فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}
وقد عاقبه الله على عصيانه بإخراجه من المكان الذي كان فيه في اعتلاء وهو السّماء، وأحل الملائكة فيه، وجعله مكانًا مقدّسًا فاضِلًا على الأرض فإنّ ذلك كلّه بجعل آلهي بإفاضة الأنوار وملازمة الملائكة، فقال له: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها}.
والتّعبير بالهبوط إمّا حقيقة إن كان المكان عاليًا، وإمّا استعارة للبعد عن المكان المشرّف، بتشبيه البُعد عنه بالنّزول من مكان مرتفع وقد تقدّم ذلك في سورة البقرة.
والفاء في جملة: {فاهبط} لترتيب الأمر بالهبوط على جواب إبليس، فهو من عطف كلام متكلّم على كلام متكلّم آخر، لأنّ الكلامين بمنزلة الكلام الواحد في مقام المحاورة، كالعطف الذي في قوله تعالى: {قال إنّي جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي} [البقرة: 124].
والفاء دالة على أن أمره بالهبوط مسبّب عن جوابه.
وضمير المؤنّث المجرور بمن في قوله: {منها} عائد على المعلوم بين المتكلّم والمخاطب، وتأنيثه إمّا رعي لمعناه بتأويل البقعة، أو للفظ السّماء لأنّها مكان الملائكة، وقد تكرّر في القرآن ذكر هذا الضّمير بالتّأنيث.
وقوله: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} الفاء للسّببيّة والتّفريع تعليلًا للأمر بالهبوط، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدّس، لأنّه قد صار خُلُقُه غير ملائم لمّا جعل الله ذلك المكان له، وذلك خُلقُ التّكبر لأنّ المكان كان مكانًا مقدّسًا فاضلًا لا يكون إلاّ مطهّرًا من كلّ ما له وصف ينافيه وهذا مبدأ حاوله الحكماء الباحثون عن المدينة الفاضلة وقد قال مالك رحمه الله: لا تحْدِثوا بدعة في بلدنا.
وهذه الآية أصل في ثبوت الحقّ لأهل المحلّة أن يخرجوا من محلّتهم من يخشى من سيرته فشّو الفساد بينهم.
ودلّ قوله: {ما يكون لك} على أنّ ذلك الوصف لا يغتفر منه، لأنّ النّفي بصيغة {ما يكون لك} كذا أشدّ من النّفي بليس لك كذا كما تقدّم عند قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب} الآية في آل عمران (79)، وهو يستلزم هنا نهيا لأنّه نفاه عنه مع وقوعه، وعليه فتقييد نفي التّكبّر عنه بالكون في السّماء لوقوعه علّة للعقوبة الخاصة وهي عقوبة الطّرد من السّماء، فلا دلالة لذلك القيد على أنّه يكون له أن يتكبّر في غيرها، وكيف وقد علم أنّ التّكبّر معصية لا تليق بأهل العالم العلويّ.
وقوله: {فاخرج} تأكيد لجملة {فاهبط} بمرادفها، وأُعيدت الفاء مع الجملة الثّانية لزيادة تأكيد تسبّب الكبر في إخراجه من الجنّة.
وجملة: {إنك من الصاغرين} يجوز أن تكون مستأنفة استينافًا بيانيًا، إذا كان المراد من الخبر الإخبار عن تكوين الصّغار فيه بجعل الله تعالى إياه صاغرًا حقيرًا حيثما حلّ، ففصلها عن التي قبلها للاستيناف، ويجوز أن تكون واقعة موقع التّعليل للإخراج على طريقة استعمال إنّ في مثل هذا المقام استعمال فاء التّعليل، فهذا إذا كان المراد من الخبر إظهار ما فيه من الصّغار والحقارة التي غَفَل عنها فذهبت به الغفلة عنها إلى التّكبّر.
وقوله: {إنك من الصاغرين} أشدّ في إثبات الصّغار له من نحو: إنّك صَاغر، أوْ قد صَغُرت، كما تقدّم في قوله تعالى: {قد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56)، وقوله آنفًا: {لم يكن من الساجدين}.
والصّاغر المتّصف بالصّغار وهو الذلّ والحقارة، وإنّما يكون له الصّغار عند الله لأنّ جبلته صارت على غير ما يرضي الله، وهو صغار الغواية، ولذلك قال بعد هذا: {فبما أغويتني} [الأعراف: 16]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية في هي السماء، ونقول: لا، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطًا مكانيًا، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ...} [هود: 48]
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى، إنما نقول من مكان أو من مكانة. {قَالَ فاهبط مِنْهَا}.
وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلًا لأن يكون في محضر الملائكة؛ فقد كان في محضر الملائكة؛ لأنه الزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصي، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلًا لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ...} [الأعراف: 13]
أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دامت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلًا لها، فكأن العمل هو الذي أهله أن يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلًا لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن الأمر متعلقًا بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين؛ لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم».
وهو ذلك مثل الميكروب، لأنه هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التمييز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه سبحانه يجعل إنسيًا مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجنى، إنه يسخرك ويجعلك تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة عفريت من الجن.
فالحق هو القائل: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن...} [النمل: 39]
وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضًا. وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ...} [النمل: 39]
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب- وهو إنسان-؟ {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ...} [النمل: 40]
كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئًا، إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ...} [النمل: 40]
كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فورًا. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر: إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن اجعل الأدنى يتحكم في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر. {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} [الأعراف: 13]
وكلمة {فاهبط} تشير على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلًا لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة {فاهبط}، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان.
والصَّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قَابَل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازى بالصَّغار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلًا يحرم من ميراثه، لأنه قد قتله ليجعل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث؛ فبارتكابه القتل صار محجوبًا عن الميراث. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
فارِقْ بساطَ القربة؛ فإنَّ التكبّرَ والترفَّعَ على البساط تركٌ للأدب، وتركُ الأدبِ يوجِب الطرد.
ويقال مَنْ رأى لنفسه محلًا أو قيمة فهو متكبِّر، والمتكبِّر بعيد عن الحق سبحانه، ورؤية المقام قَدْحٌ في الربوبية إذ لا قَدْرَ لغيره تعالى، فَمَنْ ادَّعى لنفسه محلا فقد نازع الربوبية. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغرًا حقيرًا ذليلا، متصفًا بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك ي قوله: {إِنَّكَ مِنَ الصاغرين}، والصغار: أشد الذل والهوان، وقوله: {اخرج مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} [الأعراف: 18]، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك. وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
وبين في مواضع أخر كثيرًا من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر- أعاذنا الله والمسلمين منه- فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 146] الآية. ومن ذلك أَنه من أسباب الثواء في النار كما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]، وقوله: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} [النحل: 23]، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعيذ إلا مما هو شر. كما في قوله: {وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} [غافر: 27] إلى غير ذلك من نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية: أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.
وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، وقوله: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلاَ فَسَادًا والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد»، وقد قال الشاعر:
تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه ** على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه ** إلى صفحات الجو وهو وضيع

وقال أبو الطيب المتنبي:
ولو لم يعل إلا ذو محل ** تعالى الجيش وانحط القتام

. اهـ.