وَهُوَ مَا أَفَادَهُ تَرْكِيبُ الْكَلِمَاتِ فِي الْآيَةِ وَلَا تَجِدُ هَذِهِ الدِّقَّةَ فِي تَقْدِيمِ مَا يَنْبَغِي وَتَأْخِيرِ مَا يَنْبَغِي مُطَّرِدَةً إِلَّا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَايِشُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى وَأَنْعَامٍ وَطَيْرٍ وَسَمَكٍ وَمِيَاهٍ صَافِيَةٍ وَأَشْرِبَةِ مُخْتَلِفَةِ الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- وَكَانَتْ بِذَلِكَ- تَقْتَضِي شُكْرًا كَثِيرًا- وَكَانَ الشَّكُورُ مِنَ الْعِبَادِ قَلِيلًا {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} قَالَ تَعَالَى عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِهَا: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ شُكْرًا قَلِيلًا تَشْكُرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ لَا كَثِيرًا يُنَاسِبُ كَثْرَتَهَا وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ الِانْتِفَاعِ بِهَا. وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لِلْمُنْعِمِ يَكُونُ أَوَّلًا بِمَعْرِفَتِهَا لَهُ وَالِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ هُوَ مُسْدِيهَا وَالْمُنْعِمُ بِهَا- وَثَانِيًا بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا- وَثَالِثًا بِالتَّصَرُّفِ بِهَا فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ وَهُوَ مَا أَسْدَاهَا لِأَجْلِهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ. وَهُوَ هُنَا حِفْظُ حَيَاتِنَا الْبَدَنِيَّةِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً وَالِاسْتِعَانَةُ بِذَلِكَ عَلَى حِفْظِ حَيَاتِنَا الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ بِتَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ وَتَأْهِيلِهَا لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِأُصُولِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ...} 29 إلخ.
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ قِرَاءَةُ نَافِعٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {مَعَائِشَ} بِالْهَمْزِ، وَغَلَّطَهُ سِيبَوَيْهِ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّهُ لَا يُهْمَزُ بَعْدَ أَلْفِ الْجَمْعِ إِلَّا الْيَاءُ الزَّائِدَةُ فِي الْمُفْرَدِ كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ، وَيَاءُ مَعِيشَةٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْجَمْعِ كَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ نَافِعٍ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ وَلِذَلِكَ عَدُّوهَا خَطَأً مِنْهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ رَوَاهَا وَهُوَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَفْتَجِرَهَا افْتِجَارًا وَفِي الْمِصْبَاحِ قَوْلُ أَنَّهَا مِنْ مَعَشَ لَا مَنْ عَاشَ فَالْيَاءُ زَائِدَةٌ وَجَمْعُهَا مَعَائِشُ قَالَ: وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَدَنِيُّ وَالْأَعْرَجُ أَيْ فِي الشَّوَاذِّ وَأَلْحَقَهَا الْمُفَسِّرُونَ وَبَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بِمَا سُمِعَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ أَمْثَالِهَا كَمَصَائِبَ وَمَعَائِبَ، وَقَالُوا إِنَّهُ مِنْ تَشْبِيهِ مَفَاعِلَ بِفَعَائِلَ. وَنَقُولُ إِنَّ الْعَرَبَ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَضَعَهُ غَيْرُهُمْ لِكَلَامِهِمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ، وَالْقُرْآنُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ كَلَامٍ فَأَوْلَى أَلَّا يُنْكَرَ مِنْهُ شَيْءٌ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهِ لُغَةً عِنْدَ مَنْ رَوَاهَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا قُرْآنًا إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وجَعَلْنَا لكم} يجوز أن يكون جَعَلَ بمعنى خَلَقَ فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران بـ {مَعَايِشَ}، والثَّأني أحد الجارين، والآخر: إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ.
و{مَعَايِش} جمع مَعيشَةٍ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ:
مذهبُ سيبويه والخَلِيل: أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين، أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ.
وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة، ف معيشة عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة.
وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها مَعِيشَةٌ بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ: أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين، وليس بشيءٍ.
والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر لعَاشَ يعيشُ عَيْشًا، وعِيْشَةً قال تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، وَمَعَاشًا: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشًا} [النبأ: 11]، ومَعِيشًا قال رُؤبةُ: [الرجز]
إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ ** وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي

والعامَّةُ على {مَعَايشَ} بصريح الياءِ.
وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع {مَعَائِشَ} بالهَمْزِ، وقال النَّحْويُّون: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائدًا نحو: صَحَائِف ومَدَائِن، وأمَّا {مَعَايِش} فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من العَيْشِ.
قال الفَارِسيُّ- عن أبي عثمان-: أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ قال: ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ.
قال شهابُ الدِّينِ: وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا مَنَائِرَ ومَصَائِبَ جمع منارةٍ ومُصِيبَة والأصل مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول: إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ قال ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع مقالٍ ومقام: مقاول ومقاوم في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك: [الطويل]
وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ ** جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا

ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن معيشة بزنة صحيفة فهمزوها كما همزا تيك قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع مسيل مُسْلان، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ قضيبٍ وقُضْبَان وقالوا في جمعه أمْسِلَة كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة رَغيفٍ، وأرْغِفَةٍ وإنَّما مسيل وزنه مفعلٌ؛ لأنه من سيلان الماءِ، وأنْشَدُوا على مَسِيلِ، وأمْسِلة قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ: [الوافر]
بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ ** وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ

وقال الزَّجَّاجُ: جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ، ولا أعلم لها وجهًا إلاَّ التِّشْبِيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة.
قال شهابُ الدين: وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ كعُثْمان وأبي الدَّرْدَاءِ ومعاوية، وقد يبق ذلك في الأنعام، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضًا زيدُ بْنُ عَلِيٍّ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل، وَقَرأ بها أيضًا الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ.
وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء صحيفة قد جاء، وإن كان قليلًا. اهـ.