فصل: العبرة بالإرادة لا باللفظ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.العبرة بالإرادة لا باللفظ:

وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى غداء فقال: والله لا أتغدى أو قيل له نم فقال: والله لا أنام أو اشرب هذا الماء فقال: والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ماذا قال آنفا وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم.
وقد كان الصحابة يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي وهذا استدلال على المراد بغير لفظ بل بها عرف من موجب أسمائه وصفاته وأنه لا يقر على باطل حتى يبينه وكذلك استدلال الصديقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عرفته من حكمة الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يخزي محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه يصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق وإن من كان بهذه المثابة فإن العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله رب العالمين لا يخزيه ولا يسلط عليه الشيطان وهذا استدلال منها قبول ثبوت النبوة والرسالة بل استدلال على صحتها وثبوتها في حق من هذا شأنه فهذا معرفة منها بمراد الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المحسن بإحسانه وأنه لا يضيع أجر المحسنين وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها وأتبع له وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة.

.كيف يعرف مراد المتكلم:

والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته.
والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر.

.أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني:

وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها وهضمها تارة وتحميلها فوق ما أريد بها تارة ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين.
ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره فنقول:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فلفظ الخمر عام ففي كل مسكر فإخرج بعض الأشربة المسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصير به وهضم لعمومه بل الحق ما قاله صاحب الشرع كل مسكر خمر وإخراج بعض أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضا به وهضم لمعناه فما الذي جعل النرد الخالي عن العوض من الميسر وأخرج الشطرنج عنه مع أنه من أظهر أنواع الميسر كما قال غير واحد من السلف إنه ميسر وقال علي كرم الله وجهه: هو ميسر العجم.
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله فكما حمل لفظ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وقوله في آية البقرة {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} مسألة العينة التي هي ربا بحيلة وجعلها من التجارة لعمر الله إن الربا الصريح تجارة للمرابي وأي تجارة وكما حمل قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} على مسألة التحليل وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلا في اسم الزوج وهذا في التجارة يقابل الأول في التقصير.
ولهذا كان معرفة حدودها ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها فلا يخرج شيئا من معاني ألفاظه عنها ولا يدخل فيها ما ليس منها بل يعطيها حقها ويفهم المراد منها.
ومن هذا لفظ الإيمان والحلف أخرجت طائفة منه الإيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجاب شيء أو تحريمه وأدخلت طائفة فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضا ولا منعا والأول نقص من المعنى والثاني تحميل له فوق معناه.
ومن ذلك لفظ الربا أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشيرج بالسمسم والدبس بالعنب والزيت بالزيتون وكل ما استخرج من ربوي وعمل منه بأصله وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته وهذا لا دليل عليه يوجب المصير إليه من من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح وأدخلت فيه من مسائل مد عجوة ما هو أبعد شيء عن الربا وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصحيح حقيقة قصدا وشرعا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح ومفسدة الربا البحت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقل بكثير وأخرجت منه طائفة بيع الرطب بالتمر وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.
ومن ذلك لفظ البينة قصرت بها طائفة فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات وشهادة الزوج في اللعان إذا نكلت المرأة وأيمان المدعين الدم إذا ظهر اللوث ونحو ذلك ما يبين الحق أعظم من بيان الشاهدين وشهادة القاذف وشهادة الأعمى على ما يتيقنه وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاع البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يعرف بعدالة ولا فسق وشهادة وجوه الأجر ومعاقد القمط ونحو ذلك والصواب أن كل ما بين الحق فهو بينة ولم يعطل الله ولا رسوله حقا بعدما تبين بطريق من الطرق أصلا بل حكم الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضح بأي طريق كان وجب تنفيذه ونصره وحرم تعطيله وإبطاله وهذا باب يطول استقصاؤه ويكفي المستبصر التنبيه عليه وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء.

.الظاهرية وأصحاب الرأي مفرطون:

وأصحاب الرأي والقياس حملوا معاني النصوص فوق ما حملها الشارع وأصحاب الألفاظ والظواهر قصروا بمعانيها عن مراده فأولئك قالوا: إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس ونجسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة وهؤلاء قالوا: إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه ونجس أصحاب الرأي والمقاييس القناطير المقنطرة ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شيرج بمثل رأس الإبرة من البول والدم والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجس شعرهما وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شيرج أو خل أو دبس أو ودك غير السمن ألقيت الميتة فقط وكان ذلك المائع حلالا طاهرا كله فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو وخنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين» يعني في الإحرام فسوى بين يديها ووجها في النهي عما صنع على قدر العضو ولم يمنعها من تغطية وجهها ولا أمرها بكشفه البتة ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن وروى وكيع عن شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية قالت: سألت عائشة: «ما تلبس المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب ولا تتلثم وتسدل الثوب على وجهها» فجاوزت طائفة ذلك ومنعتها من تغطية وجهها جملة قالوا: وإذا سدلت على وجهها فلا تدع الثوب يمس وجهها فإن مسه افتدت ولا دليل على هذا البتة وقياس قول هؤلاء إنها إذا غطت يدها افتدت فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهما في النهي وجعلهما كبدن المحرم فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين ولا يحرم ستر البدن فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن بصورتها ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم ولا يخمر رأسه لجاز تغطيته بغير العمامة.
وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة عثمان وابن عباس وعبد الله ابن الزبير وزيد بن ثابت وجابر أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم محرمون فإذا كان هذا في حق الرجل وقد أمر بكشف رأسه فالمرأة بطريق الأولى والأحرى.
وقصرت طائفة أخرى فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام قالوا: إلا أن يدخلا في اسم النقاب فتمنع منه وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في لفظ المنهي عنه فقط والصواب النهي عما عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلته فإن البرقع واللثام وإن لم يسميا نقابا فلا فرق بينهما وبينه بل إذا نهيت عن النقاب فالبرقع واللثام أولى ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام.
ومن ذلك لفظ الفدية أدخل فيها طائفة خلع الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية إذ المراد بقاء النكاح بالخلاص من الحنث وهي إنما شرعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة الفدية ومعناها واشترطت له لفظا معنيا وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعا إلا به وأولئك تجاوزوا به وهؤلاء قصروا به والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان والألفاظ لم ترد لذواتها ولا تعبدنا بها وإنما هي وسائل إلى المعاني فلا فرق قط بين أن تقول اخلعني بألف أو فادني بألف لا حقيقة ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا وكلام ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك لم يقيده أحدهما بلفظ ولا استثنى لفظا دون لفظ بل قال ابن عباس: عامة طلاق أهل اليمن الفداء وقال الإمام أحمد: الخلع فرقة وليس بطلاق وقال: الخلع ما كان من جهة النساء وقال: ما أجازه المال فليس بطلاق وقال: إذا خالعها بعد تطليقتين فإن شاء راجعها فتكون معه على واحدة.
وقال في رواية أبي طالب: الخلع مثل حديث سهلة إذا كرهت المرأة الرجل وقالت: لا أبرأ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أغتسل لك من جنابة فقد حل له أن يأخذ منها ما أعطاها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتردين عليه حديقته» قلت: وقد قال في الحديث: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» وجعل أحمد ذلك فداء.
وقال ابن هانئ: سئل أبو عبد الله عن الخلع: أفسخ أم طلاق هو أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول فرقة وليس بطلاق؟ فقال أبو عبد الله: كان ابن عباس يتأول في هذه الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وكان ابن عباس يقول: هو فداء قال ابن عباس: ذكر الله الطلاق في أول الآية والفداء في وسطها وذكر الطلاق بعد فالفداء ليس هو بطلاق وإنما هو فداء فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداء لمعناه لا للفظه وهذا هو الصواب فإن الحقائق لا تتغير بتغير الألفاظ وهذا باب يطول تتبعه.
والمقصود أن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ولا يقصر بها ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه وأخبرهم أنهم أهل العلم ومعلوم أن الاستباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره ويلغي ما لا يصح هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم والله سبحانه ذم من سمع ظاهرا مجردا فأذاعه وأفشاه وحمد من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه.