فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوهًا أخرى.
أولها: وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعًا، هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية، فإحداها: القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ، وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها، وإليه الإشارة بقوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}.
والقوة الثانية: القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات، وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ، وإليها الإشارة بقوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}.
والقوة الثالثة: الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن.
والقوة الرابعة: الغضب، وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب، فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع، لم تقدر على إلقاء الوسوسة، فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع، وهو وجه حقيقي شريف.
وثانيها: أن قوله: {لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه.
أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة.
وأما الأفعال: مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل، وإنما جعلنا قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} لشبهات التشبيه، لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها، فهي حاضرة بين يديه، فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساويًا لهذا الشاهد، وإنما جعلنا قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} كناية عن التعطيل، لأن التشبيه عين التعطيل، فلما جعلنا قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} كناية عن التعطيل.
وأما قوله: {وَعَنْ أيمانهم} فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} الترغيب في فعل المنهيات.
وثالثها: نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي.
أما من بين يدي فيقول: لا تخف فإن الله غفور رحيم.
فاقرأ {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالحا} [طه: 82] وأما من خلفي: فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر، فاقرأ {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] وأما من قبل يميني: فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وأما من قبل شمالي: فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
والقول الثاني: في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة، والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة، ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة ألبتة.
وتقدير الآية: ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل، ويقسم مالك، وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل»، وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.
فإن قيل: فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم.
قلنا: أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية، فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن.
وأما في الظاهر: فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر، فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليًا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان: الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة. والله أعلم.
المسألة الثانية:
أنه قال: {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} فذكر هاتين الجهتين بكلمة {مِنْ}.
ثم قال: {وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} فذكر هاتين الجهتين بكلمة {عَنْ} ولابد في هذا الفرق من فائدة.
فنقول: إذا قال القائل جلس عن يمينه، معناه أنه جلس متجافيًا عن صاحب اليمين غير ملتصق به.
قال تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان، ولم يحضر في القدام والخلف ملكان، والشيطان يتباعد عن الملك، فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة {عَنْ} لأجل أنها تفيد البعد والمباينة، وأيضًا فقد ذكرنا أن المراد من قوله: {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الخيال، والوهم، والضرر الناشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة، وذلك هو حصول الكفر، وقوله: {وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} الشهوة، والغضب، والضرر الناشئ منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية، وذلك هو المعصية، ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم، لأن عقابه دائم.
أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع، فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة {عَنْ} تنبيهًا على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول.
والله أعلم بمراده.
المسألة الثالثة:
قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال: إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه، لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق.
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} وفيه سؤال: وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ، فقال له على سبيل القطع واليقين.
وقال آخرون: إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازمًا على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات، وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقًا} [سبأ: 20] والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} فقال الحق ما يطابق ذلك {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وفيه وجه آخر وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة، وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية.
والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة، وهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية، وأما العقل فهو قوة واحدة، وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة لاسيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفًا جدًّا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك، لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} والله أعلم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}
روى أسباط عن السدي قال: من بين أيديهم الدنيا أدعوهم إليها {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الآخرة أشككهم فيها {وَعَنْ أيمانهم} قال الحق: أشككهم فيه {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} قال: الباطل أخففه عليهم وأرغبهم فيه.
وقال في رواية الكلبي: ثم لآتينّهم من بين أيديهم من أمر الآخرة، فأزيّن لهم التكذيب بالبعث بأنه لا جنة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فأزينها في أعينهم وأرغبهم فيها، فلا يعطون حقًا عن أيمانهم أي: من قبل دينهم فإن كانوا على الضلالة زيّنتها لهم، وإن كانوا على الهدى شبّهته عليهم حتى يشكوا فيه {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قبل اللذات والشهوات.
ويقال: معناه لآتينهم بالإضلال من جميع جهاتهم ويقال: {عَنْ أيمانهم} فيما أمروا به {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} فيما نهوا عنه.
ويقال: {وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي: فيما يعملون لأنه يقال عملت بذلك {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} يعني ذرية آدم لا يكونون شاكرين لنعمتك، ويقال شاكرين مؤمنين وقال في آية أُخرى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المؤمنين} [سبأ: 20]. اهـ.

.قال الثعلبي:

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآية.
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: {ثم لآتينّهم} من بين أيديهم يقول أشككهم في آخرتهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أن يُقيم في كتابهم {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} اشتبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أُشهّي لهم المعاصي.
روى عطيّة عن ابن عباس قال: أما بين أيديهم فمن قِبل دنياهم وأمّا من خلفهم فإنّه آخرتهم وأمّا من إيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم.
وقال قتادة: أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال الحكم والسدّي {لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: يعني الدنيا أدعوهم إليها وأُرغبهم فيها وأُزينها لهم. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبَل الآخرة أُشككهم وأثبطهم فيها. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق أصدهم عنه أبتلكم فيه، وعن شمائلهم من قِبل الباطل أُخففه عليهم وأُزينه لهم وأُرغبهم فيه.
وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، قال ابن جريج: معنى قوله: من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون.
وقال الكلبي: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قِبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقًّا وأُخوفهم الضيعة على ذرّيتهم.
{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قِبل دينهم فأُبيّن لكلّ قوم ما كانوا يعبدون وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قِبل الشهوات واللذات فأُزيّنها لهم.
وقال شقيق بن إبراهيم: ما من صباح إلاّ وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول: لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم، ويقول ذلك {لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتدى} [طه: 82].
وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].
وأما من قِبَل يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقول والعاقبة للمتقين.
وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قال الله عزّ وجلّ لإبليس. اهـ.