فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين، وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل، ويقال في الحماية ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه، والمنع في الآية من الثاني أي ما حملك عن عدم السجود.
{إِذْ أَمَرْتُكَ} بالسجود، و{إِذْ} ظرف لتسجد، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن الأمر المطلق للوجوب وللفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد.
وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} [ص: 72] وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ، وقال آخرون: إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه: {إِذْ أَمَرْتُكَ} ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر، وفي حكاية التوبيخ هاهنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر (32) بقوله تعالى: {قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} وفي سورة ص (75) بقوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارًا بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسًا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل.
{قَالَ} استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل: فماذا قال اللعين عند ذلك؟ فقيل: قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير؟ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام للمقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به؟ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين.
وقوله تعالى حكاية عنه: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه عليه السلام، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشرف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين، وأيضًا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع.
إنما الورد من الشوك ولا ** ينبت النرجس إلا من بصل

ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن، وأيضًا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرف بمادته وعنصره يشرف بفاعله وغايته وصورته، وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه، وأيضًا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعًا وإسقاطًا لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله:
أنت المراد بنظم كل قصيدة ** بنيت على الأفهام في تبجيله

كسجود أملاك السماء لآدم ** وسجودهم لله في تأويله

ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم.
وقال بعضهم: إنه لم يسلم أنه كان مأمورًا بل أخرج نفسه من العموم بالقياس.
واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس.
وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل.
وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له: اسجد لآدم فقال: أنا خير منه» إلخ.
قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه أتبعه بالقياس.
واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقًا.
وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله.
وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما ترتب منهما ما تركب، وعلى أن إبليس ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة، قيل: ولعل إضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}
وضمير: {قال} عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا}، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: قُلنا، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتًا، نكتته تحويل مقام الكلام، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة.
و{مَا} للاستفهام، وهو استفهام ظاهره حقيقي، ومشوب بتوبيخ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة.
و{منعك} معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]، فلذلك كان ذكر لا هنا على خلاف مقتضى الظاهر، فقيل هي مزيدة للتّأكيد، ولا تفيد نفيًا، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد.
ولاَ من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1] وقوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله} [الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب علمًا محقّقًا.
وقوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعًا محقّقًا، وهذا تأويل الكسائي، والفراء، والزّجاج، والزّمخشري، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل.
وقيل لا نافية، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه {منعك} لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه، فكأنّه قيل: ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد، فإمّا أن يكون {منعك} مستعملًا في معنى دعَاك، على سبيل المجاز، ولا هي قرينة المجاز، وهذا تأويل السكاكي في المفتاح في فصل المجاز اللّغوي، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه، وهو أحسن تأويلًا، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان، فذُكر أحدهما وحذف الآخر، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه.
وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى: {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني} في سورة طه (92، 93).
وقوله: {إذ أمرتك} ظرف ل {تسجد}، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له، إمّا لأنّه صنف من الملائكة، فخلق الله إبليس أصلًا للجنّ ليجعل منه صنفًا مُتَمِّيزًا عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية، وهذا هو ظاهر القرآن، وإليه ذهب كثير من الفقهاء، وقد قال الله تعالى: {إلا إبليس كانَ من الجنّ} [الكهف: 50] الآية، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات، وإبليس أصل ذلك النّوع، جعله الله في عداد الملائكة، فكان أمرهم شاملًا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار، وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار» وإلى هذا ذهب المعتزله وبعض الأشاعرة، وقد يكون المراد من النّار نورًا مخلوطًا بالمادة، ويكون المراد بالنّور نورًا مجردًا، فيكون الجنّ نوعًا من جنس الملائكة أحطّ، كما كان الإنسان نوعًا من جنس الحيوان أرقى.
وفُصِل: {قال أنا خير منه} لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيرًا من آدم، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم، وهذا معصية صريحة، وقوله: {أنا خير منه} مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة: {خلقتني من نار} بيان لجملة: {أنا خير منه} فلذلك فصلت، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.
وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقًا من نار، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه، أو بإخبار من الله تعالى.
وكونه مخلوقًا من النّار ثابت قال تعالى: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار} [الرحمن: 14، 15] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف (50): {فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه} واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم.
والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة، كالنّار التي في الشّمس، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد.
والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها، ولأنّها تضيء، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها.
وأمّا النّور الذي خُلق منه الملَكُ فهو أخلَص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّه.
والطّينُ التّراب المختلط بالماء، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر، وأنّ إبليس أُوخذ بعصيان أمر الله عصيانًا باتًّا، والله تعالى لمّا أمر الملائكه بالسّجود لآدم قد عَلِم استحقاق آدمَ ذلك بما أوْدع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافيًا في التّفضيل وحده، ما لم يَكن كِيَانُه من ذلك العنصر مهيّئًا إياه لبلوغ الكمالات، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة، فاللَّه تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر، بحسب خصايص عنصرهم، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف.
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته، وانتظروا البيان، كما حكى عنهم بقوله: {قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] فجاءهم البيان مجملًا بقوله: {إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله: {ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة: 31] إلى قوله: {وما كنتم تكتمون} في سورة البقرة (33). اهـ.